تراجع القوة المنفردة وتقدم الأقطاب

تراجع القوة المنفردة وتقدم الأقطاب

تهدف مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» الصينية إلى تحويل مجموعة كبيرة ومعقدة من العلاقات الثنائية في نظام إقليمي واحد. ومن شأن هذا النظام أن يؤثر في العلاقات السياسية والاقتصادية للصين مع ما يقارب من 65 دولة، وأكثر من 4 مليارات نسمة حول العالم.

لسنوات قادمة، ستكون المنطقة الأوراسية محور اهتمام بالغ الأثر للدبلوماسية الصينية، نظراً لأهميتها البالغة، وجاهزيتها للاستثمار في بناها التحتية. وتركز الصين استراتيجيتها على تخفيف المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي ظهرت في البلاد، وعلى تعزيز الاستقرار السياسي في الداخل، ولدى الدول الجارة للتنين الآسيوي. لكن، ماذا عن أوروبا والولايات المتحدة؟

في أيلول من عام 2013، أطلق الرئيس الصيني، شي جين بينغ، مبادرة «حزام واحد، طريق واحد»، في خطاب ألقاه في جامعة نزارباييف في مدينة أستانا في كازاخستان. وفي الواقع، فإن الإطار الجامع لبرنامج الحزام الاقتصادي لمشروع «طريق الحرير» في الصين، مع استراتيجية «طريق الحرير البحري» المرتبطة به، يدفعان الصين نحو تطوير موقعها العالمي، والبحث المشترك للأولويات الاستراتيجية الرئيسية مع جيرانها. وكما فعلت منذ قرون، تنظر الصين إلى نفسها اليوم، بوصفها معقلاً للنمو العالمي.
أكثر من تنسيق
بما يتعدى حدود التنسيقات الإقليمية الضيقة، تتوخى المبادرة الصينية تطوير العلاقات الثنائية بين الصين وجيرانها إلى ما هو أكثر من مجرد كتلة إقليمية. إذ ينبغي- من وجهة نظر صينية- تحفيز التعاون والتكامل الإقليمي، عبر الاستفادة من الإمكانات الهائلة لدى الصين على صعيدي الاستثمار في البنى التحتية والتجارة الإقليمية. كما أن المبادرة تتعدى حدود الربط الصيني مع الاقتصادات القريبة في جنوب شرق، وجنوب، ووسط آسيا، بل كذلك مع أفريقيا وأوروبا.
تعد الصين حالياً أكبر اقتصاد في العالم (على أساس حسابات تعادل القوة الشرائية- البنك الدولي). وكذلك أكبر منتج، ومصدر، ومستهلك للطاقة، ومستورد للفحم. كما تمثل ما بين ربع وثلث واردات التصنيع المستخدمة في اليابان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ويشير تقرير لصحيفة «فايننشال تايمز»، نشر في وقت سابق من هذا العام، إلى أن الصين ستصبح أكبر مستثمر في الخارج بحلول عام 2020. وتوقع التقرير ذاته أن تتضاعف الأصول الخارجية للصين ثلاث مرات خلال السنوات الخمس المقبلة، من 6.4 ترليون دولار، إلى 20 ترليون دولار.
مفتاح البنية التحتية
تسعى مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» الصينية إلى الاستثمار في البنى التحتية، من خلال إيجاد وتشييد الطرق التي سيمر عليها إنتاج الاقتصاد الصيني، وغيره، بشكل تكاملي سيمتد على طول الطريق نحو أفريقيا وأوروبا. كما تهدف المبادرة إلى تقاسم المنافع مع البلدان الشريكة، من خلال خلق العرض وسلاسل القيمة، خصوصاً في مجالات الإنتاج الصناعية والنقل والبنية التحتية للطاقة. وهذا يشمل الموانئ، والمطارات، والسكك الحديدية العابرة للحدود، وتجارة الحاويات وكابلات الألياف الضوئية. ومن المتوقع لهذه المبادرة أن تضرب بنفوذ البحرية الأمريكية التي تتكفل اليوم بحوالي 90% من تجارة الحاويات العالمية عبر مساراتها البحرية الضعيفة.
لم يكن صعود الصين إلى قوة اقتصادية عالمية ممكناً دون استثمارات ضخمة جرت في نظم النقل والطاقة المحلية. وفقاً لمعهد «ماكينزي» العالمي، استغلت الصين 8.5% من ناتجها المحلي الإجمالي في عمليات تحديث وتوسيع البنى التحتية التي تملكها، وقد جرى ذلك على طول الفترة الممتدة بين عامي 1992- 2011، مقارنة بالبلدان النامية الأخرى التي لم تنفق أكثر من 2% إلى 4% من ناتجها المحلي على هذا النوع من المشاريع خلال الفترة ذاتها.
النظام الجديد.. من أوراسيا!
بصورة عامة، تفاعل جيران الصين مع المبادرة، وأظهروا اهتماماً واسع النطاق للشراكة مع الصين. إذ أبدت معظم الدول المعنية استعدادها للتنسيق مع السياسات الاقتصادية والإقليمية لبكين، ودمج الإنتاج والتجارة المالية معها. وفي مكان آخر، كان الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، يستكمل عملية الإجهاز على الهيمنة الأمريكية، من خلال المشروع الاقتصادي الأوراسي التكاملي الواعد. كما تقوم منظمة «شنغهاي» للتعاون بعملية مماثلة، لا تقل أهمية وتكاملاً عن هذين المشروعين. وفيما يبدو، فإن المبادرة الصينية، والمشروع الأوراسي، ومنظمة «شنغهاي»، ستكون قادرة على تمثيل النظام الجديد الناشئ في أوراسيا، وبالتالي، على قيادة النظام الدولي الجديد.
الفائدة الصينية: محلية وخارجية
وبالطبع، فإنه، جنباً إلى جنب مع الهدف المتمثل في التكامل الإقليمي، ترى الحكومة الصينية مبادرة «حزام واحد، طريق واحد»، كأداة إضافية لتخفيف الصعوبات المتزايدة على الصعيد الاقتصادي الداخلي. ففي الآونة الأخيرة، ارتبطت هذه المبادرة رسمياً مع استراتيجية التنمية الداخلية الصينية، التي ترى أن طريق الحرير الجديد قوة دافعة للنمو الاقتصادي في المستقبل المنظور.
وكجزء من التحضيرات اللازمة للبدء في تنفيذ المبادرة، وسعت الصين بنيتها التحتية للسكك الحديدة المحلية بشكل سريع، إذ أضافت، في العام الماضي وحده، ما يزيد عن 3000 كم. كما فتحت في كانون الأول من عام 2014 ثلاثة خطوط للسكك الحديدية الجديدة، والتي ستكون جاهزة لربط المحافظات الغربية للصين مع المراكز الصناعية، وكذلك ربط منطقة شينجانغ مع آسيا الوسطى وأوروبا. كما تهتم كل من الصين وروسيا ببناء خط سكك حديدية بين بكين وموسكو، ستكون له الأولوية الكبرى من بين المشاريع بين البلدين، في سياق تعميق التكامل في عموم أوراسيا. وفي الوقت ذاته، تقوم الشركات الصينية ببناء خط السكك الحديدية الجديد في تركيا، بين إسطنبول وأنقرة، الذي على الأغلب أن يجري توسيعه جنوباً، أو شرقاً، بعد انتهاء الأحداث الأليمة التي يعيشها الشرق الأوسط.
في سياق آخر، يغمز بعض الخبراء إلى أن مشاريع الاستثمار في البنى التحتية من شأنها أن تدفع الأمور نحو نقلة نوعية في القدرات العسكرية للتحالف الروسي- الصيني، وغيره من الدول المقربة، حيث من المتوقع استغلال هذا الطريق جزئياً لعمليات الدفاع، كنقل القوات ومتطلبات الدعم اللوجستي للقوات المسلحة، والعديد من التدريبات العسكرية التي قد تكون ضرورية خلال السنوات المقبلة.

