هدف التجسس الاقتصاد أم الارهاب؟

هدف التجسس الاقتصاد أم الارهاب؟

لم تفلح تطمينات الرئيس اوباما بالإيحاء تارة والمداراة تارة اخرى بتعرضه لخذلان المؤسسة الأمنية ومسؤوليها لتفادي الانتقادات المتزايدة، واستبق التحرك قبل بدء تدحرج كرة الثلج لتهدئة مخاوف الحلفاء الاوروبيين والداخل الاميركي. وسارعت وزارة الخارجية الاميركية (31/10) للإعلان عن جولة واسعة عاجلة يقوم بها جون كيري تشمل دولا اوروبية وعدد من الدول العربية و"اسرائيل،" بغية استيعاب تداعيات التجسس على عدد من الزعماء، وعلى رأسهم المستشارة الالمانية انغيلا ميركل.

واعترف وزير الخارجية بالتزامن مع الاعلان عن جولته بتجاوز وانتهاك الاجهزة الأمنية لصلاحياتها، مستدركا انها حدثت "دون علم المسؤولين الرئيسيين" في الادارة الاميركية. وقال "هناك جهود لتجميع المعلومات، نعم، على نحو غير ملائم في بعض الاحيان .."

ايضا، رافق اعتراف جون كيري دعوة مجموعة من كبريات شركات الاتصالات في اميركا الى تبني "اصلاحات جذرية" في برامج التجسس الداخلي تعزز اجراءات الرقابة والشفافية، على ضوء كشف وثائق ادوارد سنودن عن اختراق وكالة الأمن القومي للكوابل الضوئية التي تربط اجهزة شركتي ياهو وغوغل بمختلف مناطق العالم والتنصت على المعلومات الهائلة التي تمر عبرها يوميا.

جهود التنصت والتجسس الاميركية على نحو 35 من زعماء العالم اعاد للواجهة ماهية طبيعة ومهام وكالة الأمن القومي، التي برزت شهرتها على خلفية زعمها انها تتصدى للارهاب وحصدت معلومات ضخمة وشديدة الخصوصية لعدد كبير من الافراد والمجموعات، لسس آخرها التنصت على زعماء اسبانيا ورصيد ضخم من المكالمات الهاتفية التي جرت في الجزيرة العربية. يجري توجيه سهام خصومها في المؤسسات الاعلامية المختلفة بانها ركزت جهودها على نواحي اخرى تتعدى ادعاءها بمكافحة الارهاب.


نطاق وانعكاسات التجسس على المنطقة العربية والمحيطة


لا يساور احدا الشك بأن الوكالة ماضية قدما في مراكمة كميات هائلة من البيانات في كافة اركان المعمورة، التي قدرت بما ينوف عن 124.8 مليار محادثة هاتفية لشهر كانون الثاني / يناير 2013 فقط. واشار الموقع المختص بتتبع الوثائق الحكومية والتجارية المنشورة، كريبتوم Cryptome، ان الجزء الاكبر من تلك المكالمات كان مصدرها افغانستان (21.98 مليار) وباكستان (12.76 مليار) و (7.8 مليار) لكل من العراق والجزيرة العربية، ومصر (1.9 مليار) وايران (1.73 مليار) والاردن (1.6 مليار)؛ فضلا عن ترصد الوكالة لنحو 70 مليون محادثة هاتفية في فرنسا لذات الفترة.

واوضحت مجلة بانوراما الايطالية ان جهود التنصت على الهواتف الخاصة طالت الفاتيكان ابان الخلوة السرية لانتخاب بابا جديد، واتهمت المجلة الولايات المتحدة بالتنصت على المكالمات الهاتفية الواردة والصادرة عن الفاتيكان، والتي شملت ترتيبات الاقامة للكاردينال خورخي ماريو بيرغوغليا قبل انتخابه البابا فرانسيس.

تقرير المجلة اتى عقب كشف "كريبتوم" عن اعتراض الولايات المتحدة نحو 46 مليون مكالمة هاتفية تمت على الاراضي الايطالية بين شهري كانون الاول 2012 وكانون الثاني 2013، والتي تضمنت مكالمات الفاتيكان في الاتجاهين. واردفت بانوراما ان "المخاوف تسود المعنيين لاستمرار تنصت الآذان الاميركية على محادثات الاساقفة وصولا الى انعقاد الخلوة .. هناك شكوك بأن المحادثات التي اجراها البابا القادم قد تم رصدها والتنصت عليها."

