طوكيو: «الخيار الآمن» وقوقعة واشنطن

طوكيو: «الخيار الآمن» وقوقعة واشنطن

لليابان خصوصية تاريخية لا خلاف عليها، فهي قوقعة دبلوماسية مؤسسة منذ قرون، على يد الإمبراطور، توكوجاوا إياسو، قوقعة خرقها نظام «الميجي» الإصلاحي، وامتدت آثار خرقه لها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد إنهاك طويل للإمبراطورية اليابانية، قررت طوكيو أن الوقت حان للتوقف عن الدخول في تحالفات دولية، لاحتلال دول أخرى، وأن واجب الوقت حينها، هو الاهتمام بإعادة إعمار الداخل، وبالطبع كان للقبضة الأمريكية النووية دور لا يستهان به في تلك القناعة.

لأجل ذلك، فإن اليابان دبلوماسياً تشبه تلميذاً مثالياً مطيعاً، لا يعترف بأية إدارة لمدرسته، إلا «اليانكيز»، ولا يبدو لديها عموماً أي استعداد لتغيير هذا التوجه، فواشنطن تعتبر الحليف الأقرب والأكثر حميمية لطوكيو، لأسباب واضحة وصريحة، فهذه منطقة مشتعلة، و«الجنون» النووي الكوري الشمالي موجه لليابانيين دائماً وفي أي وقت، وظهورهم لجدار الصين، «جدار يريد أن ينقض دائماً على رؤوسهم»، وما زال يحتفظ بكل بالغضب كله منذ أيام احتلال اليابانيين لهم، مع فارق عسكري ضخم بين الجارتين، لمصلحة الصين، وعلاقات متوترة مع روسيا، على خلفية نزاع حدودي مديد.

في الحالات جميعها، لا يوجد شخص واحد في اليابان، بعقل سليم، سيقترح اغضاب الولايات المتحدة بأي شكل، أو محاولة تعكير هذه العلاقة، لأنها «الحامي الوحيد» لهم مما قد يحدث افتراضاً، إلا أن الأشهر الأخيرة حملت خطاً دبلوماسياً يابانياً غريباً، لا يمكن تجاهله.

مشهد أيار: استراتيجية شينزو

في السادس من شهر أيار الماضي، ذهب رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، إلى مدينة سوتشي، المنتجع السياحي الروسي الفاخر، والموطن القديم على البحر الأسود، على الحدود الجورجية، ليلتقي بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

زيارة مفاجئة، غير رسمية، لم يعرف أحد سبباً واضحاً لها، خاصة أنها أتت قبل قمة الكبار الـ20 بأسابيع قليلة فقط، حيث كان يمكن لشينزو أن يلتقي ببوتين، وبشكل رسمي لا يثير التساؤلات، خاصة من الجانب الأمريكي، الذي لا يحبذ تقارباً يابانياً روسياً بأي شكل من الأشكال.

لا شك أن آبي استغل الرياح المواتية لحركة يسيرة، في اتجاه كهذا، فالإدارة الأمريكية الآن في أضعف حالاتها، وهو شيء طبيعي لانتهاء ولاية أوباما سريرياً. وبطبيعة الحال، نهاية أغلب رؤوس طاقمه الإداري والحكومي، لذلك لا يمكن للولايات المتحدة، «المنشغلة» بانتخاباتها الرئاسية، أن تعترض الآن بقوة على تحرك شينزو، وستترك الأمور كما هي عليه، حتى قدوم رئيس جديد، في شهر تشرين الثاني، ليبسط «اليد العليا الأمريكية» مرة أخرى، بكامل كفاءتها، أما حينها، فلا يبدو الضغط الأمريكي، على شينزو، قوياً بما يكفي.

الانتخابات البرلمانية

وتراجع النسب

الأمر الآخر يكمن في الانتخابات البرلمانية اليابانية، وهي انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ، الغرفة العليا في البرلمان الياباني، حراك لا بد من وضعه في سياق تحركات شينزو الخارجية، خاصة مع توضيح العقبات تجاهه، وتجاه حصول الائتلاف الذي يقوده رئيس الوزراء على أغلبية المقاعد، ليستطيع تعديل الدستور فيما بعد.

لفهم أكثر، فإن الداخل الياباني لم يكن مستقراً، ذلك الاستقرار الداخلي، الذي اعتاد العالم عليه، فما بين نبرات تذمر واضحة للعيان، بدأت في الظهور بجلاء جراء توقف النمو الاقتصادي، وما بين قلق شعبي متنام، على استحياء، كردة فعل لرغبة شينزو في تعديل الدستور، والسماح لليابان بالتدخل العسكري الخارجي، ما يعنيه ذلك من إثارة حفيظة الصين وكوريا الشمالية بالضرورة، وصولاً إلى انخفاض تأييد «الحزب الليبرالي الديموقراطي» الحاكم، حزب اعتاد على تأييد بأكثر من 44% من إجمالي اليابانيين، إلا أن نسبه شهدت هبوطاً، في شهر آب من العام الماضي 2015، لتصل إلى 37% تقريباً.

بجمع تلك النقاط، وربطها ببعضها البعض، تتضح أسباب استراتيجية شينزو في الشهور الأخيرة، حيث عزز من ترابط الائتلاف الحاكم، المكون من «الحزب الليبرالي الديموقراطي»، وشريكه حزب «كومي»، في إطار عملهما لفرض سيطرة مطلقة على الغرفة البرلمانية العليا (مجلس الشيوخ)، كما فرضا سيطرتهما على مجلس النواب، مما سيتيح لهما أخيراً التحكم في الدستور وتغييره.

نحو روسيا.. حل قضية عالقة

كانت خطوته الثانية هي معالجة الركود الاقتصادي الياباني، ولأجل ذلك هندس شينزو وحزبه منذ البداية خطة «أبينوميكس»، وهي خطته الاقتصادية الطموحة لمعالجة الوضع، منذ انتخابه في انتخابات اليابان العامة 2012، لفترة حكم ثانية، والقاضية بمعالجة الاقتصاد بالصدمة، بعد توقف نمو لقرابة 20 عاماً، وتقهقر في عام 2010 من المركز الثاني للثالث، كأكبر اقتصاد عالمي، على يد الجارة الغربية (الصين).

أما الخطوة الثالثة، فكانت محاولة صناعة تحالفات جديدة، وتسوية أحد النزاعات الدولية الرئيسة، وفي هذا الصدد لا يوجد أهم من روسيا، ونزاع جزر الكوريل التاريخي، محاولة كفيلة برفع أسهم شينزو وحزبه في الداخل أكثر.

مشهد تموز: نجاح ساحق

لم يتوقع أحد ما حدث، أو أن يكون نجاح الائتلاف الحاكم بهذه النسبة، يوم الاثنين 11/تموز من العام الحالي، عندما حصل «الحزب الليبرالي الديموقراطي» على 56 مقعداً من أصل 121 في مجلس الشيوخ، وحاز حزب «كومي»، رفيق الائتلاف، على 14 مقعداً، ليصل الإجمالي إلى 70 مقعداً، بزيادة تسعة مقاعد كاملة عما كان شينزو يأمله.

هذا الفوز غير المتوقع والساحق، أعطى الائتلاف الحاكم فرصة تعديل الدستور، للمرة الأولى منذ 70 عاماً، وتحديداً الفقرة التاسعة منه، التي تشجب الحروب، وتحرم على القوات اليابانية التدخل العسكري في أية دولة أخرى. فوز لم تنظر له الصين بعين الارتياح أبداً، بينما اعتبره شينزو تأكيداً على ثقة الشعب في أبينوميكس، وقرر تعزيز الخطة بحزمة معالجة اقتصادية، تبلغ 99 مليار دولار، في قرار يهدف إلى طمأنة الداخل.

المجتمع الياباني مقسوم تماماً

على الجانب الآخر، بدا وكأن شينزو يحشد تأييداً داخلياً متصاعداً للمشاركة العسكرية الخارجية، الأمر الذي يبدو وكأنه دخيل على طبيعة الشعب الياباني المسالمة، وتغيير لافت للتركيبة النفسية الاجتماعية لليابانيين، تغيير ربما يستحق دراسته باهتمام من قبل علم النفس الاجتماعي.

المثير للاهتمام أن اليابان تعاني انقساماً بالفعل حول هذا الأمر، وبالطبع لا يمكننا نسيان بداية القصة: في أثناء جلسة البرلمان التاريخية، يوم 19/أيلول من العام الماضي، الجلسة التي استطاع شينزو فيها دفع التشريع القاضي بإتاحة مباشرة القوات العسكرية اليابانية لعمليات قتالية، خارج الحدود ودون تعرض اليابان لاعتداء، جلسة أطلقت عليها الصحف العالمية «مباراة مصارعة»، وبدت أشبه بذلك فعلاً، بعد معركة كبرى ولكمات بين النواب بعضهم البعض، وفي ظل محاولة منع رئيس البرلمان من توقيع القانون بالقوة حينها، من قبل المعترضين.

