من رامبو إلى كيلو: عن المثقّفين والقوّادين والخونة
سيف دعنا سيف دعنا

من رامبو إلى كيلو: عن المثقّفين والقوّادين والخونة

 







«أيّها المُصابون بالسفلس، يا مجانين، يا ملوكُ، يا دُمى، يا مِقْماقون ما يهمّ باريس (ودمشق) من أرواحكم وأجسادكم، من سمومكم ورممكم؟ لسوف تنفضكم عنها، أيها الأفظاظ العفنون». «آرتور رامبو»، غداة فاجعة أسبوع كومونة باريس الدامي.
سقط خيار العدوان على عاصمة المشرق العربي، فتكسّر حلم برهان غليون وميشال كيلو وشركائهما من الوهابيين والقاعديين والتكفيريين بدخول دمشق على ظهر دبابة أميركية. غاب العقل، وانعدم الضمير. تَمَلَّكَهُم الغرور للحظة وهم يشاهدون ذلك الرئيس الأسود المصاب مثلهم بعارض ولوثة «الأنكل توم» يُلوِّحُ ببأس مارينز اليانكي الأبيض، فتطوّع كيلو بن بندر شخصياً ليس فقط لإعلان شروط استسلام دمشق، بل واستسلام روسيا والعالم كله لبساطير الشر. اختلط الأمر على هذا المقماق في لحظة دونكيشوتية فتخيّل نفسه للحظة الجنرال دوغلاس ماك آرثر يلقي شروط الاستسلام المذلّة على اليابان، ولم ينتبه إلى كل ما حصل في العالم منذ أيلول 1945 حتى أيلول 2013.
أما السوسيولوجيست، الأنوي، مسيو غليون، فلقد أثبت بمحاولة تبريره للعدوان فقدانه للخيال السوسيولوجي والحس السياسي والتاريخي، حتى لا نتحدث عن حس وطني وقومي وإنساني. «الضربة للنظام والنظام عدو الشعب»، قال على «الجزيرة» في 9/9/2013. هكذا، وبطريقة استدلالية صبيانية، وبأسلوب تحريفي مكشوف للقياس المنطقي، أصبحت أكثر الإمبراطوريات دموية في التاريخ صديقة ومحبة للشعوب وعدوة للأنظمة والاستبداد (طبعاً قرأت أرسطو يا دكتور، أليس كذلك؟). هكذا إذاً يُبرر العدوان، وكأن نتائج الحملات العسكرية تقاس فقط بالخسائر المادية المباشرة، لا بالتبعات السياسية والتاريخية البعيدة المدى والعلاقات السياسية والاقتصادية التي تؤسس لها مثل هذه الحملات العدوانية، والتي لن تكون في هذه الحالة أقل من رهن مستقبل سوريا والمنطقة ووضعهما تحت وصاية بساطير مرتزقة المارينز لسنوات طويلة. هذه المحاولة ليست عن شخص بعينه، هي تكرار لفكرة وتذكير بدور فقط. هذه المحاولة هي عن الظاهرة وليس الأشخاص.


