هل يتجه الغربُ شرقاً؟
بيتر كونيغ بيتر كونيغ

هل يتجه الغربُ شرقاً؟

لماذا عالمنا هو كرة نارية ضخمة من الأعمال العدائية والصراعات والتهديدات بالعقوبات الاقتصادية، وأجندات الكذب والتلاعب بالعقول والخوف والقتل والدمار الجماعي؟ قُتل ما بين 12 إلى 15 مليون شخص منذ 9/11 أيلول 2001، لمَ حدث هذا؟ وقد تمّت إثارة كلّ تلك الأشياء على يد بلد واحد، لتنفذه هي وأتباعها في حلف الناتو وشرق المتوسط. إنّ القتلة المرتزقون مثل «داعش»، هم فقط إحدى صنائع هذه الدولة المارقة المسماة بالولايات المتحدة الأمريكية.

تعريب وإعداد: عروة درويش

هل حقّاً يتم ذلك كلّه باستخدام تريليونات الدولارات من دافعي الضرائب؟ على الأرجح باستخدام تمويل القطاع الخاص: تخلق وول ستريت الأموال السهلة، الأموال الهرمية، بالاعتماد على الربا والدَّين، الدَّين الذي نهب وأخضع به المواطنين العاديين. لكن لم يتمّ تسديد الدين الحكومي أبداً، فبحسب ردّ آلان غرينسبان (رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي بين 1987 إلى 2006) على صحفي غاضب يسأله: «متى ستدفع الولايات المتحدة ديونها الضخمة؟» بالإجابة: «لن تفعل على الإطلاق. سنقوم بطباعة المزيد وحسب». إذاً، هل هذه أموال دافعي الضرائب حقاً؟ هل يمكن لأموال الضرائب دفع تكلفة تريليونات وتريليونات الدولارات التي يتم إنفاقها على الصراعات والحروب والأعمال العدائية التي لا تنتهي حول العالم؟ ليس هذا حقيقياً.

حرية الانعتاق من العوز
لماذا إذاً نعيش «بشكل طوعي» و«بكامل علمنا» ضمن اقتصاد الاحتيال والجشع هذا؟ هل العيش وفقاً لخدعة الوهم هي من يبقي الرأسمالية الفائقة حيّة؟ ألا يقودنا هذا إلى جشع أكبر، وثمّ إلى الفاشيّة المدمرة لنا جميعاً؟ ربّما يكون هذا الدمار عبر أسلحة تشبه انفجاراتها الفطر.
لماذا «نعبد» الحرب، إذا كان 99.99٪ من شعوب هذا العالم يريدون السلام؟ ولماذا نتسامح مع هذه الفظائع التي تفرضها دولة واحدة والتي تؤدي إلى تدمير بلدان وحضارات وتاريخ بأكمله؟ ما الذي وفرناه لمعيشة الأجيال القادمة؟ ما الذي لدينا أكثر من الشراهة والتراكم المجنون للسلع المادية والسلطة؟ أكثر من هيمنة قلّة على العالم؟ لماذا نتسامح مع اللاإنسانية التي يبديها «حكامنا»؟
من المفهوم جيداً بأنّ مثل هؤلاء القادة وصلوا إلى مناصبهم ليس عن طريق الانتخابات، بل عن طريق الاحتيال. لماذا لا نطردهم؟ لماذا ننحني وكأننا لا نزال نؤمن بأكذوبة «الديمقراطية»؟ إنّنا نعلم في بواطن عقولنا بأنّ حكوماتنا خدعتنا وخانتنا، ليس مرّة ولا مرتين، بل على الدوام.
ومن أجل تصويب الكلمات، فعندما أتحدث بصيغة «نحن»، فأنا أشملنا نحن الذين نعيش في الغرب.
يجب علينا أن نخرج من هذا الواقع الذي نعيش فيه أعظم كذبة في الوجود. يجب أن نعترف بأنّ الخطوة الأولى تكمن في الاعتراف بوجوب استعادتنا لحريتنا. الحرية التي نريدها، هي التي تحررنا من العوز والتي تحرر عقولنا لتسمح لنا أن نحب جميع مواطني العالم. إنّها حرية اعتناق السلام.

