نظرة على تجربة «بوديموس»
هيلوس نوز هيلوس نوز

نظرة على تجربة «بوديموس»

تمثِّل حيويّة حركة «بوديموس» اليسارية نموذجاً عن وضع اليسار اليوم في أوروبا. وإن كنا بعيدين كل البعد عن اعتبار «بوديموس» نموذجاً مكتملاً صالحاً للتعميم، إلا أن ما مرَّت به الحركة من استحقاقات وعوامل فرز تصلح لتكون موضوع نقاشٍ عام ليس لليسار في أوروبا فحسب، بل في العالم أيضاً. فهل يمكن للحركة الإسبانية البقاء على قيد الحياة؟ وهل لا يزال طرحها السابق حول «التموضع فوق اليسار واليمين» أمراً ممكناً؟

تعريب: عروة درويش

نمت حركة «بوديموس» خلال ثلاثة أعوام بسرعة كبيرة. تمّ إطلاق مشروع الحركة السياسيّة المضادّة للتقشف في 17 كانون الثاني 2014 من قبل مجموعة من الأكاديميين والمشاركين الذين دخلوا الانتخابات الأوروبية بعد ذلك بعدّة أشهر. وفي سياق الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية، كمن جوهر المسألة بالنسبة للحركة في «تحويل السخط إلى تغيير سياسي». ولهذا، سعى مؤسسو «بوديموس» إلى إيجاد ترجمة انتخابية لحركة السخط هذه، والتي نشأت في إسبانيا في 15/أيار/2011 (سنرمز لهذا التاريخ بـ15أ اختصاراً) للمطالبة بـ«الديمقراطية الحقيقية» والمزيد من العدالة الاجتماعية إلى الأجندة المؤسساتية.
من التأسيس إلى 20%
نقلت «بوديموس» النضال ضدّ التفاوت والفساد إلى صميم النقاش العام، وذلك في الوقت الذي كانت تتحوّل فيه أوروبا إلى الأحزاب اليمينية. وقد لاقى اقتراحها صدى كبيراً على الفور: تم عقد تجمعات إقليمية أو مواضيعية سميت «دوائر» على طول البلاد، وذلك استناداً لديناميّة (15أ).
وخلقت بوديموس أثناء الاقتراع مفاجأة بالفوز بما يقرب من 8% من الأصوات في الانتخابات الأوروبية التي أجريت في 25 أيّار 2014. ثمّ بدأت عملية مأسسة من أجل تحويل الحركة إلى حزب سياسي وإعطائها طابعاً قانونياً. وقد استغرقت كتابة أدبياته عملاً داخلياً ضخماً، وذلك بمساعدة العديد من المشاركين في وضع الميثاق الأخلاقي ووثائق التأسيس السياسية والتنظيميّة.
تمّ تحديد مشاريع متنوعة خلال المؤتمر الأول للحركة، حيث أتى المؤتمر التأسيسي «فيستالغر1» في تشرين الأول 2014، وهو الذي دار بشكل كبير حول الشخصية القيادية لبابلو إغليسياس الذي ترأس التصويت، وفيه مشروع «آلة الحرب الانتخابية» الذي هدف للتحضير السريع للانتخابات البلدية والإقليمية وخاصّة التشريعية لعام 2015. 
لقد كانت النتائج الانتخابية مذهلة: فشلت بوديموس بكل تأكيد في التحدي «للاستيلاء على الحكومة» على المستوى الوطني، لكنّها ضمنت دخولها إلى عدد من المؤسسات، ونصّبت نفسها قوّة سياسيّة ثالثة عبر الفوز بأكثر من 20% من الأصوات في الانتخابات التشريعية في 20 كانون الأول 2015.
«فيستالغر2» نقطة تحوّل
يحكم هذا الحزب الآن أكبر المدن في البلاد في إطار التحالفات الشعبية، ويشكّل إحدى قوى المعارضة الرئيسة في مجلس النواب وفي المجالس الإقليمية. وعندما انتهت دورة الانتخابات، وتمّت إعادة انتخاب ماريانو راخوي المحافظ ليترأس الحكومة في تشرين الأول 2016، وذلك بفضل امتناع الاشتراكيين عن التصويت، وجدت بوديموس نفسها تواجه تحديات جديدة. وقد تمّ تسليط الضوء على التناقضات التي يمرّ بها الحزب الشاب الذي وقف على أعتاب مؤتمره الوطني الثاني، والذي عُقد في شباط 2017 في فيستالغر (فيستالغر2). وقد ركّز الإعلام على الصراع بين الرفاق في المؤتمرين، وهما بابلو إغليسياس (السكرتير العام) وإنيغو إيروخون (السكرتير السياسي حتّى 18 شباط).
وما ينبغي الانتباه إليه هو أن التباين الذي شاركت فيه الاتجاهات الثلاثة داخل «بوديموس» في الأشهر الأخيرة (مؤيدو بابلو إغليسياس، ومؤيدو إنيغو إيروخون، و«مناهضو الرأسمالية»)، لا يقتصر على الخلاف بين الأشخاص، فهو يركّز على خارطة الطريق الجديدة التي يجب أن يعتمدها الحزب في سياق سياسي متغيّر.
