الغوطة الشرقية: فوضى فـي الصراع وتخمة جيوش
ليث الخطيب ليث الخطيب

الغوطة الشرقية: فوضى فـي الصراع وتخمة جيوش

منذ بداية الأزمة السوريّة، تغيّر المشهد في الغوطة الشرقيّة على نحو دراماتيكي: من احتجاجاتٍ شعبية واسعة، إلى تسلّح محلي وبسيط، ثمّ إلى ألوية وفصائل وجبهات، بعشرات الأسماء، تضم، إلى جانب المسلحين السوريين، آلاف الأجانب، وعناصر استخبارات من ارجاء العالم 

  للغوطة الشرقية قصّة طويلة مع السلاح. ليست الأزمة الراهنة الأولى التي تشهد فيها الغوطة صراعاً مسلحاً. فقد شكّلت أرضها، تاريخياً، ساحة للمعارك التي خاضتها دمشق، وكان آخرها في العقد الثالث من القرن العشرين، عندما اختارها وطنيو دمشق وريفها ساحة لمواجهة قوات الاحتلال الفرنسي، فكانت دوما، آنذاك، مركزاً للنضال الوطني المسلّح، وفيها تلقّى الجيش الفرنسي ضربات قاسية لا تزال ذاكرة الدمشقيين تحفظها حتى الآن.
لكن حرب اليوم أعقد بما لا يقاس: عشرات الفصائل المسلّحة على أرض الغوطة، تضم عشرات الآلاف من السوريين والأجانب، تخوض حرباً إقليمية كبرى، وحروباً صغيرة على هامشها: معارك ضدّ الدولة والجيش، وأخرى بين الفصائل المعارضة؛ بعضها معلن وبعضها خفي؛ ومنها العسكري والسياسي والأمني...

«ضربات ما قبل الأزمة»

تشكّل الغوطة الشرقيّة (400 كلم مربع) إقليماً جغرافيّاً ومناخيّاً موحداً، وينقسم سكّانها بين مهنتين أساسيتين: الزراعة، وصناعة الموبيليا والخشب.
إلا أن الطباع الفلّاحية، القاسية والبسيطة، تغلب على أهلها حتى اليوم. ويزداد هذا الأمر وضوحاً كلما توغّل المرء فيها مبتعداً عن العاصمة.
في السنوات القليلة التي سبقت انفجار الأزمة السوريّة، تلقّى أهالي الغوطة ضربتين قاسيتين: الأولى جاءت على خلفيّة التقارب التركي ــــ السوري، عندما سُمح للبضاعة التركيّة بغزو الأسواق السوريّة، وخصوصاً الأثاث المنزلي الذي اشتهر أهل الغوطة بصناعته وإتقانه، الأمر الذي أدّى إلى انهيار آلاف الورش، وتحوّل «صنايعييها» إلى عاطلين من العمل، وخلوّ ساحة العمل الحرفي الواسعة لقلّة من التجّار والسماسرة. والضربة الثانية عندما أصدرت الحكومة السورية، قبل الأزمة، قراراتٍ باستملاك أراضٍ زراعية في الغوطة، وخصوصاً في منطقة دوما، فأجهزت بذلك على ما تبقّى من وئام تاريخي بين أهل الغوطة والدولة التي كانت قد بُنيت لعقود خلت على أساس نهج الإصلاح الزراعي وحماية الصناعة الوطنية. فكانت الغوطة الشرقيّة من أولى المناطق التي ظهرت فيها الاحتجاجات الشعبية، بدءاً باعتصام دوما في 25 آذار 2011، الذي فضّه الأمن يومها بالقوة، لتليه سلسلة تظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف في بقية مدن الغوطة، حرستا وزملكا وجوبر وعربين وعين ترما وكفربطنا.

بدايات التسلّح... و«الجيش الحر»