نمط اقتصادي جديد
ينتظرننا نموذج اقتصادي جديد، تقدِّمه الصين وروسيا: إنّه اقتصاد السلام. إنّه اقتصاد يدعمه العمل والبناء والأبحاث والتعليم والثقافة والذهب. ليس اقتصاداً أفقياً، بل اقتصاداً قائماً على الحقوق المتساوية والمنافع المتساوية لجميع المشاركين، اقتصاداً غير قائم على الحرب، وهو ما يناقض تماماً الاقتصاد الغربي المدمِّر الذي يعتمد على الربا. من هو الذي لا يمكن لمثل هذا النموذج الاقتصادي السلمي أن يجذبه؟
إنّ طريق الحرير الجديد - مبادرة «حزام واحد» التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ- والتي كانت تعرف فيما سبق باسم «حزام الطريق الواحد»، هو برنامج للتنمية الاقتصادية يمتدّ عبر القارة بأكملها في أوراسيا وشمال أفريقيا، من فلاديفوستوك إلى لشبونة، ومن شنغهاي إلى هامبورغ. الأقاليم جميعها مدعوة للانضمام إلى ما قد يصبح أكبر وأكثر مبادرات الاقتصاد اتساعاً في التاريخ. إنّه مسعى يوازي مليارات الدولارات، ويمكن أن يمتد بشكل حرفي لقرون، ويخلق البنية التحتية والعمل والتجارة والدخل والتقنيات الجديدة والتعليم... إلخ للكثير من المناطق التي لا تزال محرومة من الرفاه الإنساني إلى حدٍّ كبير.
ويشمل «الطريق» تطوير الطرق البريّة من وسط الصين إلى آسيا الوسطى وإيران وسورية وتركيا واليونان وأوروبا الشرقية، أي: بناء الموانئ والبنى التحتية الساحلية من جنوب شرق آسيا إلى شرق أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. في الواقع، لقد انطلقت المبادرة منذ 2013 عبر الرئيس تشي وهي قيد التنفيذ بالفعل. يُذكر بأنّ تحديث الصين لميناء بيرايوس اليوناني، وهو الأكبر في المتوسط، جزء من البرنامج.
وهذا يبقي بروكسل متوترة. فصخرة الفساد والوحل تخشى بأن تفقد السيطرة على اليونان، أحد أعضاء الناتو. تؤكد الدبلوماسية اليونانية «الولاء»، ومع ذلك، وبفضل الضغط اليوناني في ظل الظروف الجديدة، فقد تمّ إيقاف الإدانة والعقوبات بسبب «حقوق الإنسان» الموجهة ضد الصين، والتي عملت واشنطن على استخدامها للضغط على الصين وكوريا الديمقراطية، وذلك بعد تدخل اليونان نيابة عن الصين. يا له من انتصار لبلد صغير مداسُّ بالأقدام مالياً ومهان بشكل مقصود اقتصادياً من قبل ألمانيا والترويكا الشائنة. لا يظهر هذا الأمر تحايل الغرب وحسب، بل خوفه من الشرق. فبروكسل وواشنطن يعلمان جيداً أين يقع مستقبل العالم.
يحمل إنعاش طريق الحرير القديم بتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، كما تسميه الصين، معه أيضاً تمويلاً لتعزيز الاحتياجات الأساسية، مثل: التخطيط المديني، وإمدادات المياه والصرف الصحي، وإنتاج الأغذية وتوزيعها. وسيتمّ تطبيق الوقائع القديمة لمزايا الإنتاج المقارن في سوق مفتوحة يساوي بين الجميع، والذي بدأ بالفعل في إطار «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي – EAEU» الذي وقّع عليه الرئيسان بوتين وشي في أيّار 2015، وسرعان ما توسع غرباً.

جاهزون لبدايةٍ جديدة
يُشار أحياناً إلى البرنامج على أنّه «خطّة مارشال» الشرقية. لكن ينبغي بدلاً من ذلك أن يسمّى بخطة شي. الخطّة مزوّدة بالأدوات المالية المناسبة، وأهمها «بنك آسيا والمحيط الهادئ للبنية التحتية والاستثمار – AIIB» في بكين. تهدف خطة شي للتنمية الاقتصادية ورفاه الشعوب، في حين تمّ تصميم «خطّة مارشال» لخداع واستغلال واسترقاق أوروبا بمؤسسات «بريتون وودز» التابعة لها، وقد نجحت في ذلك.
«AIIB» هو مصرف إنمائي متعدد الأطراف. وقعت 57 دولة في حزيران 2015 على اتفاقية البنك التي دخلت حيز التنفيذ في 25 كانون الأول 2015. بدأ البنك عملياته في 16 كانون الثاني 2016. ارتفع عدد أعضائهِ في 31 آذار 2017 إلى 70 عضواً، وهنالك متقدمون على لائحة الانتظار. لدى البنك رأسمال مصرّح به يعادل 100 مليار دولار أمريكي، ويعادل 18.4 مليار دولار أمريكي مدفوعة بحلول 31 آذار 2017.
ومن بين أعضاء البنك العديد من الدول الغربية من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والعديد من البلدان
(الاسكندنافية القديمة) وأستراليا وغيرها. وقد قرروا الانضمام في كل الأحوال، على الرغم من اعتراض واشنطن. إنّهم يدركون بأنّ المستقبل في آسيا، في الشرق، والكثير منها يمثله هذا العمل الواعد: طريق الحرير الجديد. بعد أن عاشوا في وهم وخداع الاقتصاد النقدي الذي يديره القطاع الخاص لأكثر من 200 سنة مضت، فإنّ حتّى أعتى حلفاء وأذلاء واشنطن أصبحوا حذرين وجاهزين لبداية جديدة.