وأيضاً، لا يمكننا نسيان المظاهرات الطلابية المعارضة، التي امتدت لشهور قبل إقرار التشريع، وخرج فيها آلاف الطلاب واليابانيين عموماً، واضعة لبنة جديدة في المعركة السلمية اليابانية، ولحراك لم يعهده الداخل هناك من قبل.

يمكن تمثيل ذلك الانقسام في مشهد بالغ البساطة، منذ ثلاثة أشهر، على موقع «اليابان اليوم»، وفي 13/حزيران الماضي، أجرى محررو الموقع استطلاعاً للرأي، توجهوا فيه لرواد الموقع بسؤال بسيط، مفاده: «هل تظنون أن قوات الدفاع عن النفس اليابانية (مسمى الجيش الياباني) والتي لم تشترك في أية عمليات قتالية، منذ الحرب العالمية الثانية، تستطيع أن تحمي الدولة من اعتداء خارجي، أو تستطيع ممارسة مهامٍ قتالية خارج الحدود؟».

أتى التعليق الأول ليقول إنه إن اضطلعت القوات اليابانية بمهام خارجية، فربما عليها تغيير اسمها من قوات «الدفاع عن النفس» إلى «قوات شنزو آبي الهجومية»، في معارضة واضحة لتوجه السؤال، بينما قال تعليق يليه مباشرة أن اليابان لابد وأن «تأخذ من أدوار الولايات المتحدة العسكرية، وأن تحمل أعبائها في الدفاع عن نفسها».

مشهد أيلول:

«ربما لن تصادقنا موسكو»

تمتد جزر الكوريل البركانية في سلسلة متصلة، من شمال جزيرة هوكايدو، ممثلة الحدود الشمالية لليابان، وحتى جنوب جزيرة كامشتاكا في سيبيريا، وهي الحدود الجنوبية لروسيا، سلسلة متصلة طولها حوالي 1300 كم، مكونة من 50 جزيرة، تنازع طوكيو موسكو على الجزر الأربع الجنوبية منها، باعتبارها تابعة لهوكايدو، وليست امتداداً لكامشتاكا.

بعد زيارة سوتشي، واجتماع بوتين- شينزو غير الرسمي، احتفى بوتين بهذه الزيارة، وقال إن اليابان أحد أهم شركاء موسكو العالميين، وأنه على استعداد للتفاوض حول أزمة جزر الكوريل، النزاع الحدودي القديم المتجدد بين الدولتين.

تبدو ظاهرياً أزمة جزر الكوريل مستعصية، فمن جهة، تصر اليابان على استرجاع الجزر الأربع بشكل كامل، في وقت ترى فيه موسكو أن إرجاعها بالكامل خيار غير موجود، وأن ذلك بمثابة تسليم حدودها الجنوبية الشرقية ليد الولايات المتحدة مباشرة، وتنظر للأمر على أنه قابل لحل وسط، وهو ما سعت إليه موسكو منذ أعوام، عبر حل يشمل تسليم الجزيرتين الجنوبيتين لطوكيو، مقابل الاحتفاظ بالجزيرتين الشماليتين، إلا أن طوكيو ترفض بشدة، نظراً لأن أغلب المساحة المتنازع عليها تقع في الجزء الشمالي من الجزر الأربعة، لا الجنوبي.

بعد لقاء شينزو- بوتين في أيار الماضي، كتب ديميتري فيليبوف، الباحث في الدراسات الشرق آسيوية بجامعة شيفيلد، عن الفرص الواعدة أمام العاصمتين، لتحقيق تقارب مهم، فمن ناحية تستطيع موسكو الاستفادة من طوكيو لتصبح اليابان وسيطاً فوق العادة بين روسيا، وبين السبعة الكبار G7، بينما تعتمد اليابان على واردات الطاقة الروسية، منذ أعوام لا بأس بها، ولا تريد لذلك أن يتأثر بأي شيء، فضلاً عن محاولتها استغلال الأسواق الروسية، وتقليل الاعتماد التجاري الروسي على الصين.

إلا أن ديميتري نفسه عاد في حزيران الماضي، ليرصد تراجعاً شديداً في نظرته المتفائلة تجاه التقارب الحاصل، متسائلاً إن كانت تلك نهاية «شهر العسل» الروسي- الياباني قبل أن يبدأ، كما أطلق عليه، بناءً على حوادث عدة متتابعة في فترة ما بعد الزيارة، منها تراشقاً دبلوماسياً بخصوص الجزر المتنازع عليها، وتصريح لبوتين أن خيار «بيع الجزر لليابان» غير قابل للنقاش أو مسموح بطرحه.