ما تم التوصل اليه من انتهاكات الوكالة الاميركية لخصوصيات الشعوب المختلفة، ورصد زعماء محددين من بينهم المستشارة الالمانية والبابا والناس العاديين، يطرح سؤالا في الاوساط الاميركية حول صلب مهمة التجسس. اذ تبين بالدليل القاطع ان جهودها واولوياتها ليست منصبة على مكافحة المجموعات الارهابية كالقاعدة او الدول التي ترعى الارهاب، كما تزعم؛ وليست منصبة كذلك على الدول التي تمتلك اسلحة الدمار الشامل، كما يُظن.

الاعتقاد السائد كان ينظر الى قيام الوكالة بالتنصت على وسائل الاتصالات للدول غير الديموقراطية، كما رُوّج منذ التبشير ببداية القرن الاميركي. وعليه، كان ينبغي استثناء الحكومات الديموقراطية المنتخبة من شباك التجسس. اذا استثنينا تعليل الوكالة والاجهزة الاميركية الرسمية بان اولوية المهام هي "نشر الديموقراطية ومكافحة الارهاب الدولي،" فما هي المهام الاخرى المنوطة بالوكالة. معدل الكشف عن موجة واسعة من جهود التجسس على المانيا، تحديدا، تجاوز نطاقها الجهود المبذولة لتعقب الصين والعراق والجزيرة العربية. اذ اوضحت يومية "دير شبيغل" واسعة الانتشار ان احدى وثائق الوكالة السرية التي اطلعت عليها تضع المانيا في مرتبة "الطرف الثالث للشراكة الاجنبية،" غير مؤهلٍ للاستثناء التجسسي كما هو الامر حصرا للدول الحليفة لاميركا والناطقة باللغة الانكليزية: بريطانيا، استراليا، كندا، ونيوزيلندا. (بمعنى آخر استثناء "العرق الانجلو ساكسوني").

ومضت اليومية الالمانية بالقول يبدو ان الولايات المتحدة رمت للحصول على معلومات من خلف الستار للمفاوضات التي كانت تجريها المستشارة انغيلا ميركل مع زعماء اوروبيين آخرين حول الاجراءات المصرفية المرغوب اتخاذها والتي من شأنها التأثير على مستقبل العملة والاقتصاد الاميركيين. في هذا الصدد، اوضحت "بانوراما" الايطالية  ان احد اهداف تنصت وكالة الامن القومي كان للتعرف على "التهديدات الماثلة امام النظم المصرفية."

الولايات المتحدة مسكونة بهاجس احتوائها وسيطرتها على الجميع، خاصة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. في مرحلة الحرب الباردة في المانيا، مثلا، تعهد المستشار غيرهارد شرودر بتنفيذ مشروع مشترك مع الروس (الاتحاد السوفياتي) لخط انابيب ينقل الغاز الطبيعي من اراضي مدينة فايبورغ الروسية مرورا ببحر البلطيق ليصب في مدينة غرايفسوالد الالمانية. عقب انتهاء ولايته كمستشار، تربع شرودر على منصب رئيس اتحاد شركات غازبروم، باغلبية روسية، والتي انجزت خط الانابيب. ولا يخفى على احد المكانة المتقدمة للاسواق المصرفية الالمانية والتي تعد من اولويات التحكم بها لكل راغب في بسط الأمن الاوروبي.

تبرز بعض التوترات المالية بين الولايات المتحدة والمانيا، من حين لآخر، وبصورة خاصة ما يتعلق بمخزون الذهب الالماني المودع في الاقبية المخصصة لحفظ الذهب لدى فرع البنك المركزي (الفيدرالي) في نيويورك. اختلال التوازن الاقتصادي بين دول جنوبي القارة الاوروبية، اليونان وقبرص واسبانيا وايطاليا، والدول الاخرى شكل عاملا ضاغطا على قيمة عملة اليورو الموحدة. متانة الاقتصاد الالماني على الدول الاروروبية الاخرى عزز موقع المانيا للعب دور العامل الحاسم في بلورة اقتصاد الاتحاد الاوروبي، مما قد يتطلب منها بيع بعض من ممتلكاتها من الذهب وتوفير السيولة المالية المطلوبة.