سرعان ما انعطف مسار الاحتجاج السلمي إلى المواجهة المسلّحة مع أجهزة الدولة. كانت البداية على يد شخص يدعى عبد الغفور درويش الذي شكّل أول كتيبة مسلّحة في الغوطة باسم «كتيبة أبو عبيدة الجرّاح»، في 9 أيلول 2011، تحت مسمّى «الجيش الحر» الذي كان قد بدأ نشاطه فعلياً باستهداف التجمّعات والمقار الأمنيّة (ولم يكن الجيش السوري قد تدخّل بعد)، في حين تكفّلت بعض مجموعاته بـ«حماية التظاهرات»، أبرزها «مجموعة أبو سعيد عطايا» في جوبر. ويقول س. بلال، من جوبر، لـ«الأخبار»: «كانت حماية التظاهرات مسألة شكليّة أكثر من كونها فعليّة. ففي جوبر، على سبيل المثال، كانت التظاهرة أشبه بكمين، يجري استدراج الشبّيحة إليه، كي تقوم لجان حماية التظاهرات بالإيقاع بهم». ويروي، كمثال، حادثة جرت في مسجد جوبر الكبير. فقد «أُعلن في جوبر عن تشييع جثمان أحد الشهداء، وصُلّي عليه في المسجد.
وكالعادة، جاءت الحافلة التي تقلّ عناصر الأمن الذين يفترض أن يمنعوا تحوّل التشييع إلى تظاهرة، فجرى استدراجهم وراء الجنازة إلى كمين، وانقضّ عليهم مقاتلو حماية التظاهرات من أسطح البنايات المجاورة، فقتلوا معظمهم وجرحوا الباقي. وتبيّن لاحقاً أن النعش كان خالياً».
تدخّل الجيش السوري في الصراع، وبدأت المواجهات، يومها «تلقّى مسلّحو الجيش الحر ضربات قاصمة، وظهر فارق الحجم والتنظيم والخبرة. فمسلّحو الحر أشبه بهواة أمام الجيش النظامي، ومعظمهم مدنيون من متظاهري الأمس لا يجيدون سوى المحاجرة (أي التراشق بالحجارة والمولوتوف مع عناصر الأمن)».
استدعى ذلك «تشكيل المجالس العسكريّة والمحليّة، والتركيز على استقدام الدعم المالي، والتشجيع على الانشقاق عن الجيش». وبالفعل، أتت محاولات التنظيم ثمارها، فتحسّن أداء «الجيش الحر» العسكري في مختلف أرياف دمشق. ولكن، في المقابل، حصل تحول نوعي، إذ «فقدت الثورة معظم المتظاهرين الأوائل، دعاة الحرية الأصيلين»، يقول حسام سلامة (معارض مدني) ناعياً «الثورة».
ويضيف: «خسرنا في البداية أبناء البلد (الغوطة) الذين استشهدوا في التظاهرات، من المنظمين والقادة والعقول المدبّرة، حتّى اضطررنا إلى اللجوء إلى الدعم. فتقدّم كل الانتهازيين الذين يَجرون عادةً وراء كل عمليّة تمويل.
وأخيراً دخل الإسلاميون على الخط. ومنذ اللحظات الأولى، كان هؤلاء يدفعون بالثورة إلى التسلّح سعياً لاستقدام تدخلٍ عسكري دولي». نتيجة كل ذلك، برأي سلامة، أُقصي أبناء الغوطة الذين كان انتماؤهم الأساسي للشعب، وحلّ محلّهم الأجانب أو السوريون المنتمون إلى الأيديولوجيا الإسلامية، أكثر من انتمائهم إلى سوريا. «كل من كنت أعرفهم من المتظاهرين في بداية الاحداث، إما شهداء أو معتقلون أو خارج البلاد أو في بيوتهم»، يضيف. أما الوافدون الجدد إلى المعارضة، فشكّلوا «ألويتهم» في الصفوف الخلفية للجبهة، يقول «أبو أحمد»، أحد مقاتلي «الحر»، فيما «كان الجيش الحر يقاتل في الصفوف الأمامية»، وسلكوا مسلك «جبهة النصرة» في الاقتصار على العمليات المحدودة التي تستجلب أكبر دعم مادي ممكن. «فالعمليّة بالنسبة اليهم عبارة عن قذيفة أر بي جي، ومصور فيديو، وتكبير. كل فيديو كهذا يغدق عليهم مئات ألوف الدولارات من شيوخ وأمراء الخليج».
ويروي «أبو أحمد» أن أحد قادة المجموعات المسلّحة في حرستا، من «لواء فتح الشام»، ويدعى أبو المهنّد، كان يهاجم حواجز الجيش من دون أن يحرز أي تقدّم، وعندما عرُض عليه الدعم بفصيل من «الجيش الحر» رفض، مهدداً إياهم بالقتل إذا ما اقتربوا من منطقته، ليتبيّن لاحقاً أن الرجل يراوح في المكان ذاته عن قصد، إذ إن هذا الأمر يجلب له ولمجموعته المزيد من الدعم. وبوصول «الدعم»، دخلت الغوطة زمن «الألوية».
«الألوية»... بقيادة «جيش الإسلام»
كلمة «لواء» تشير، سياسياً، إلى جماعة «الإخوان المسلمين». و«الألوية» هي الأكثر انتشاراً في الغوطة الشرقيّة اليوم، وأبرزها «لواء الإسلام» (تحوّل لاحقاً إلى «جيش الإسلام» بعد تحالفه مع تشكيلات أخرى) في معظم مناطق ريف دمشق، وخصوصاً في دوما.
وفي جوبر: كتيبة «هارون الرشيد» التابعة للواء «الحبيب المصطفى»، إضافة إلى «لواء شام الرسول». وفي حرستا: ألوية «درع العاصمة» و«فتح الشام» و«أم القرى» و«شهداء دوما». وفي زملكا: لواء «تحرير الشام». وفي عربين: لواء «شهداء الغوطة». وفي المليحة: لواء «سعد بن عبادة الخزرجي». أمّا لواء «أحفاد الرسول» فوجوده الأساسي في مدينة داريّا، في الغوطة الغربيّة.
يعد «جيش الإسلام» أبرز تنظيم عسكري في الغوطة الشرقية، مركزه في دوما، وهو الأكثر دعماً وتسليحاً. وعلى رغم أن زعيمه زهران علوش يزعم بأن 90% من تسليح جيشه هو نتيجة «الغنائم» التي كسبها من صراعه مع الجيش السوري، إلا أن مصادر مقرّبة من هذا «الجيش» تؤكد علاقته الوثيقة مع السعودية. فعلوش (43 عاماً) هو ابن الداعيّة السلفي عبدالله علوش، ودرس الشريعة في السعودية، وآخر زياراته لها كانت في عيد الأضحى الفائت، حيث ذهب «لتأدية فريضة الحج»، على حد زعمه.
وبحسب المتابعين فإن «جيش الإسلام» يؤدّي الدور المحوري في الغوطة الشرقية، من خلال هيمنته على أمرين أساسيين، الأول: الدعم المالي، إذ تؤكد مصادر من «الألوية» والفصائل المسلّحة الأخرى أن الدعم المالي يصل بمعظمه عبر «جيش الإسلام»، ومنه يستمد النفوذ العسكري والوزن الإعلامي. ويقول ف. الأسعد، من «الجيش الحر» في العسالي، لـ«الأخبار»: «توقف الدعم الذي كنّا نتلقاه من المجلس العسكري، فطلبنا الدعم من «جيش الإسلام»، واستغرق ردّهم 3 أسابيع، ليعودوا ويطلبوا منا أن تُسمّى كل عمليات الكتيبة باسم جيش الإسلام في منطقة العسالي، مقابل دعم الكتيبة، فوافقنا».
الامر الثاني: دوره الاستخباراتي واللوجستي، إذ يؤكّد مقربّون من «جيش الإسلام» أنه ومن خلال امتلاكه لكم هائل من المعلومات يتمكّن من التحكم بمسار العمليات في الغوطة الشرقية، «فلديه معلومات دقيقة عن بنية المعارضة المسلّحة، ودراسات مفصلة عن عناصرها، بالإضافة إلى معلوماته الخاصة عن أجهزة الدولة وتحركات الجيش السوري».
وهذا الأمر يؤكّد، بحسب متابعين، أن أجهزة استخبارات إقليمية ضالعة في تزويده بالمعلومات العسكرية والأمنيّة، الكفيلة بإعطائه دوراً متميّزاً عن الفصائل الأخرى. وبالتالي فإنّ «جيش الإسلام» يشكّل غرفة عمليات كبرى للمعارضة المسلحة في ريف دمشق، أكثر من كونه قوّة عسكرية على الأرض، ويستمد صيته الواسع من كونه يدعم الفصائل المسلّحة الأخرى بالمال والمعلومات مقابل تسمية عملياتها باسمه.
اليوم، وبعدما صار العنف المسلح هو السمة الرئيسية لـ«الثورة» في سوريا، صارت الغوطة الشرقية توصف بـ«معقل جيش الإسلام».
وهذا «الجيش» لم يتمكن بعد من فك حصار الجيش السوري عن الغوطة. معارك قاسية خاضها خلال الأسابيع الماضية، فتمكن، مع «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» وغيرهما، من السيطرة على عدد من البلدات، قبل أن يشن الجيش السوري هجوماً معاكساً تمكن فيه من وقف تقدم المقاتلين المعارضين، واستعادة بعض ما خسره.
وفي الغوطة أيضاً، يُتّهم مقاتلو «جيش الإسلام» بارتكاب مذبحة بحق المدنيين في مساكن عدرا العمالية الأسبوع الماضي. المعركة الدائرة حالياً ستّحدد مصير «جيش الإسلام»، وستضع الغوطة امام خيارين: إما أن يحولها الجيش السوري إلى خط الدفاع عن مدينة دمشق بعد تدمير «جيش الإسلام»، أو أن يحوّلها زهران علوش ورفاقه إلى ساحة انطلاق لتهديد وجود النظام في عاصمته.

 

«الدولة الاسلامية»

تنظيم «الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» سجّل حضوراً محدوداً في أرياف دمشق، وفي مخيم اليرموك أكثر من مرّة. ولم يسبق له أن أعلن عن أيّ تواجد له في الغوطة الشرقيّة، إلا إن حوادث عدّة أكدت وجوده هناك، كمقتل أحد قيادييه في الغوطة الشرقيّة، ويدعى أبو سليمان الأنصاري، وإعلان التنظيم عن مقتل 10 سعوديين منتمين إليه في أراضي الغوطة الشرقيّة، في تشرين الثاني الماضي.

 

«جبهة النصرة»: رديف للألوية

تعدّ بلدتا يلدا وببيلا المعقل الأساسي لـ«جبهة النصرة» ومقر قيادتها في ريف دمشق. ومع ذلك يتواجد التنظيم في كل مناطق الريف تقريباً، ومنها الغوطة الشرقية. ويعود انتشار التنظيم على مساحة جغرافية واسعة في الريف، بحسب أبو أحمد، الى «الغزل الخفي بينه وبين جيش الإسلام»، فلا تمر فرصة من دون أن «يبدي علوش إعجابه بتنظيم النصرة، زاعماً أن الخلافات بينهما تنحصر في الإطار الشرعي والديني، والذي يمكن حلّه بالشورى والنقاش».
وفي رأي أبي أحمد، السبب الحقيقي وراء هذا الغزل سياسي وعسكري في الجوهر، «فجبهة النصرة، أينما حلّت، أساء وجودها إلى الجيش الحر، وهو أقل تنظيماً وتلقياً للدعم منها»، والدليل أن «أوساط جيش الإسلام ومحاكمها الشرعية على اتفاق تام مع منهج النصرة: الحكم الإسلامي، والمحاكم الشرعيّة، والإسلام مصدر التشريع الوحيد. أما الفوارق اللفظية بين الطرفين فلا تعدو كونها لغواً مقصوداً، الغاية منه تقاسم الأدوار بين الإخوان (جيش الإسلام) وتنظيم القاعدة الذي تمثله النصرة». وبالرغم من التواجد الضئيل لـ«جبهة النصرة» في الغوطة الشرقيّة إلا أنها «تضرب بسيف جيش الإسلام»، وتملي على الكتائب والفصائل الأخرى ما يجوز فعله، وما لا يجوز. ويلعب هذا التنظيم دوراً كبيراً في منع أي توافق أو تسوية قد تفرضها الضرورات على الأرض، يضيف أبو أحمد: «مرّت فترة ساد فيها الهدوء على الخطوط الأمامية في القابون، فلا الجيش كان ينوي التقدم، ولم نكن نحن لنطمح الى أكثر من الهدوء. فجأةً بدأت التهديدات تصلنا عبر أجهزة اللاسلكي من عناصر «النصرة» داخل القابون، بأنهم سيقتصّون من كل من يقوم بالتهدئة على جبهته، الأمر الذي كاد أن يتحول إلى مواجهة جديّة بيننا وبينهم».

 

تسميات ليست عسكريّة

 

بحسب المتابعين، فإن كلمات مثل «لواء» و«كتيبة» و«سرايا»... هي ذات مدلول ديني ــــ تاريخي، وليس عسكرياً، بمعنى أنها ليست توصيفاً لحجمٍ وعتادٍ معيّنين، كما درجت العادة في الجيوش النظاميّة، بل هي استحضار لأسماء التشكيلات العسكريّة في أيام الدولة العربية الإسلامية. فحوالى 10 أشخاص يمكنهم الإعلان عن تشكيل كتيبة، في حين أن الكتيبة في جيش نظامي، كالجيش السوري مثلاً، يبلغ تعدادها حوالى 500 شخص، وقائدها لا يجوز أن يكون برتبة أقل من مقدّم، في حين أن أعلى رتبة في معظم كتائب المعارضة المسلّحة لا تتجاوز رتبة ملازم. وعلى هذا الأساس توجد على أرض الغوطة الشرقيّة مئات الأسماء لفصائل وكتائب، في حين يبلغ تعداد المسلّحين، بحسب مصادر معارِضة، في كل أرياف دمشق بين20 إلى 30 ألف مقاتل، نصفهم تقريباً في الغوطة الشرقيّة.

المصدر: الأخبار