بينما على الجانب الآخر، وعلى الرغم من رغبة اليابان في لعب دور الوسيط بين موسكو والسبعة الكبار، إلا أن بيان قمة الـG7 الختامي، في نهاية أيار الماضي، والذي حمل تصريحات شديدة اللهجة موجهة إلى موسكو، وحمل تجديداً للعقوبات الدولية المفروضة عليها، بل تلويحاً باتخاذ إجراءات أخرى إن لم تتراجع عن «التدخل العسكري في أوكرانيا»، كل ذلك أثار أسئلة عن قدرة اليابان في التأثير في رفاقها في المجموعة العالمية «الحاكمة»، أو إن كان شينزو يريد بالفعل التأثير فيهم، ولعب دور الوسيط كما كانت تريد موسكو.

على كلٍ، وكما السعودية، لا يبدو لليابان من مخرج، على المدى القريب، من الارتماء في الأحضان الأمريكية، أو محاولة إثارة غضب الحليف الياباني الأهم، حيث لا غنى لطوكيو عن واشنطن، ويمكن لشينزو أن يتعامل تجارياً مع موسكو، في إطار حاجة الاقتصاد للانتعاش، ويمكن له أن يلعب بورقة الكوريل، في إطار مسعاه لتأمين نتيجة برلمانية، إلا أن ذلك كله لا يمكن أن يمس القبضة الأمريكية، التي ترى في اليابان قاعدة دفاعية بالغة الأهمية، وسداً منيعاً ضد هيمنة إقليمية صينية، وضد جنون كوري قد يحدث في أي وقت، وبالطبع ضد عودة روسيا لطاولة «الكبار».

هل هذا يعني أنه ليس هناك استدارة يابانية؟

الخلاصات غير المتفائلة التي خرجنا بها في الفقرة السابقة لا تعني إطلاقاً أن الطريق مسدود بشكل نهائي أمام تدعيم العلاقات الروسية اليابانية. غير أن ذلك لا بد له أن يجري على شكل قفزة كبيرة من الجانب الياباني، لأنه، وبحكم أن اليابان تعتبر قاعدة أمريكية كبيرة في شرق آسيا، فإن الاستدارة بالتدريج تبدو عصية بشكل كبير.

إن السيناريو الذي نتحدث عنه هو ليس جديداً كلياً، إذ أننا نتكلم عن حركة تشبه الأحداث التي جرت في تركيا، والتي قادت إلى تبدل العلاقات التركية الروسية المتوترة، أو على أقل تقدير فتح الطريق أمام استدارة كاملة تركية مستقبلاً. وهو السيناريو الذي يبدو أن اليابان ستسير وفقه في حال كانت هناك استدارة.

وبحسابات الربح والخسارة، لا يختلف عاقلان على أن المصلحة اليابانية العميقة تتمثل في تأمين علاقات يابانية جيدة مع محيطها، حيث لا تحمل الإدارة الأمريكية سوى المزيد من مشاريع الانخراط الياباني العسكري في التصعيد الأمريكي الجاري في شرق آسيا، وهو ما يخالف جدياً رغبة الشعب الياباني الذي عبّر أكثر من مرة عن رفضه لهذا التورط، من خلال المظاهرات المنددة بالوجود العسكري الأمريكي في أراضي البلاد، لا سيما قاعدة أوكيناوا التي تعتبر أداة أمريكية متقدمة في إثارة وإدارة النزاعات في شرق آسيا.

في شباط من العام الجاري، كتب الباحث الياباني في الشؤون الأوراسية، ليزو كابي، ما مفاده أن اليابان ظلت وستظل حجر أساس في المشروع الأوراسي، وأن وجودها إلى جانب حليفتها الولايات المتحدة سوف لن يضمن لها سوى تحمل نفقات الحرب الأمريكية في العالم. لكن انقلاباً بحجم الاستدارة نحو المشروع الأوراسي يتطلب من اليابان أكثر من مجرد جهود دبلوماسية. إنه يتطلب من اليابان أن لا تكون تلك اليابان التي نعرفها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي سوقاً أمريكية كبيرة، ودولة تابعة مباشرة للشركات متعددة الجنسيات. وإن هذا الانقلاب هو ما تحتاجه اليابان في الواقع أكثر من أي وقت مضى، للحفاظ على نفسها دولة فاعلة في شرق آسيا.