قبل فترة وجيزة، اشار البنك المركزي الالماني الى نيته تحريك مدخراته من الذهب المودعة في نيويورك، يقدر قيمته 36 مليار دولار مما يشكل نحو نصف احتياطيها من الذهب، من خزائن نيويورك الى خزائن البنك المركزي "بونديسبانك" في مدينة فرانكفورت. الطلب الالماني ووجه بصمت وتحفظ الحكومة الاميركية للموافقة على تحويل الذهب، بل اجاب البنك المركزي الاميركي (الاحتياطي الفيدرالي) بأنه لا يستطيع البت في عملية التحويل والتي قد تستغرق نحو 7 سنوات (2020) لانجازها. وسارع الجانب الالماني الى طلب زيارة المصرف الاميركي والاطلاع على مدخرات بلاده وجردها للتيقن من وجودها فعلا، ورفضت الحكومة الاميركية السماح لالمانيا فحص مخزونها من الذهب عللتها باسباب "أمنية .. وعدم جهوزيتها لاستقبال الزوار."
(المصدر: http://www.spiegel.de/international/germany/german-politicians-demand-to-see-gold-in-us-federal-reserve-a-864068.html)

وبعد سلسلة نقاشات مطولة استطاع وفد الماني مختص زيارة فرع البنك المركزي في نيويورك وسمح له بدخول بهو الخزنة ورؤية 5 او 6 سبائك ذهبية "نموذجا للاحتياط،" ولم يسمح له ابعد من ذلك. وعاد الوفد في زيارة ثانية "سُمِحَ" له بالدخول لغرفة واحدة من مجموع 9 غرف لحفظ الاحتياط ورؤية عينة من سبائك مكدسة لكن لم يسمح له بالدخول التام او اللمس.

وعليه يتضح ان التنصت على هاتف المستشارة الالمانية يتيح للولايات المتحدة التعرف على موجة المناورات المالية الدائرة بين اقطاب الاتحاد الاوروبي، وتوفير معلومات اساسية للبنك المركزي الاميركي حول نوايا المانيا المقبلة لاستعادة احتياطيها من الذهب.


التجسس في جزيرة العرب


اما عملية التجسس المتشعبة في الجزيرة العربية فتدل على عدد من الاهداف "بالاضافة الى الارهابيين." فالسعودية كمنتج اساسي للنفط تبقى في دائرة الاستهداف كقطب اقتصادي لاطلاع الحكومة الاميركية على نواياها فيما يخص تحديد الاسعار وحجم الانتاج قبل الآخرين. كما ترمي الى ترصد اي تحرك او نية للسعودية بتحريك مدخراتها واصولها المالية بالدولار، سيما وانها منذ زمن طويل اعتمدت الدولار الاميركي كمقياس لآلية الاسعار مما يكثف الطلب الدولي على العملة الاميركية.

على الرغم من التناغم الوثيق بين السياسة التي تنتهجها السعودية والاهداف الاميركية، الا ان ادارة الرئيس اوباما تنوي الاطلاع عن كثب على تبلور عناصر السياسة الخارجية السعودية ونواياها المقبلة، يعززه قرار السعودية الاخير باقصاء نفسها عن اعتلاء مقعد في مجلس الأمن الدولي كرسالة احتجاج والابتعاد عن السياسة الخارجية الاميركية في الاقليم.

راهنت السعودية بقوة على صلابة الدعم الاميركي لموقفها فيما يتعلق بالصراع على سورية والبرنامج النووي الايراني، وافصحت بعيدا عن الكياسة الديبلوماسية المعتادة عن عدم رضاها للتحول الاميركي بالاتفاق مع روسيا وترجيح الحل السياسي في سورية، وفي الجانب الآخر غضبت ايضا للانفتاح الجزئي على ايران، وغياب خيار التدخل العسكري الاميركي في الحالتين. وتبقى آلية التجسس على وسائل الاتصالات احدى الآليات المعلوماتية حول الحراك الداخلي في الاسرة الحاكمة لاعانة صناع القرار الاميركي في توفير المرشح الاوفر حظا لخلافة العاهل السعودي المريض، ورسم آفاق سياساتها المقبلة.

فيما يتعلق بالتنصت على الساحة السورية، اهداف وكالة الأمن القومي تجاوزت مجرد معرفة الاتصالات الديبلوماسية والعسكرية السعودية، لتمرير ما ترغب به من شذرات معلوماتية لمجموعات غير منحازة للسعودية او لحلفائها في المعارضة السورية. قيمة المعلومات قد تحدد الحاق هزيمة عسكرية بحلفاء السعودية في سورية او نصب كمائن لقواتها المسلحة. كما تعزز الاختراقات فرص اعتراض شحنات الاسلحة الى المعارضة السورية او الدعم المالي.