وقد أثيرت أربع قضايا رئيسة في «فيستالغر2»: إعادة تحديد استراتيجية سياسية وطنية، واختبار السلطة في المدن التي يحكم فيها بوديموس مع تشكيلات سياسية أخرى، ومكانة المرأة داخل المنظمة، ودمقرطة الحزب. وبينما يظلّ الهدف المشترك هو تعزيز عملية التحوّل الاجتماعي من خلال الفوز في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فالاستراتيجيات تختلف حول كيفيّة تحقيق ذلك. هل ينبغي أن يتمتّع الحزب بالعمل المؤسساتي أم أنّ عليه أن يستثمر أكثر في اللجوء إلى الشوارع لتحدي سياسات اليمين؟ هل لا يزال توسيع القاعدة الانتخابية للحزب يعني «تجاوز الانقسام اليميني-اليساري» أم أنّه يمر عبر ترسيخ تحالفٍ أقوى مع اليسار؟ وإلى أي مدى ينبغي «دمقرطة» المنظمة داخلياً؟
الخطاب والتحالفات الثابتة إلى اليسار
بدأت الاختلافات السياسية بين مؤسسي نواة بوديموس – أساتذة العلوم السياسية في جامعة كومبلوتنس في مدريد، وناشطي «المناهضين للرأسمالية» اليساري- منذ تاريخ المؤتمر التأسيسي للحزب، حيث سعى الأساتذة إلى استبعاد «المناهضين للرأسمالية» من الهيئات القيادية عبر منع العضوية المزدوجة داخل منظمتين مختلفتين، ونجحوا في فرض مشروعهم السياسي. وكان الهدف هو إنشاء «آلة الحرب الانتخابية» لتبنى على منظمة مركزية وعلى خطاب «يتجاوز سمات اليسار واليمين». وقد دافع إنيغو إريخون بقوّة عن أفكار منظرين من أمثال إرنستو لاكلو وشانتال موف (راجع الحوار مع شانتال موف المنشور في قاسيون العدد 806).
أدار إغليسياس، الذي بدأ نشاطه السياسي مذ كان في سن الرابعة عشرة في الشبيبة الشيوعية، ظهره للاستراتيجية التي طرحها إريخون، وقاد التحالف مع «اليسار المتحد» من أجل الانتخابات البرلمانية في 26 حزيران 2016، وذلك خلافاً لنصيحة إريخون الذي بقي يسعى لتقديم صورة الحزب على أنّها «فوق الانقسامات التقليدية». وتعززت الخلافات في الرأي داخل قيادة بوديموس بعد هذه الانتخابات المخيبة للآمال، وذلك بسبب فقدان مليون صوت بالمقارنة مع الانتخابات السابقة. وهذه الخلافات مثبتة في الوثائق السياسيّة التي يدافع عنها تيّار إغليسياس الحالي «بوديموس بارا توداس»، وتيّار إريخون «ريكوبيرار لا إلوسيون». وتتعلّق الخلافات بالخطاب وبالتحالفات السياسية وبالتوازن بين العمل المؤسساتي والاحتجاجي من أجل تشكيل «حركة شعبية قادرة على الفوز بالانتخابات المقبلة». ويرغب إغليسياس، الذي يلتقي هنا مع مشروع «المناهضين للرأسمالية»، بتطوير «كتلة تاريخية شعبية» بالتعاون مع قوى التغيير الأخرى، بما في ذلك «اليسار الموحّد».
اختبار القوّة على المستوى البلدي
لم يتمّ تحديد الانتخابات البلدية كأولوية في مؤتمر بوديموس التأسيسي. وخلافاً لنصيحة بعض المشاركين والمرشحين الذين كانوا سيتقدمون للانتخابات، كان أساتذة جامعة كومبلوتنس يخشون من أن تعطّل الانتخابات المحلية الزخم الوطني الذي كان متوقعاً في نهاية العام. لذلك لم يدخل بوديموس الانتخابات باسمه الأصيل، بل انضم إلى تحالفات ذات شعبية تجمع الحركات الاشتراكية والأحزاب السياسية والمواطنين غير المنظمين. ربحت قوائم هؤلاء المواطنين في أكبر مدينتين في البلاد (مدريد وبرشلونة)، ولكن أيضاً في عدّة عواصم أقاليم ومقاطعات، ممّا شكّل واحدة من مفاجآت دورة 2015 الانتخابية. 
استغلّت بوديموس هذه الدينامية البلديّة لأجل إحياء حملتها للانتخابات التشريعية عن طريق تنظيم اجتماعات مع آدا كولاو، العمدة الجديدة لبرشلونة، والتي أتت من حركة تناهض طرد السكان من منازلهم. وقد بيّنت النجاحات البلدية أنّه بالإمكان كسب التأثير في المؤسسات، وتجريب ممارسات ديمقراطية جديدة، ومعارضة التقشف، والسعي لسياسات اجتماعية طموحة، حيث أطلقت الفرق البلدية في برشلونة ومدريد برنامجاً رئيساً للإنفاق الاستثماري والاجتماعي في الأحياء ذات الدخل المنخفض، والتي تمّ حشدها بقوة لانتخابهم، فقد انخفض الدين العام في عام واحد بنسبة 19.5% في مدريد و10% في قادش. ويعتزم إيغليسياس في «خطة عام 2020 للفوز ضد الحزب الشعبي وحكم إسبانيا» الاعتماد على التأثير الإيضاحي لهذه الأمثلة على الحكومة المحلية: «في كل مدينة ملتزمة بالتغيير، نبرهن يوماً بيوم بأنّنا مستعدون لمواجهة تحدي الحكم بطريقة متماسكة وموثوق بها».