جدلية التعليم والاستعمار: بين التجنيد والتطوع


«تعليم بهدف الإبادة» لدافيد والس آدامز (1995) هو كتاب يُفصح عنوانه عنه وعن محتواه، يقول المفكر العربي منير العكش في كتابه «أميركا والإبادات الثقافية» _ كتاب آخر يفصح عنوانه عن محتواه العميق. أذكر الكتابين هنا اختصاراً للتعبير عن الدور الخطير وحتى الوجودي للمعرفة والثقافة والمثقفين خصوصاً في الصراعات الكبرى، وأيضاً للإضاءة على جدلية التعليم الغربي وآليات استدخال الهيمنة. فهذان الكتابان ينتميان إلى أدبيات تتزايد عن تاريخ مرحلة بشعة من تاريخ الرجل الأبيض وهما أكثر من شهادة على الوحشية غير المسبوقة التي ارتكبت ضد عقول وقلوب الآلاف من أطفال السكان الأصليين في أميركا الشمالية الذين أجبروا بالقوة على التعلم في المدارس الداخلية بين أعوام 1875 ـــ 1928. هذه المدارس، كما يخبرنا الكاتبان، اعتمدت مناهج وأساليب مصممة بعناية لخلق جيل من أحصنة طروادة في الحرب الشرسة لإخضاع الهنود في أميركا وتجريدهم من هويتهم وهنديتهم وإنسانيتهم. اللافت في تجربة هذه المدارس ليس وقوف الحكومة الفيدرالية وراءها، فهذا ليس خبراً، بل وقوف «مكتب الشؤون الهندية» الذي يتولى رئاسته والعمل فيه هنود شاركوا بفعالية في حصار وتجويع وقمع أهلهم القابعين في المحتجزات واختطاف أطفالهم بالقوة وإلحاقهم بمدارس ومزارع الرجل الأبيض، حيث تمارس ضدهم أبشع أنواع الجراحة الدماغية واستئصال الهوية وحتى الاستغلال الجنسي البشع لجيل كامل من الهنود.
تذكرت الكتابين وأنا أشاهد أكاديمياً فلسطينياً يعمل في الغرب يدافع على «الجزيرة» عن العدوان على سوريا (ويدفع إليه أيضاً لأن الإدارة الأميركية كانت بانتظار تحليله الفذّ على أحرّ من الجمر) باسم القيم الأميركية العظيمة، مؤكداً أنّ العدوان هو امتحانها العظيم. حالة هذا الأصْنَجْ، الذي تناسى أن فلسطين ستكون الثمن الأول لاغتيال دمشق، تذكّر بقصة رواها العكش في «أميركا والإبادات الثقافية» عن نكرة مشابه يدعى هاسانواند من هنود الإروكوا عمل مديراً لمكتب الشؤون الهندية لا غير. يُحكى أن هذا المسخ، ومن شدة افتتانه بذات القيم الأنكلو _ ساكسونية التي يروّج لها عرب أميركا اليوم ويعتبرون إحراق دمشق امتحان صدقيتها، غيّر اسمه إلى «إيلي صاموئيل باركر، وقصّ شعره، وبالغ في «بياض» مظهره حتى قيل إنه كان يحلي قَبَّة قميصه المُنَشّاة بعقدة رقبة على شكل فراشة «بابيون» لا يخلعها إلا في الفراش» (ص: 19).
هذا يفسر لماذا يستخدم سكان أميركا الأصليون مصطلح «النمل الأبيض» لوصف ما يسمى «مكتب الشؤون الهندية»، هذه المؤسسة الحكومية (بعكس ما قد يفيد ويخدع الاسم للوهلة الأولى) التابعة لوزارة الداخلية الأميركية والتي أسسها المستعمر الأبيض عام 1824 لتمثل السكان الأصليين فساهمت بفعالية في المجزرة الجسدية والثقافية التي تعرض لها السكان الأصليون وشاركت بفعالية في سرقة أرضهم وملاحقتهم حتى في ما تبقى منها (أقل من 3%) لمصلحة شركات الرجل الأبيض. العبقرية في هذا الوصف لا تقتصر على استدخال كلمة «الأبيض» فقط لوصف المتأبيض الخائن لأبناء جلدته (والبياض ليس لون بشرة بقدر ما هو أيديولوجيا ومنطق). بل أيضاً في اختيار مفهوم «النمل الأبيض» ذاته، الذي يهاجم أساس البيت ويعطبه إلى درجة اعتباره آفة خطيرة في أميركا (انظر منير العكش: أنكل أوباما).