توضح الوثائق المسربة ان جهود التنصت الهائلة توضع في خدمة عدد من المصالح القومية، تتضمن السياسات الاقتصادية والخارجية. وبناءاً على محتويات ما رشح من الوثائق، ينبغي على المسؤولين والعامة على السواء اتخاذ اقصى درجات الحيطة والحذر خلال التعامل بالوسائط الاليكترونية، اذ انها ستجد طريقها الى الجانب الاميركي حتما.


كيف نحافظ على خصوصية المعلومات


لتعميم الفائدة، نستعرض بعض الاجراءات التي يمكن القيام بها لتضييق فرص الاختراق التي مصدرها وكالة الأمن القومي وليس التغلب عليها بالضرورة. فالوكالة تستند في انجاز عملها التجسسي على خاصيتها المميزة في قدرتها الفائقة على اعتراض كافة الاتصالات الالكترونية والهاتفية وعرضها على اجهزة الكمبيوتر الضخمة لتحليلها ورسم نماذج محددة واستخلاص بعض الاهداف.

-    تجنب وسائل الاتصالات الالكترونية قدر المستطاع، والعزوف عن استخدام الهاتف والبريد الالكتروني والرسائل النصية والارسال بالمسح الضوئي (الفاكس)، واستخدام طرق بديلة كالبريد العادي سيما وان اختراق آلياته تتطلب أمرا قضائيا لمضي الاجهزة الأمنية في انجاز اعتراض المرسل.

-    ينصح العودة لاستخدام الآلات الكاتبة للمحادثات الخاصة، وتصويرها ان تتطلب الأمر شريطة التيقن من خلو "لوحة جهاز التصوير" من ترسبات كامنة بتشغيلها لاستنساخ بضعة اوراق فارغة.

-    العودة لارسال الرسائل عبر دائرة البريد او مؤسسات تجارية تقدم خدمة صندوق بريد لتقليص امكانية الاعتراض، واستلام الرسائل بطريقة مماثلة.

-    عند استخدام دائرة البريد، يفضل اعتياد عدد من الدوائر وليس موقعا ثابتا لارسال واستلام البريد لتعزيز الخصوصية.

-    التعود على استخدام خدمة السعاة، افرادا او شركات متواضعة، كوسيلة بديلة لارسال الرسائل البريدية او الالكترونية – شريطة تفحص مسلك الوسيط والثقة به. يجب ان يكون معلوما ان وكالة الأمن القومي تحتاج لأمر قضائي لاعتراض الساعي الوسيط، والذي يستغرق جهدا اضافيا، والادراك ان الوكالة لا تألو جهدا لاعتراض مراسلات المشتبه بهم، بيد ان المقترح يدخل في تعزيز الشعور بالأمان للفرد العادي.

-    وينبغي على الدوائر الرسمية بلورة نظام مراسلات خاص بين دوائرها المختلفة عوضا عن استخدام البريد الالكتروني او الاتصالات الهاتفية. فعلى سبيل المثال، يحظر على المسؤولين الرسميين في "وزارة الدفاع الاسرائيلية" التعليق على اي أمر يندرج تحت بند السرية باستخدام الهاتف، وحتى المشفر منها. وتوضح يومية "معاريف" ان المعلومات السرية يجري تداولها عبر مغلفات مغلقة مختومة بالشمع.

-    تقنية الاقراص المدمجة توفر قدرا لا بأس به من اليقين، بخلاف تقنيات الذاكرة المحمولة USB. وينبغي استخدامها لتخزيم معلومات الكترونية باستخدام جهاز غير مشبوك بالشبكة العالمية.

-    وعي المستخدم خارج الولايات المتحدة ينبغي ان يستند الى ادراك اعتراض البعثات الديبلوماسية الاميركية لكافة الاتصالات الالكترونية المحلية.

-    الوعي الدائم لطبيعة واختصاص وكالة الأمن القومي بقطاع الاتصالات، بينما هناك اجهزة استخباراتية اميركية اخرى معنية بالاستدلال على المعلومات وترشيح مجندين للخدمة في صفوفها والتي تحصل على حصتها ايضا من التقدم التقني ووسائط اختراقه. في هذا الصدد، ينبغي ادراك دور الاقمار الاصطناعية المختلفة كوسيلة رصد وتجميع للمعلومات، والتي تستهدف دولا سيادية متعددة، منها ايران وسورية وكوريا الشمالية، ولا تستثني روسيا والصين ودول البريكس الاخرى او الدول الصديقة والحليفة للولايات المتحدة.

 
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية