الجنرال جياب
محمد خير الوادي محمد خير الوادي

الجنرال جياب

بعد غياب طويل استمر نحو أربعة عقود من التعتيم المقصود ، عاد اسم جياب ليحتل  مكانه الطبيعي كواحد من أبرز شخصيات القرن العشرين. وقد ارتبط  نفض الغبار عن جياب  - للأسف –  مع حدث اليم وهو موته عن عمر فاق القرن بسنتين. كان الجنرال جياب اسطورة فيتنام المعاصرة ، واحد قادتها  التاريخيين ،الذي ارتبط اسمه  بمقاومة ثلاث من اعتى قوى الاستعمار الحديث ، وهي الاستعمار الياباني والفرنسي والاميركي.

حقق جياب  مجده من خلال عبقريته العسكرية في حرب العصابات والخنادق  واستنزاف قوى عاتية لا تقهر، وصولا الى دحرها ،وتنظيم السكان للصمود. شارك بفاعلية في حرب المقاومة ضد اليابانيين، ارغم المستعمرين الفرنسيين على الاستسلام بعد معركة ديان بين فو في 7 حزيران/يونيو سنة 1954. وأسهم في تحقيق نصر مؤزر على الأمريكيين في حرب ضروس استمرت عشر سنوات من العام 1965 حتى سقوط سايغون في 30 نيسان/ابريل 1975 , وكان جياب خلال هذه الفترة قائدا للجيش  الفيتنامي . ولكن – كما يقال ، لا نبي في قومه ، فبعد كل هذه الانتصارات ، خسر جياب منصبه كوزير للدفاع وفقد عضويته  في قيادة الحزب الشيوعي . قد يكون التفسير الرسمي منطقيا عندما شرح ان سبب اقصاء جياب عن مناصبه هو تقدمه في السن . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تم التعتيم على وجود جياب والسعي لإدخاله عالم النسيان ؟.


اعتقد ان تفسير ذلك يكمن في اصرار جياب على النقد المستمر لسلوك قادة فيتنام الجدد في الانفتاح على الغرب عامة ، وعلى امريكا خاصة.  لم يكن جياب ضد العلاقات الاقتصادية مع امريكا التي هزمها ،  لا بل انه قال:" يمكن ان نتقارب ، ولكن ينبغي ان لا ننسى  المآسي التي سببتها امريكا لبلادي" . لقد شعر جياب ان هناك نهجا  رسميا لا يركز على التعاون مع واشنطن فقط ، بل يسعى الى  طمس جرائمها من ذاكرة الشعب الفيتنامي وتبييض سجلها الاسود . فقد اختفى  كل نقد لأمريكا  من وسائل الاعلام الفيتنامية ، وباتت الاحتفالات بمناسبة النصر على الامريكيين متواضعة وخجولة ،حتى اشادة الضيوف الاجانب بهذا الانتصار ، كان يرد عليها في المحادثات الرسمية بشكر من باب المجاملة خالي من اية حرارة او حماس ، وتحولت امريكا -عدو الامس ، الى صاحبة الحظوة في الحياة الاقتصادية والاعلامية الفيتنامية المعاصرة ,  واصبح نمط الحياة الامريكية قبلة لأثرياء فيتنام الجدد. وهذا ما عارضه جياب . كما وقف  جياب ضد الفساد وهدر الثروات الوطنية.

واعتقد  ان كونه واحدا من اعظم القادة العسكريين في فيتنام ، يمنحه حق التحدث بصراحة. فحين كان في التسعين من عمره لم يستطع جياب ان يلجم غضبه وخيبة امله ازاء ما يحدث، وكان يكتب الرسائل المفتوحة  الغاضبة ،و يستغل المناسبات السنوية لانتقاد كل شيء، من الفساد  في الحزب والدولة الى الهدر في استخراج مادة البوكسيت.   وهذا الامر سبب له  المتاعب  والمضايقات التي وصلت الى حد , ادخال  اسمه عمدا عالم  النسيان . ورغم ذلك ، فقد بقي جياب  حاضرا في ذاكرة الشعب الفيتنامي كبطل قومي ارتبط اسمه بالاستقلال وتحقيق الوحدة وتوفير الكرامة والعزة لكل فيتنامي . اريد ان اختم  بذكر واقعة واحدة من سجل هذا البطل الاسطوري .


في عام 1995 حدث لقاء فريد في هانوي بينه وبين روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي أثناء الحرب الامريكية على فيتنام.كان  لقاءا بين قائد مهزوم وقائد منتصر. في هذا اللقاء لقن  الجنرال جياب  محدثه الامريكي درسا بليغا بكلمات قليلة ، فسرت  اسباب  النصر الفيتنامي والهزيمة الأمريكية. قال جياب مخاطبا مكنمارا: "أمريكا دخلت الحرب دون أن تعرف أي شيء عن تاريخ فيتنام والشعب الفيتنامي، لم تعرف أي شيء عن ثقافة الفيتناميين وروحهم الوطنية والقتالية ضد موجات الغزاة الأجانب". ويبدو ان كلمات جياب هذه لا تزال حية حتى اليوم ، وهي تفسر الاخفاقات الامريكية في كل من افغانستان والعراق وسورية.

 


المصدر: مركز دراسات الصين وآسيا