في إضاءة سريعة على هذه الظاهرة عندنا نحن العرب قبل أكثر من عام (هنا في «الأخبار») تعمدت اعتماد تمييز ديفيد سكوت بين مفهومي «مجندي الحداثة» و«متطوعيها» في كتابه «مجندي الحداثة: مأساة التنوير الكولونيالي»، الذي أعاد فيه قراءة كتاب «سي. ل. ر. جايمس» العبقري «اليعاقبة السود»، وبحث فيه في المأساة التي انتهت إليها ثورة هاييتي العظيمة. والتجنيد للحداثة أو للثقافة الغربية، كما يفيد المصطلح عند سكوت ليس إجبارياً فقط، بل ويعكس الطبيعة الجدلية للحداثة الغربية ويَنْفَذ إلى أعماق إشكاليات التنوير الكولونيالي، ويُبْرِزُ أيضاً الصراع الاقتصادي الشرس وغير المتكافئ بين الاقتصادات «البدائية» من جهة والرأسمالية الإمبريالية من جهة أخرى، والذي ينتهي عادة إلى القضاء على الأول. أهمية هذا الصراع غير المتكافئ، والذي ينتهي بإنتاج ظاهرة التجنيد للاستعمار، أنه يقضي على البنى الاقتصادية المحلية، الحامل الأساسي للثقافة المحلية، ويؤسس مادياً للاختراق الثقافي والمعرفي الغربي الاستعماري، كما يشير طلال أسد في «مجندي الحضارة الغربية». لكن ربما يكون أصل هذه الفكرة التي نعرفها اليوم بالإمبريالية الثقافية والمعرفية هو الأنثروبولوجي الماركسي ستانلي دياموند. التبادل الثقافي، يجادل دياموند، «كان دوماً موضوع هيمنة. فإما أن تقوم الحضارة مباشرة بتدمير الثقافة البدائية التي ترى أنها تقف في طريق حقها التاريخي، أو يتم إضعاف الاقتصاد البدائي بفعل اقتصاد السوق المتحضر بحيث لا يمكنه الاستمرار كحامل للثقافة التقليدية. في كلتا الحالتين، يقوم اللاجئون من الجماعات المشلولة بتبني مقاييس المجتمع الأقوى من أجل البقاء كأفراد. لكنهم مجندون لهذه الحضارة، لا متطوعون» (البحث عن البدائي: نقد الحضارة، ص 204).
حسناً، لم أجد في كل هذا تفسيراً لحالة غليون وكيلو وغيرهما من مثقفي التنظير لاستعمار أوطاننا لأن هناك الكثير من العوامل الأخرى في حالتيهما سيقود تجاهلها إلى فقر في الرؤية وتعسّف في القراءة، وتحديداً علاقتهما التي أصبحت مكشوفة بحكومات محميات النفط _ طبعاً ستكون مهزلة مقارنة غليون أو كيلو بـ«توسان لوفرتور». وطبعاً هذه الرؤية تعجز بالتأكيد عن تفسير حالة صادق جلال العظم _ خيبتنا العربية الثقافية الجديدة، وما أكثر خيباتنا هذه الأيام _ ماذا نفعل «بذهنية التحريم» بعد انضمام صاحبه إلى جوقة تبرير الظاهرة التكفيرية وانضمامه إلى مكتب الشؤون الهندية السوري. هل نرميه في سلة المهملات؟ لكن هذه المرة، وبعيداً عن ظاهرة التجنيد والتطوع لتفسير تبني فكر وثقافة ورؤية المستعمر سأعمد إلى تمييز آخر، بين المثقفين الصامتين الذين يستحقون التوبيخ والمثقفين الخونة الذين يستحقون أكثر من ذلك.


في توبيخ المثقفين الصامتين


في رسالة مؤرخة في 13 أيار/ مايو 1871، حين كان جيش الفرساويين المدعوم من جيش الاحتلال الألماني لفرنسا يسحق الكومونة وينفذ أحكام الإعدام بالمئات من ثوارها، كتب الشاعر الفرنسي الفذّ آرتور رامبو إلى أستاذه المثقف جورج إيزامبار يعيب عليه كمثقف سكوته، قائلاً له: «في العمق، لا ترى أنت في مبدئك سوى الشعر الذاتي. عنادك في الالتحاق بوكر الفئران الجامعي _ عفواً! _ يثبت ذلك. لكنك ستنتهي أبداً كقانع لم يفعل شيئاً، لأنه لم يشأ أن يفعل شيئاً. هذا من دون التفكير بأن شعرك الذاتي سيبقى تَفِهاً على نحو فظيع» (الآثار الشعرية الكاملة، ص: 323 - 325).
لم يكن رامبو يُعيب على أستاذه المثقف صمته فقط، أو يعيب عليه الاكتفاء بالتفوه بشعارات وخطابات «جمهورية وديموقراطية وإنسانوية لا يستمد منها أي خلاص». بل، كان يريد، كما قال ألان جوفروا في مقدمته للآثار الكاملة لرامبو، «أن يُدين، عبر أستاذه، جُبْن الأفكار الأخلاقوية والإنسانوية التي تتسم بالسخاء ولا تجد سبيلها إلى التطبيق، لا ولا (حتى) تعود على أصحابها بنتائج خطيرة» (المصدر السابق، ص: 12). ولو عاش رامبو أيامنا فلربما صدمه أكثر بعض الفلسفات والأفكار ما بعد الحداثية التي لا تبرر صمت المثقفين، بل وتعطي الكثيرين منهم حتى بعضاً من راحة ضمير وهم يخونون دورهم كذلك.
ورامبو كان في موقع أخلاقي يؤهله الحديث إلى أستاذه وغيره بهذه الطريقة. فهو لم يزر ثوار الكومونة ومكث معهم وكتب عنهم وعن الكومونة ربما أجمل ما كُتب عنها على الإطلاق فقط، بل ربما تكون قصيدته الساحرة عن الكومونيات اللواتي تعرضن للتشويه ودفاعه عنهن في قصيدته «يدا جان – ماري»، ضد اتهام تيوفيل غوتييه لهن بأنهن «مومسات» أجمل ما كتبه على الإطلاق. أيادي الكومونيات، اللواتي عرفن بنساء البترول لاستخدامهن قنابل البترول في مواجهة جيش فرساي، التي وصفها غوتييه بأيادي المومسات، جعلها رامبو مقدسة، ظاهرها هو المكان الذي «يقبله كل ثوري أبي». وكيف لا تكون كذلك وهي أياد حملت السلاح ضد الاستبداد وضد الاحتلال الأجنبي. وأكثر، جعل الأصفاد في تلك الأيدي التي حملت السلاح تصرخ وهنّ في طريقهن إلى سجون الفرساويين وكأنها تحتج على هذه المأساة التي حلت بهن.
لكن هذا كان قبل اختراع «جهاد النكاح» وقبل تحول الثورة على أيدي حفنة من المتخلفين الوهابيين إلى حرب بلا هوادة على المرأة والفقراء والإنسان والعقل والتاريخ وكل شيء. جريمة هي أن يقف المثقف في نفس الخندق مع هؤلاء المتخلفين ويظن أن من الممكن تبرير ذلك لاشتراكهم معه بمعارضة النظام. هذا الصنف من المثقفين الذي يبرر التخلف ويدافع عنه ويتحالف معه لا ينتج ثورات، بل يتحمل وزر المصير الذي آلت اليه الانتفاضات العربية. لكن حتى هذه الجريمة لا تقاس مطلقاً مع الجريمة الكبرى المتمثلة ليس فقط في الموافقة على العدوان الخارجي، بل وحتى تبريره والاشتراك في حملة الإعداد له.


عن القوادين والخونة


حسناً، وقبل أن نذهب إلى من خان سوريا، لنبدأ بأحد أشهر أسفل القوادين والخونة في الأدب الغربي توضيحاً للمعنى المرجو هنا. اسمه فنيديكو كاتشانيميكو، وهو ربما يكون أشهر أسوأ وأسفل القوادين الملعونين في الأدب الغربي على الإطلاق. فهذا الوضيع لم يتورع عن استخدام جسد شقيقته جيسولا بيلا لتحقيق مآربه الرخيصة وأهدافه السياسية القذرة. لكن التاريخ، وكما يصر على تخليد الأبطال الذين لا يموتون بخروجهم من عالم الأحياء أبداً (فيعيش أمثال عماد مغنية وغسان كنفاني إلى الأبد)، أيضاً، لا يرحم أمثال كاتشانيميكو الذي فضحه دانتي بشدة في «الكوميديا الإلهية» وأسكنه الحلقة الأولى من الدائرة الثامنة وقبل الأخيرة من الجحيم. ولهؤلاء القوادين دائرة خاصة بهم في جحيم دانتي (تسمى «وديان الشر») لا يفوقها في شدة العذاب إلا هول ما يجري في الدائرة التاسعة والأخيرة فقط، دائرة الخونة وبائعي الأوطان والمتآمرين مع العدو. هذا الترتيب المتوالي للدوائر حيث يزداد هول العذاب مع كل دائرة يبدو وكأن له منطقاً داخلياً. فلا يبدو عبثياً قرب القوادين (الدائرة الثامنة وما قبل الأخيرة) من الخونة (الدائرة التاسعة والأخيرة)، بل يوحي بتشابه كبير بين الفعلتين، وإن كان ممكناً القول إنّ كل خائن هو بالضرورة من صنف القوادين وأن الاختلاف هو في المستوى والمقدار (التجارة بجسد وشرف فرد مقابل التجارة بأمة كاملة). والدائرة التاسعة والأخيرة والأشد عذاباً من الجحيم هي دائرة الخونة بامتياز، ففي الحلقة الثانية من هذه الدائرة يقبع انتينور الطروادي الذي خان أهله وتآمر مع اليونان وفتح للأعداء باب المدينة المحصنة، ويعذب معه هناك أيضاً الشقي أوغولينو الذي خان مدينته بيزا بتسليم قلاعها لعدوتها فلورنسا – ربما لهذا السبب سميت هذه الحلقة «أنتينورا» باسم اللعين الطروادي (انظر الجحيم، النشيد الثامن عشر).
اللافت أن «الجحيم» حيث يقبع القوادون والخونة في دائرتيه السفليتين يظل النشيد «الأشهر والأكثر أثراً» بين الأناشيد الثلاثة رغم تمتع كل من النشيدين الآخرين، «المطهر» و«الفردوس»، بخصوصية «لافتة وينطوي على عناصر ابتكارية وتجديدية ونافذة»، كما يشير الشاعر كاظم جهاد. ومرد ذلك، أيضاً كما يشير جهاد، «آت من طبيعة حاجات قارئ القرون الأخيرة». لكن يمكننا القول، أيضاً، إنه في حالة مجتمعاتنا (ومجتمعات «ما بعد الاستعمار» عموماً، وهي تسمى كذلك لأنها لم تقطع فعلاً وأصلاً مع العلاقات الاستعمارية قط برغم خروج جنود الاستعمار) أن سبباً آخر هو الاتجاه المأسوي لمسارات التحرر، وتحول أحلام ما قبل التحرر من الاستعمار إلى كوابيس ما بعد الاستعمار على أيدي طبقة قذرة رهنت نفسها ثقافياً واقتصادياً وسياسياً في خدمة جزم جنود مستعمري الأمس وبمساعدة صنف حقير ووضيع من المثقفين الخونة الذين يلوثون عقول وأجساد أممهم.
لكن كاتشانيميكو الذي استخدم جسد شقيقته للمتاجرة الرخيصة به، ورغم كل سفالته ووقاحته ووضاعته، ربما كان سيخجل بشدة من أفعال وأقوال بعض القوادين العرب الكبار ممن يصنفون أنفسهم مثقفين ومفكرين (حتى إنه خجل من دانتي حين رآه في الجحيم وحاول إخفاء وجهه عنه، لكن دانتي عرفه وأشار إليه باسمه الحقيقي كما ستشير كتب التاريخ إلى أسماء الخونة العرب بالاسم في المستقبل). فهؤلاء لا يتاجرون بكل نساء العرب وأطفالهم ورجالهم، بل يتاجرون بمستقبل الأمة كلها. وفوق ذلك، لديهم من الوقاحة ما يكفي أن يخرجوا علينا من على شاشات وصفحات النفط والغاز للتنظير عن الثورة والديموقراطية – هل يصح أصلاً حتى أن نتحدث عن وقاحة القوادين والخونة، أم أن توصيفهم أصلاً يفترض وحتى يتجاوز ذلك؟ تهللون لإحراق دمشق وإعادة استعمار المنطقة، وباسم الحرية والديموقراطية؟ كان أشهر أسفل القوادين في التاريخ سيعجز عن تصور أفعالكم.


خيانة سوريا


أداء بعض المثقفين العرب وتآمرهم مع عدوان ربما كان سيقود، لو تمّ له ما أراد، إلى انفراط وانفجار المشرق العربي كله، وهو ما يذكّر بما كتبه دانتي عن القوادين والخونة – مع أن وصف القوادين والخونة قد يبدو قاصراً بحق عن التعبير والإمساك بمدى قذارة الدور الذي يلعبه بعض صهاينة الثقافة العربية الجدد. لا ولن ينطلي على أحد أن الموقف من النظام ومعاداته، وهو أمر مشروع تماماً، يمكن أن يبرر تأييد العدوان الغربي. لكن بعض المثقفين العرب لم يكتفوا حتى بذلك، بل كانوا رأس حربة الحملة لتحريض الرأي العام في الوطن العربي وأميركا والعالم على تأييد العدوان. كتبوا في الصحف الأميركية وظهروا على الشاشات وناشدوا ذلك الرجل الأسود بالقناع الأبيض لحرق دمشق. لم يتعظوا من همجية تدمير العراق الذي يحمل بعض وزره أيضاً مثقفون عرب (هل تذكرون كنعان مكية وفؤاد عجمي؟).
وحين كانت أسراب من طائرات وسفن الشر الاستعمارية تتأهب لقذف حمم نيرانها على عاصمة المشرق العربي، فاجأنا بعض ممتهني الثقافة من بني جلدتنا بمواقف كانت شعوب أخرى ستضربهم عليها بالأحذية في الساحات العامة (حتى لا نقول أكثر). شاركوا جميعاً في الحملة التي ربما تكون الأولى في التاريخ التي يشكل فيها المثقفون رأس حربة الدعوة إلى استعمار وطنهم. كتبوا في «نيويورك تايمز» (ياسين الحاج صالح) وظهروا على الشاشات (برهان غليون). حتى فؤاد السنيورة كتب في «فورين بوليسي»، وكان صعباً تمييز ما يقوله عما كتبه الفؤاد الآخر، ذلك العربي الكاره لنفسه وقومه، فؤاد عجمي، الذي لم يطب له حتى قيام أوباما بالمناورة والسعي لتحصيل الثمن السياسي بدون العدوان ودعاه إلى الجدية في الحرب – وعجمي هذا، كما يبدو مثل هاسانواند، ينام ويحلم بأنه يستيقظ رجلاً أبيض مثل معلمه وملهمه العنصري الصهيوني الفظ برنارد لويس، فهو لا يفوّت مناسبة إلا ويذكر تأثير ذلك العنصري البغيض عليه.
لكن الوقاحة تصل إلى حدها الأقصى حين تعمد وسائل الإعلام النفطية إلى وضع واجهة فلسطينية بصورة أكاديمي أصنج أصاب العجز ضميره وعقله لتبرير عدوان ستكون فلسطين ذاتها جزءاً من الثمن الذي سيدفعه العرب لتدمير سوريا. تسمع أكاديمياً فلسطينياً يتحدث عن القيم الأميركية العظيمة وأن امتحانها فقط سيكون بحرق دمشق، فتتعجب: هل هذا الطاووس من الخليل أم من كريات أربع؟ هل تعرف حقاً أيها الببغاء ما هو التاريخ الأميركي وما هي القيم الأميركية، التي ترطن بعظمتها، أم أنّ من لقّنك هذه السخافات نسيَ أن يذكر لك شيئاً عن الإبادات الجسدية والثقافية التي ارتكبها المستوطنون المتعبرنون بسكان أميركا الكنعانيين؟ ألم يفكر هذا النكرة للحظة بأن هؤلاء الأوغاد يريدون وجهاً فلسطينياً يبرر تدمير دمشق وأن فلسطين ستكون الضحية الاولى لاغتيال دمشق؟


