معضلة التصنيع الأمريكي... التراجع قدر محتوم
مارتن هارت مارتن هارت

معضلة التصنيع الأمريكي... التراجع قدر محتوم

ازداد الوعي وعدم قبول النتائج السلبية للعولمة التي تقودها الشركات على العمالة في الولايات المتحدة على طول السنين الماضية، والذي تلقى العون بشكل جزئي من هجوم ترامب على اتفاقات مثل: «اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية». ونحن نعلم بكل تأكيد الكذب والتضليل المتعمد لترامب عندما يدّعي بأنّ الشركات الأمريكية قد عانت بدورها من العولمة. وفي الحقيقة فإنّ إجراءاته لرفع الرسوم الجمركية هي ردّ غير نافع على الصعوبات التي يواجهها العمّال.

تعريب وإعداد: عروة درويش

رغم ذلك لا يزال هنالك الكثير من الاقتصاديين الذين يجادلون بأنّ القلق من التبادل التجاري في غير محله، وبأنّ قطّاع الصناعة الأمريكي قويّ عموماً، وبأنّ التقدم التكنولوجي وتحديداً الأتمتة (استبدال العمال بآلات) هما السبب الرئيس في انخفاض معدلات التوظيف في الولايات المتحدة.
تردّ الاقتصادية سوزان هاوسمان- في بحثٍ حديث منشور باسم: «فهم انخفاض العمالة الصناعية في الولايات المتحدة»- بشكل فاعل على هذا الحجاج عندما تصل لاستنتاج: «إنّ الإنكار واسع النطاق للضعف الصناعي الوطني ولدور العولمة في انهيار العمالة قد عرقل النقاش الضروري والمستنير بشأن سياسات التبادل التجاري».
ما الذي يحصل للقطّاع الصناعي؟
يظهر الجدول بأنّ العمالة الصناعية قد بقيت بالكاد مستقرة منذ منتصف الستينيات وحتّى بداية الثمانينيات، ثمّ تبدأ بالانخفاض حتّى عام 2000، ثمّ تنخفض بعدها بشكل شديد.
الجدول التقريبي 1:
عند المقارنة بين أداء القطّاع الصناعي، الإنتاجي والعمالي، مع كامل أداء القطّاع الخاص، يتبيّن لنا بأنّ النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي للقطّاع الصناعي قد تساوى بالكاد مع النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص.
يظهر الجدول الثاني بأنّ حصّة التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص والعمالة قد سقطت بشكل ثابت. لقد وصلت حصّة التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص إلى ذروتها عند 36% في 1953، لتسقط إلى 13% عام 2016. ووصلت حصّة التصنيع من عمالة القطّاع الخاص إلى ذروتها عند 35% في عام 1953 أيضاً، ثمّ سقطت إلى ما دون 10% عام 2016.
الجدول التقريبي 2:
إنّ الذين يجادلون بأنّ القطّاع الصناعي لا يزال صحياً، يعتمدون في حججهم على النمو القويّ نسبياً للقطاع، وعلى حقيقة تحقيق ذلك عبر توظيف عمّال أقل. فكما علّق هاوسمان على الأمر: «لقد اعتبر الكثير من الباحثين الاقتصاديين بأنّ النمو دليل جليّ وقوي على أنّ زيادة النمو الإنتاجي في التصنيع قد تسببت إلى حدّ كبير في الانخفاض النسبي والمطلق للتوظيف الصناعي، وذلك بسبب الأتمتة سواء قالوها بشكل علني أو ضمني. وحتّى عندما تكون هناك بعض الأدوار للتجارة، فهي أدوار صغيرة، وتمّ اعتبارها حتمية الحدوث».
لكن هناك ما يثير الحيرة هنا. فالأرقام تظهر بأنّ نموّ الناتج الإجمالي المحلي التصنيعي قد تطابق عموماً مع النمو في الناتج المحلي الإجمالي لكامل القطّاع الخاص، وذلك في ذات الفترة التي كانت فيها حصّة التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي الخاص قد هوت بشكل مطّرد. يعرِض هاوسمان الحلّ لهذه الأحجية:
«رغم أنّ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للقطاع الصناعي يواكب نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في كامل الاقتصاد، فإنّ حصّة التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص آخذة في الانخفاض، وعليه فإنّ متوسط نمو أسعار السلع المصنعة قد انخفض عن نمو السعر الوسطي لكامل السلع والخدمات المنتجة في كامل الاقتصاد».
بكلمات أخرى: إنّ النمو البطيء نسبياً في أثمان السلع المصنعة كان ليعزز القيمة الحقيقية للسلع المنتجة. وفي ذات الوقت كان أيضاً ليتسبب بانخفاض في حصّة قطّاع التصنيع من كامل المُخرجات. يظهر لنا عند فحص انكماش الأسعار هذا الميل، حيث يرتفع معدل انكماش الأسعار للقطاع الخاص بشكل مطّرد، ويبقى معدل انكماش الأسعار للتصنيع ثابتاً نسبياً منذ فترة الثمانينيات. وعليه فإنّ النمو القوي في الناتج الإجمالي المحلي للتصنيع وقصّة الأتمتة المرتبطة به يقعان موقعاً ثقيلاً بتفسير السلوك اللافت لميل معدل انكماش أسعار التصنيع.
وهنا تكمن المشكلة. وجد هاوسمان بأنّ النمو القوي في الناتج المحلي الإجمالي يقوده سلوك أسعار البضائع المنتجة عبر عمليات تصنيع فرعية، ونقصد هنا تحديداً مجال أعمال الكمبيوترات (وهو الذي يتسع ليشمل أشباه الموصلات):