التناقض الغربي
في الولايات المتحدة وأوروبا، كانت ردود الفعل على المبادرة الصينية بمعظمها قاصرة. حيث جرى تصويرها على أنها مجرد استجابة لخطة «طريق الحرير الجديد» التي أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، في تشرين الأول من عام 2011. وإن كان الأمر كذلك، فإن المبادرة الصينية كاسحة بما لا يقبل الشك..!
في الولايات المتحدة، ينظر إلى المبادرة الصينية كعامل جديد من عوامل الفشل والتراجع في الدور الأمريكي. أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فالكثيرون في الصين يعتقدون أنه يغفل ببساطة الأهمية البالغة للمبادرة الصينية، والآن فقط بدأ يستيقظ على فرص التعاون التي فلتت منه في المرحلة الأولى من الاتفاقات التي جرت على هامش إعلان المبادرة. لذلك يغلب الانطباع بأن أوروبا ستكون حاضرة بقوة في المبادرة الصينية خلال المستقبل المنظور، وسيزداد التوجه الأوروبي نحو المشروعين الصيني والروسي على الأرجح مع انتهاء الأزمات في أوكرانيا وشرق المتوسط، حيث يرجح الخبراء في هذا الصدد، أن تجري النقلة الأوروبية باتجاه المشروعين في الربعين الأول و الثاني من العام 2016.

عن «Geopolitical-info».. بتصرف