المثقف الطائفي


حين ميّز أنطونيو غرامشي بين المثقف العضوي والتقليدي، لم يخطر على باله مطلقاً أن عبقرياً من موظفي آل سعود سيخرج علينا بعد ثمانين عاماً بمصطلح «المثقفين السنة»، هذا ما يقوله لنا عبد الرحمن الراشد في واحد من أتفه مقالاته («نصر الله: من أنتم؟»، «الشرق الأوسط»، 16 حزيران). للحقيقة، إن لم تكن سطحياً وإن كان لديك حتى قليل جداً من الفطنة ستجد الكثير من التسلية، فيما يكتب جماعة الزيت والغاز خصوصاً استخدامهم لمصطلحات لا يفهمونها. لكن مفهوم «المثقف السني» هذا هو أغرب تقليعات الصحافة النفطية الأخيرة.
حسناً، ماذا يعني أن تكون مثقفاً سنياً؟ هل تعني أنك تقرأ السنة النبوية مثلاً أو أنك على معرفة بها وتستشهد بها في كتاباتك؟ يفعل كل المسلمون ذلك، وحتى إن العديد من أهلنا المسيحيين العرب يقتبسون السنة باستمرار كما يقتبسها المسلمون. هل تعني أنه يفكر ويتخيل ويروي بلغة سنية مثلاً لا نعرف عنها وعن وجودها؟ فالمصطلح يفترض، كما يبدو، أن التسنن هوية وخيال وسردية ولغة وطريقة تفكير، وليس طريقة في التقرب إلى الله.
لكن من يهتم لخرافات الراشد هذا، فما يهم هو الفكرة في النهاية. كان يمكن أن يمر المرء على هذا المصطلح مرور الكرام، كما يمر على الكثير من «الهبل» الذي نقرأه كل يوم. لكن اللافت فعلاً أنّ المصطلحات المذهبية أصبحت جزءاً من الرطانة اليومية لبعض المثقفين العرب، وأنّ هناك من يعمل على التنظير من موقع متخيل جديد هو التسنن كهوية هي بالضرورة مضادة ومعادية للهوية العربية ولكل ما هو عربي. أصبح بعض المثقفين العرب يتبنّون منطقاً شبيهاً بالمنطق العنصري الصهيوني الذي يعتمد الديموغرافيا والعدد، لا الاجتماع والسياسة والاقتصاد مثلاً كما قد يفعل من لديه عقل. وكأن هناك كتلة سنية متجانسة اجتماعياً وسياسياً وحتى فقهياً وهي في حالة صراع تناحري مع كتل مذهبية أخرى متجانسة هي أيضاً في كل شيء، أو كأن أعضاء الطوائف والمذاهب هم ماشية وأغنام لا عقل لهم ولا إرادة. كيف يمكن لمثقف أن يعتقد أن بإمكانه أن ينطق باسم كتلة منقسمة بحدة اجتماعياً، سياسياً، اقتصادياً وثقافياً، وحتى فقهياً، وأيضاً أن يعتبرها أساساً لتخيل نظام سياسي وبناء دولة حديثة؟ كيف ينتهي مثقف يساري (سابق) إلى تبني منطق ورطانة العرعور المتخلف ويتحدث عن غالبية سنية ويُنَظِّر لغالبية مذهبية على أنها غالبية سياسية؟ هل يعني هذا أن مفتي آل سعود هو بالضرورة مفكر وفيلسوف سياسي كذلك؟


