التهويد والزيتون
عبداللطيف مهنا عبداللطيف مهنا

التهويد والزيتون

بدأ موسم قطاف الزيتون في فلسطين المحتلة . هذه المناسبة ، بما تعنيه للفلاح الفلسطيني المتشبث بأرضه من لحظة عطاء احتفالية خاصة ووسيلة عيش وبقاء وصمود على تراب الوطن ، هى مناسبة أخرى نقيضة بالنسبة للغزاة المحتلين ، إذ يجد فيها الصهاينة فرصة متاحة لهم لإلحاق مايتيحه قدومها بالمتعدد من مظاهر شن حربهم التهويدية المستمرة الضروس على الوجود الفلسطيني في الوطن المغتصب ، حيث تنتظرها قطعان المستعمرين سنوياً ، وبهدف الإعاقة والمنع والتخريب والحاق الأذى ، بالمناشير والجرَّفات والحرائق .

تقول آخر الإحصائيات ، إنه في الشهر المنصرم فقط قطع هؤلاء في غاراتهم المبرمجة المايزيد على المئتين وخمسين شجرة زيتون من تلك التي تعود للقرى الفلسطينية المجاورة للمستعمرات المقامة أصلاً على اراض تلك القرى المنهوبة والمصادرة ، واحرقوا مايزيد على اربعماية  شجرة ، وجرَّفوا مئات الدونمات مما تبقى من اراض هاته القرى التي لم تسلب منها بعد ، أو لم يأتي حين ضمها إلى مستعمراتهم الآخذة في التوسع السرطاني المضطرد .

 

الحرب الصهيونية على الزيتون الفلسطيني في بدء مواسم قطافه ، وحتى من دونها ، تستهدف فيما تستهدف ، إلى جانب محاولة تهشيم مايختزلة التليد الموروث من الصورة الرمزية لهذه الشجرة المباركة في المخيال الشعبي الفلسطيني ، إلى جانب كونها الآن قد غدت تعادل الأيقونة الدالة على رمزية البقاء والصمود والتشبث بالأرض ، الحاق الضرر ، المعنوي أولاً ، والمادي ثانياً ، بالفلاح الفلسطيني ، وكخطوة مضافة إلى جاري الخطوات الجهنمية الأخرى ، الملتوية منها والدموية المباشرة والفجة ، من تلك التي لاينضب معينها لإكراهه دون جدوى على مغادرة ارضه التي تبقت له والتي لم تصادر وتهوَّد بعد ، أو توطئةً لتهويدها وضمها إلى مستعمراتهم المتفشية كالفطر على مساحة الضفة الغربية بكاملها . أي أنها وسيلة اجرامية أخرى تُعتمد في سياق هذا المتعدد مما يلجأ إليه الغزاة المحتلون في متوالية جرائمهم الإبادية المستمرة مختلفة الأوجه ، مادياً ومعنوياً ، منذ بدء الصراع وتمكنهم من اغتصاب فلسطين وإقامة كيانهم المحتل الغاصب على انقاض الوطن الفلسطيني المغتصب … الآن ، ووفق واقع الحال ، يكاد يبدو أنه لم يتبق للفلاح الفلسطيني المستضعف المقهور ، أو للقرى الفلسطينية المنكودة بالاحتلال الغاشم ، التي صودرت اغلب اراضيها الزراعية لصالح المستعمرات المجاورة ، أوخنقتها الأسوار العازلة والطرق الإلتفافية والمناطق العسكرية والحصارات المضروبة والحواجز العسكرية ، وروَّعتها مسلسلات الإقتحامات المتوالية وغارات عصابات المستعربين الدموية … لم يتبق له إلا الزيتون ، هذا الذي يوجد اغلب مانجى منه  فحسب في ضيِّق المساحات من قليل الشعاب والمناطق الوعرة اللصيقة بتلك القرى ، وبالتالى باتت اشجاره المعمِّرة والمستجدة هدفا مشاعاً لغارلت المستعمرين الحاقدين ، واللذين تجري غاراتهم الهمجية المتكررة تحت حماية الآلة العسكرية العدوانية للإحتلال ، ويمارسون جرائمهم برعاية جنده الكاملة وغالباً ماتكون بمشاركتهم .

 

إن من المؤلم والمدعاة لعميق المرارة بالنسبة للإنسان الفلسطيني البسيط ، أو هذا العنيد الذي قدره أن لا تجوز له أن ينضب معين ابتكاراته النضالية لسبل البقاء في ارضه واجتراع الدائم والمستجد من شتى وسائل الصمود ومقاومة الإحتلال … من المؤلم المرير له ، إحساسه الجارح ، واليوم اكثر من أي وقت مضى ، بأن أمته العربية قد تركته وحيداً وأعزلاً ومستفرداً به ، يواجه بلا نصير ولا مجير عدوه ، وعدوها ، الغاشم بصدره العاري وظهره إلى الحائط ، ويخوض نضاله ويوالي تقديم تضحياته في أسوأ واصعب الظروف ، وفي صراع غير متكافىء ، ومع أبشع انواع الإستعمار الاستيطاني الإجلائي المدعوم بكل مقدرات وامكانيات الغرب الإمبريالي ، والذي تغطيه وتعصمه موضوعياً اللامبالاة  الدولية المشهودة ، واللتين ، هذا الدعم وهذه اللامبالاة ، يرفدهما ، بل يعززهما ويزيدهما بامتياز ، راهن هذا الإنحدار العربي المهين والمتفاقم سوءاً ، وقبله مزمن العجز المقيم والبالغ حدوداً لامعقولة من التفريط والتواطوء المشين .

 

مايجري للزيتون الفلسطيني في مواسم قطافه ومن دونها ،ليس إلا جزءاً وإنموذجاً مبسطاً لما يجري لاجتثاث شعب بأكمله من وطنه التاريخي . شعب قدره أن يواجه في خط الدفاع الأول لأمته ونيابةً عنها عدوها التاريخي ، هذا الذي مجرد وجوده في القلب من جغرافيتها هو تهديد مستدام لوجودها ، ناهيك عن راهن ومستقبل اجيالها … ومايجري للضفة قيد التهويد ، وغزة التي يطبق الحصار الإبادي ، بشقيه الصهيوني والعربي ، خناقه على كل مظاهر الحياة فيها … للقدس التي هوّدت جغرفياً ويستكمل تهويدها ديموغرافياً ، والتي ستشهد عما قريب احتفالات مغتصبيها المقتربة بالذكرى المزعومة لما يسمى “الصعود على جبل الهيكل” ، أي ماينتظره حرمها القدسي الشريف المنتهك من اقتحامات تصعيدية معربدة لقطعانهم الحاقدة ، تهيئةً وتوطئةً وتمريراً وتطبيعاً لتقسيمه ، على درب هدمه وبناء هيكلهم المزعوم مكانه … مايجري ، وبمعزل عن عدوانية الغرب الدائمة والمتوقعة ، وتواطوء اللامبالاة الكونية المشهودة ، هو بالأساس إدانة لن يغفرها التاريخ تصم هذا الإستمراء المذل لهذا الصمت القاتل المهين الضارب اطنابه في دنيا العرب .

 

 

المصدر: نشرة كنعان

آخر تعديل على الأربعاء, 18 كانون1/ديسمبر 2013 13:19