المسألة الديمقراطية داخلياً
كانت الديمقراطية الداخلية إحدى القضايا الرئيسة المطروحة في «فيستاليغر1». أكثر حتّى من الوثيقة السياسية التي كانت توافقية تماماً، وكان الشقاق متعلقاً بالنصِّ التنظيمي. وقد أيدت العديد من التيارات مشاركة هامة للدوائر ولشكل السلطة الجماعي، مع البناء على مبادئ (15أ). ولذلك، فقد اقترح مشروع بابلو إشنيك وتريزا رودريغيز نظاماً للمتحدثين المتعددين على جميع مستويات المنظمة وإشراك الدوائر في القرارات الاستراتيجية. وذهب ترشيح آخر، قدّمه ناشط برشلونة من (15أ)، إلى أبعد من ذلك حتّى من خلال اقتراح انتخاب أعضاء مجلس المواطنين الوطني عن طريق القرعة. ولكن مجموعة «كومبلوتنس» تمكنت من تثبيت «هيكليّة رأسيّة ومركزيّة جداً»، حيث كانت المركزية مطلوبة قبيل الانتخابات المصيرية عام 2015.
لكن أدى تقليص قوة الدوائر أولاً وقبل كل شيء إلى تحييد قاعدة النشطاء الشعبية وإلى إضعاف ديناميّة الحركة الأولى، والتي بُنيت أصالتها على التنظيم الذاتي للتجمعات عبر البلاد. كما رأى البعض أن المركزة القويّة للسلطة في يد السكرتير العام أدّت إلى اتخاذ قرارات غير صحيحة مثل إقالة سيرخيو باسكوال (سكرتير المنظمة حتى آذار 2016) وخوسيه مانويل لوبيز (المتحدث باسم البرلمان الإقليمي في مدريد حتى كانون الأول 2016)، وهو ما زاد من التوترات الداخلية.
هنالك موضوع آخر من أوجه الخلاف يتعلّق بالإجراءات المشتركة الداخلية. فعلى الرغم من أنّ جميع التيارات تؤكد أنّ المشاركة هي مبدأ أساسي من مبادئ بوديموس، فإنّ الآليات المتماسكة تختلف. لا تقترح ورقة بابلو إيغليسياس عملياً أي تغيير على الترتيبات القائمة، والتي تقتصر على المشاورات الدورية التي يقوم بها المؤيدون بشأن المسائل التي تضعها القيادة على جدول الأعمال. ويتمثل التعديل الوحيد في تخفيض عتبة المؤيدين اللازمين للشروع في استفتاء على قرار يتعلق بمسألة سياسية رئيسة (10% بدلاً من 20%)، أو عملية إلغاء عضوية أحد القياديين (20% بدلاً من 25%). في المقابل، يريد تيّار إنيغو إريخون تخفيض هذه العتبة إلى 3% من الأعضاء النشطين للمشاورات العامّة، و15% للتصويت لإلغاء العضوية. كما أنّه اقترح أيضاً استحداث آليات جديدة للمشاركة الداخلية، مثل «المشاورات التداولية»، بحيث يتمّ استباق الاستفتاءات بمداولات أو «بمختبرات ابتكار سياسية» تهدف إلى تنظيم المناقشات بشأن بعض المسائل.
ما هي الاستراتيجية الأوروبية؟
«الوحدة والتواضع»: فرض المندوبون هذا الشعار على مؤتمر «فيستاليغر2»، وتمّت صياغته بشكل رسمي بتدخّل مستحسن جدّاً من قبل تيريزا رودريغز، وهي أحد أعضاء «مناهضي الرأسمالية»، ثم تلقفها بابلو إيغليسياس في خطابه الأخير. يبدو بأنّ التوزيع الجديد للمسؤوليات، الذي تمّ اعتماده في الاجتماع الأول «لمجلس المواطنين الوطنيين» في 18 شباط في أعقاب الاتفاق بين بابلو إيغليسياس (الذي عزز حضوره في الحزب)، وإنيغو إريخون (الذي وافق على التراجع خطوة إلى الوراء على الصعيد الوطني من أجل التركيز على الانتخابات الإقليمية المقبلة في مدريد)، يبدو بأنّه يستبعد لفترة من الوقت خطر الوقوع في شلل الانقسامات الداخلية. والمسؤولية كبيرة: إذ أنه ليس مستقبل بوديموس هو ما على المحك فقط، بل أيضاً مستقبل التشكيلات التقدمية في أوروبا في مواجهة صعود القوى المحافظة والكارهة للأجانب.
وباستخدام صياغة أنطونيو غرامشي الشهيرة: «العالم القديم يموت، والعالم الجديد تأخر في الظهور، وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش»، أكّد الحزب في تشرين الثاني 2016: «تنهض الوحوش عندما يتمحور ميدان المعركة السياسية حول مسائل الهويّة أو الارتباط الوطني، بدلاً من تمحوره حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية».

