«بدو النقب» أم فلسطينيوه؟!
عبداللطيف مهنا عبداللطيف مهنا

«بدو النقب» أم فلسطينيوه؟!

كان لقانون برافر التهجيري ، الذي سحب إثر الغضبة الشعبية الفلسطينية الشاملة، خشيةً وتحاشياً من تحولها الى انتفاضة أيضاً شاملة حذرت منها تقارير أجهزة الأمن الصهيونية، الفضل في إعادة إكتشاف المآسي التي يكابدها فلسطينيي النقب تحت الإحتلال، والمكائد التي تنتظر مصائرهم، هم وسائر فلسطينيي المحتل من فلسطين إثر النكبة عام 1948، وليس فحسب في الضفة المحتلة والقطاع المحاصر، بالنسبة لأغلب اجهزة الإعلام العربية… إعادة اكتشافه ولو موسمياً، لأنها سرعان ماستنسى ما اكتشفته بعد سحب القانون لتعود من ثم لسالف نسيانها المريح.

 

وإذ اقول إثر الغضبة الشعبية وتحاشياً لانتفاضة شعبية، وهذ ما اشرت اليه أيضاً في مقال سابق، فأنا أيضاً استدرك هنا لأقول، إنني من أولئك الذين يتفقون مع القائلين بأن القانون سيىء الذكر ما كان ليسحب لولا رفضه من قبل غلاة صهاينة الكنيست لعدم رضاهم عنه لأنهم يريدون مخططات ترانسفيرية أكثر تطرفاً وفاشية منه، ثم أن الفشل في قوننة هكذا مخطط في مثل هذه المرة لن يؤثر على مسارات التهجير الإداري القائمة والمستمرة بلا توقف، كسياسة دائمة رافقت اختلاق الكيان الغاصب، وتتفق مع طبيعته الإستعمارية الإستيطانية الإحلالية، وكخادمة لاستراتيجية صهيونية لم ولن تتبدل أوتتوقف مادام هذا الكيان المفتعل قائماً، كما أن سحبه لا يعني توقف طرح مخططات شبيهة لاحقة قد تكون اكثر حظاً في مؤاتاة الظروف لإقرارها، أو حتى إعادة طرحه بذاته مرةً أخرى.

ما أنا بصدده هنا هو لفت الانتباه إلى اجترار أغلب اجهزة الإعلام العربية لذات المصطلح الذي حرص الصهاينة منذ النكبة على اطلاقه على فلسطينيي النقب المحتل وتعميمه وهو ”بدو النقب”، وذلك لهدفين، الأول جرياً على سياستهم الرامية إلى محاولة تقسيم فلسطينيي المحتل من فلسطين في العام 1948 ألى عرب ومسيحيين ودروز وبدو، والثاني للإيحاء بأن أهل النقب ومواطنيه هم بدواً رحلاً لا يعرفون استقراراً في الأرض التي كانوا يجولون فيها وبذا لا يمتلكون حقاً في ملكيتها، وبالتالي فإن سياسات تهجيرهم ومصادرة اراضيهم لا تعدو محاولات لإعادة تجميعهم وتوطينهم لا أكثر! والمعروف أنه ومنذ النكبة، ولتكريس مثل هذا الانطباع الزائف حرص المحتلون على إقامة مشهداً فلكلورياً في بعض الأماكن المنتقاة هناك ليراها السواح المستجلبون، كنصب خيمة بدوية يُربط امامها جملاً وفي ظلها امرأةً بزي تقليدي تطحن شعيراً على رحى…!

نعم، النقب، وهو ثلث فلسطين، كان قبل النكبة مأهولاً بقبائل عربية من اصول بدوية، ومنها خمس كبرى هي العزازمة والتياها والترابين والحناجرة والجبارات، لكنها جميعا مستقرة في حدود اراض تمتلكها وتعيش فيها، ومنها من كان وجوده سابق على الإسلام بقرون، بل ويمتد إلى مملكة ماوية، بل ويحدثنا التاريخ عن اسقف بدوي في تلك الديار في العهد الروماني، وتتشكل بعض القبائل في واقع الأمر من إتلافات من عشائر تنحدر من قبائل عربية مختلفة، وفي بعض الحالات ضمت من لاذ أو استجار بها في مرحلة من المراحل، كمجموعات من جيش ابراهيم باشا عندما هزمته القوى الإستعمارية واجبرت محمد على الإنكفاء إلى داخل حدود مصر، وبعضها ممن ارتدوا شرقاً في الحقب الأموية والعباسية والمنحدرين ممن رافقوا الولاة من قومهم عند عزلهم او استبدالهم بولاة جدداً، بيد أنهم جميعاً ملاكا لأراض توالدت اجيالهم وعاشت عليها ويزرعونها ويرعون مواشيهم فيها، والنقب، الممتد من وادي عربة حتى مشارف غزة ومن جنوبي الخليل حتى خليج العقبة وعاصمته بئر السبع، ليس جميعه بشبه الصحراء كما يوصف، أو وفق الإنطباع السائد، لقد كانت مصانع البيرة البريطانية، مثلاً، تتزود، كما هو معروف، من شعيرة في حقبة الإنتداب السابق على النكبة. ومن جانب آخر، اذا كانت البداوة أو الفلاحية أو المدنية هي صفة اجتماعية فإن الغالبية العظمى اليوم من الفلسطينيين هم من اجيال عاشت عبر عقود ما بعد النكبة وترعرعت في مخيمات اللجوء القسري داخل الوطن ومنافي الشتات، حيث يعيش ويتشارك ويتساوى في عذاباتها ابن يافا وحيفا وصفد الى جانب ابن النقب وابناء الارياف الفلسطينية المختلفة التي شرَّدت النكبة أهلها، بل وباستثناء بعض قرى الضفة ممن بقي لها قليل من ارض لم تهوَّد بعد ليس هناك الكثير ممن يمكن وصفهم بالفلاحين، وعليه لم يجد الفلسطيني أمامه من سبل لكسب قوته سوى التعليم، ولذا حاز الفلسطينيون، قبيل احتلال 1967 ، وربما حتى الآن، على أكبر نسبة متعلمين، بمعنى أقل نسبة أمية، في الوطن العربي. أما من تبقى في النقب بعد النكبة فقد أُخضعوا للتجميع في معازل قسرية، إلى جانب ال35 قرية التي أراد قانون برافر تهجيرهم منها، واجمالاً حوُّلوا مع الوقت، لانسداد سبل العيش المدروس، إلى عمال في المعامل والمستعمرات الصهيونية، وبذا لا يمكن وصفهم لا بالبدو ولا بالفلاحين.

…إن الإمعان في استخدام مصطلح ”بدو النقب”، وليس فلسطينييه، أو اصحابه ومواطنيه، لا يخدم إلا الدعاية والإستهدافات التهويدية الصهيونية، أو من يريدون سلبهم ارضهم وتشريد من لم يشرَّد بعد منهم، وتكرار هذا المصطلح ببغاوياً بوعي أو من دونه لا يخدم إلا المخططات البرافرية المستقبلية التي لن تتوقف مادامت فلسطين مغتصبة ولم يكنس الغاصبون منها ويعود اهلها إليها بعد أن تتحرر من نهرها إلى بحرها.


المصدر: نشرة كنعان