نعش «بريتون وودز»
سيشكّل البنك منافساً شديداً لمؤسسات «بريتون وودز»: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. خاصّة وأنّ «AIIB» سيقوم بعملياته بشكل عادل: فليس هنالك تكيّف هيكلي خانق من أجل خصخصة القطاعات الاجتماعية والموارد الطبيعية، ومن أجل إغراق الدول النامية في بؤس وقهر برامج التقشف التي لا تنتهي. إنّ سجلات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تسبيب البؤس والمشقّة لا حصر لها. تنتظر معظم البلدان النامية التي لا تثق في ممارسات تلك المؤسسات بأن تصبح عضواً في «AIIB» من أجل الضلوع بتطوير اقتصادي يعود بالنفع بشكل حقيقي على شعوبها.
لقد وصف مساعد وزير الدفاع الأسبق، تشارلز فريمان، مشروع «الطريق الواحد» بأنّه:
«ربّما هو الجهد الهندسي التحويلي الأكبر في تاريخ البشرية. ستصبح الصين مركز الثقل الاقتصادي العالمي كما أصبحت أكبر اقتصادٍ نامٍ في العالم. لا يتضمن برنامج «الحزام والطريق» أيّ مكون عسكري، لكنّ لديه القدرة الواضحة على تغيير الجغرافية السياسية في العالم، تماماً كما الاقتصاد فيه».
حتّى صحيفة «نيويورك تايمز» أشادت به: «المبادرة... تلوح في الأفق مع قليل من السوابق لها في التاريخ، وتعد بإنفاق أكثر من تريليون دولار في البنية التحتية وتمتدّ لأكثر من 60 بلداً. يهدف السيد شي إلى استخدام ثروة الصين ومعرفتها الصناعية في خلق نمط جديد من العولمة التي تستغني عن قواعد هيمنة المؤسسات الغربية الطاعنة في السن. الهدف هو إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، وجذب البلدان والشركات بشكل أكثر إحكاماً إلى فضاء الصين. يستحيل على أيّ زعيم أجنبي أو مسؤول تنفيذي في شركة متعددة الجنسيات أو مصرفي دولي أن يتجاهل دفع الصين لإعادة تشكيل التجارة العالمية. إنّ النفوذ الأمريكي في المنطقة في تراجع».

NDB على جدول الأعمال
اجتمع أعضاء مجموعة «بريكس»: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا في أوائل أيلول الجاري في مدينة شيامن الساحلية في مقاطعة فوجيان الصينية «لتعميق شراكة بريكس وفتح الطريق لمستقبل أكثر إشراقاً».
ومن بين البنود الرئيسة التي أدرجت في جدول أعمالها هو «بنك التنمية الجديد – NDB» في بريكس، و«ترتيب الاحتياطي الممكن – CRA». وسيكون المقر الرئيس لبنك بريكس في شنغهاي، وسيعمل بالتوازي مع «AIIB» من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي والنمو ورفاه الإنسان.
وتمّ التوقيع على معاهدة «بنك التنمية الجديد» في تموز 2015، برأسمال مشترك قدره 50 مليار دولار أمريكي، منها 10 مليارات دولار أمريكي مدفوع و40 مليار دولار أمريكي تحت الطلب. ويعنى بنك بريكس، على غرار ما هو عليه الأمر في «AIIB»، بتمويل تطوير البنية التحتية والطاقة في المقام الأول. من جديد، التمويل من أجل اقتصاد السلام.

لنخرجهم من حياتنا
لنكن واضحين: لا أحد يرغب في الموت، لا القتلة في البنتاغون أو في وكالة المخابرات المركزية أو في وكالة الأمن القومي أو في مكتب التحقيقات الفدرالي، ولا مرتكبو المجازر في المجمع الصناعي العسكري، ولا القتلة الماليون في البنك الاحتياطي الفدرالي وفي وول ستريت، ولا مرتزقة دعاية «الأخبار الكاذبة» في الإعلام السائد. لكنّهم جميعاً في النهاية سيواجهون ما اقترفت أيديهم وسيغرقون في مستنقعاتهم، أو لنقل في مجاريهم الخانقة.
لكن حتّى يدفعوا ثمن ما اقترفت أيديهم، فإنّ علينا أن نخرجهم من حياتنا ونعزلهم عن رفاهنا الإنساني بحيث نتخلص من الجشعين بيننا. يجب أن نهمشهم، ولكن كيف لنا ذلك؟

قطار السلام الآتي من الشرق
ستشكّل مبادرات التمويل الجديدة تحدياً خطراً لمؤامرات النقد الغربية، وشوكة في عين حملة واشنطن لإدامة هيمنة الدولار. وعلى الرغم من أنّ رأس المال الأساسي لمصرفي «AIIB» و«NDB» لا يزالان محسوبين بالدولار الأمريكي، فمن المرجح أن يغيّر في المستقبل القريب إلى نمط «سلّة العملات»، أي: على غرار حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي، ولكن دون وجود الدولار الأمريكي.
بوجود هذا المنظور المشرق لاقتصاد السلام الآتي من الشرق، من هو ذا الذي يريد أن يستمرّ بالالتزام بالنظام النقدي الغربي، الذي لم يكن قائماً يوماً على الإنتاج الاقتصادي، بل الذي استخدم للتلاعب بالاقتصادات العالمية على حساب الشعوب العاملة ولمصلحة منشئي النظام والمالكين: روتشيلد وروكفلر ومورغان وغولدمان ... وغيرهم.