*عن «international viewpoint» بتصرف

التباينات الإسبانية الأوروبية
تكمن إحدى الاختلافات الكبيرة بين إسبانيا والدول الأوروبية الأخرى، مثل فرنسا، في الأسئلة التي تهيمن على النقاش الوطني العام: ليس مواضيع الأمن ولا الهجرة ولا الإسلام هي التي تشكّل محور جدول أعمال وسائل الإعلام والمحادثات العادية في إسبانيا، بل مكافحة الفساد والتفاوت الاجتماعي. 
وذلك نتيجة رئيسة لعمليّة التحوّل السياسي والاجتماعي التي تشهدها البلاد منذ عام 2011، بمساعدة حركة (15أ) وظهور تشكيلات سياسية مثل بوديموس. وهذا هو السبب في أنّ الحزب الجديد يمكن أن يشكّل حصناً ضد صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، مقترحاً طريقة أخرى لفهم الأزمة الاقتصادية: فالمسؤولية عن المشاكل الاجتماعية التي يواجهها السكان لا تنسب إلى الجيران الأجانب أو إلى الشخص الذي يعيش على «المعونة» التي يدعون بأنّها تسيء إلى الرفاه الاجتماعي، بل تقع المسؤولية على عاتق المصرفيّ والسياسي الفاسد.

نحو استراتيجية أوروبية لبوديموس
إسبانيا هي واحدة من البلدان الأوروبية القليلة التي لم تشجع الأزمة فيها تطوير تشكيلات كارهة للأجانب: فقد منيت محاولة إنشاء حزب يميني متطرف في نهاية عام 2013 بفشل ساحق، حيث حصل «فوكس» على نسبة 1.56% فقط من الأصوات في الانتخابات الأوروبية لعام 2014، و0.23% في الانتخابات التشريعية لعام 2015.
ولكي يتم التعبير عن هذا التغيير في إعادة توجيه السياسات العامة، ينبغي توضيح استراتيجية بوديموس الأوروبية وتعزيزها. ليس هنالك من ضمن المستندات التي تمّ الدفاع عنها في «فيستاليغر2» سوى مستندات «مناهضي الرأسمالية» التي تشير إلى «الدروس التي يجب استخلاصها» من التجربة اليونانية: وهي اكتشاف أنّ «استراتيجية التفاوض محكوم عليه بالفشل»، والدفاع عن «خطة بديلة» تنصّ على عصيان معاهدات الاتحاد الأوروبي. وبينما يواصل بابلو إيغليسياس دعم ألكسيس تسيبراس، فإن اقتراحهم يأخذ المطالب التي يدافع عنها بوديموس في البداية ثم يتخلى عنها، مثل تعليق ومراجعة الدين العام. إن السؤال الذي يفرض نفسه على جميع الأحزاب السياسية التي تهدف إلى إحداث تحوّل اجتماعي في أوروبا: «الفوز لأجل ماذا؟ لا تتعلق المسألة بالفوز بالأرض الانتخابية، ولكن بإعطاء السلطة الحقيقية لمعركة الأرض: تلك المعركة التي يحاول فيها رأس المال أن يفرض معاييره».