مثقفون خالدون


في مقبرة الأخ لاشيز في باريس، سيجد الزائر قبر الشاعر الفرنسي الفذ أوجين بوتييه (1816 - 1887) صاحب نشيد الأممية العظيم، وفوق الضريح أيضاً سيجد الزائر كتاباً حجرياً ضخماً ومفتوحاً على صفحتين نقش عليهما النوتات الموسيقية للنشيد الخالد على خلفية كلمة «الأممية». بوتييه، العامل والكوموني والمثقف والشاعر الفذ، كما يبدو سيعيش إلى الأبد. يكفي أن نشيد الأممية الخالد يغنّى بكل لغات الأرض، ويكفي أن زواراً من كل بقاع الأرض يزورون ضريح الشاعر كل يوم. لن نقرأ كتاباً يوماً ما يلعن بوتييه كما سنقرأ عن بعض المثقفين العرب الذين ساندوا العدوان على بلادهم.
وفي مكان آخر غير بعيد كثيراً عن باريس، وفي أوج حرب التحرير الشعبية الجزائرية، كان نشيد الأممية يلهم الثائر الأممي فرانز فانون فيختار مطلع النشيد الأممي عنواناً لكتابه العبقري «معذبو الأرض». وفانون، المثقف الذي فهم دوره جيداً، قضى عمره القصير (ستة وثلاثين عاماً) ثائراً على الاستعمار، ولهذا سيظل خالداً أيضاً. لا داعي للتعريف بفانون أو الحديث عنه، فهو أشهر من أن يعرّف، لكن يكفيه السطور التالية من تصدير «معذبو الأرض»:
«ذات يوم من أيام ديسمبر 1953، التحق طبيب مختص جديد بمنصبه في مستشفى الأمراض العقلية في البليدة (جوان فيل)، عمره 28 سنة، وهو من أصل مارتينيكي، اسمه فرانز فانون. في الثاني عشر من ديسمبر 1961 أدت مفرزة من جيش التحرير الوطني فوق التراب الجزائري المحرر (قرب الحدود التونسية) المراسم الشرفية لدفن مناضل من مناضلي الكفاح التحرري الجزائري، وهو فرانز فانون».


في معاني بعض ما ورد في هذه المحاولة


ــ المقماق: من يتحدث من بطنه، لا من عقله، كما يفعل بعض مرقصي العرائس.
ــ الأنوي: من الأنا، والأنويون هم من يعتبرون ويجدون في «أنواتهم» نقطة انطلاقهم الأولى، وهي تختلف قليلاً عن الأناني، والأنويون هي الترجمة الأدق للكلمة الفرنسية (égoïstes)
ــ الأصنج: هو المخلوق الذي أصابته لفحة برد أدت إلى عجز العضو المصاب من الجسد (والبرد ريح تأتي من الجزر البريطانية في كل الفصول، كما يقول غسان كنفاني). وإذا لجأنا إلى تقليد معروف في البلاغة، فأطلقنا اسم الجزء على الكل، يمكن أن تطلق هذه الصفة على من أصاب العجز عقله وضميره أيضاً. جاء في «بحث أول في الطب السياسي» (غسان كنفاني. فارس فارس. ص: 239 - 240)، أنّ العلاج هو «أن يَطمر المُصنج نفسه تحت الأغطية حتى يسيل عرقه، ويمكن أن يحدث ذلك عن طريق الخجل، أما إذا كان المصاب لا يخجل فحالته ميؤوس منها». أما عندنا في الخليل، نحن الموصوفين بالعناد في الحق، فنصرّ حتى على التعامل مع الحالات الميؤوس منها وعلاجها، ولهذا نستخدم عادة الحذاء (أجلّكم الله)، ويضرب به الأصنج وقليل الحياء. وينصح الكبار والمجربون من الخلايلة، للفعالية ولضمان الشفاء، بأن تكون الضربة بالحذاء على الوجه وعلى غفلة.
* كاتب عربي

 

 

المصدر: الأخبار اللبنانية- العدد ٢١٣٣ الثلاثاء ٢٢ تشرين الأول ٢٠١٣

آخر تعديل على الثلاثاء, 22 تشرين1/أكتوير 2013 22:07