«رغم أنّ مجال أعمال الكمبيوترات يشكّل أقلّ من 15% من القيمة المضافة للتصنيع خلال ذات الفترة، فإنّ له تأثيراً كبيراً على المخرجات الحقيقية المقاسة وعلى نمو الإنتاجية في القطّاع الصناعي، ممّا يفسد هذه الإحصاءات ويعطي انطباعاً مضللاً عن كون التصنيع الأمريكي بحالة جيدة».
البحث أعمق في البيانات
يظهر الجدول 3 مؤشرات أسعارٍ لمجالات الأعمال وللصناعات الخاصة مع عزل مجال أعمال الكمبيوترات لوحده. فإنّ أغفلنا مجال أعمال الكمبيوترات تتبع مؤشرات أسعار مجال الأعمال الخاص والتصنيع بعضهما البعض بشكل كبير. ومن ناحية أخرى فإنّ مؤشر أسعار مجال أعمال الكمبيوترات قد سار على إيقاع مختلف إلى حدٍّ كبير جداً.
الجدول التقريبي 3:
ويبيّن لنا الجدول 4 مدى أهميّة معدل الانكماش المذكور في النقاش حول مدى صحّة القطّاع التصنيعي في الولايات المتحدة. فبدءاً من منتصف الثمانينيات نرى هوّة كبيرة بين نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للتصنيع- إذا ما أغفلنا مجال أعمال الكمبيوتر- وبين نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لكامل القطاع الخاص والتصنيع بما في ذلك مجال أعمال الكمبيوتر.
وبشكل أكثر تحديداً: «منذ 1979 إلى 2000، كان قياس الناتج المحلي الإجمالي في التصنيع 97% من متوسط القطّاع الخاص. عندما أسقطنا مجال أعمال الكمبيوتر تبين لدينا بأن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للتصنيع هو فقط 45% من كامل القطّاع الخاص». وكان النمو في قطّاع التصنيع، مع إغفال مجال أعمال الكمبيوتر، بطيئاً بشكل استثنائي على مدار الفترة الواقعة بين عامي 2000 و2016. «كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للتصنيع خلال تلك الفترة عند 63% من متوسط نمو القطّاع الخاص. وعند إغفال مجال أعمال الكمبيوترات يقترب النمو الحقيقي للإنتاج الصناعي من الصفر (حوالي 0,2% سنوياً)، وفقط 12% من متوسط القطاع الخاص في القرن 21».
الجدول التقريبي 4:
يبدو واضحاً بأنّ قطّاع التصنيع يعاني بشكل فظيع عند إغفالنا لمجال أعمال الكمبيوترات. لكن ما الذي يشرح الأداء القوي لمجال أعمال الكمبيوترات؟ سيتبين لدينا تالياً: أنّ هناك سبباً يدفعنا لنؤمن بأنّ أداء مجال أعمال الكمبيوتر- وبالتالي مساهمته في القطّاع الصناعي- مبالغ أيضاً في تقديره، وهذا يؤدي بنا إلى تقويض الادعاءات بالصحّة الجيدة للقطاع الصناعي.
مجال أعمال الكمبيوتر
يتم حساب الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي عبر تقسيم قيمة الدولار السنوية لمبيعات مجال الأعمال على معدل انكماش السعر. وعليه فإنّ زيادة حقيقية في المخرجات تتطلب من مبيعات مجال الأعمال أن تنمو بسرعة تفوق نمو أسعاره. فإن تضاعفت المبيعات وتضاعفت الأسعار لن يكون هناك ربح حقيقي.
تتغير نوعية المنتج بشكل بطيء في معظم مجالات الأعمال ممّا يسمح بمقارنات سنوية واضحة نسبياً لمخرجات الدولار. لكنّ مجال أعمال الكمبيوتر يقع في حالة شاذّة في هذا السياق، فمنذ أعوام وهو ينتج منتجات أقوى بشكل واضح كلّ عام، علاوة على أنّه خفّض أسعاره.
وكنتيجة لهذا السلوك غير الاعتيادي، فإنّ تقدير النمو الحقيقي لمجال أعمال الكمبيوتر يتطلب تكييفاً معقداً لمؤشرات أسعار مجال الأعمال من أجل حساب الزيادة السنوية في قوّة الكمبيوترات وسرعتها. لقد تمّ تولّي الأمر بشكل عام كما يلي: إن اشترى المستهلك كمبيوتراً يحوي قوّة تزيد بنسبة 20% عن نموذج العام الفائت، فإنّ الحكومة تعتبر بأنّ كلّ 100 كمبيوتر جديد يتم إنتاجها تعادل 120 كمبيوتر من نموذج العام الفائت. وينتج عن مثل هذا التكييف زيادة هامة في مخرجات مجال الأعمال، هذا حتّى لو تمّ إنتاج ذات عدد الكمبيوترات الحقيقي، وهي الزيادة التي تعظيمها أكثر، بسبب الانخفاض في الأسعار في مجال الأعمال هذا.
وفي حين أنّه من المنطقي تماماً أن نكيّف مخرجات مجال أعمال الكمبيوترات على أساس الجودة عندما ندرس أداء هذه الأعمال، فعلينا أن نكون حذرين عندما يتم استخدام النتائج في حساب أداء كامل الصناعات. إنّ إرجاع مكاسب مجال أعمال الكمبيوترات السريعة جداً إلى الزيادة الكبيرة في المخرجات مع تخفيض العمالة هو أمر مضلل كمقياس للنشاط الصناعي الحقيقي لسببين، أولاً: هم مدينون بشكل أكثر لتحسين الجودة صعب القياس، والذي يقوده البحث والتطوير، وثانياً: هو أنّ نسبة متنامية من إنتاج الكمبيوترات قد تمّت عولمتها بحيث اتخذت مكاناً لها خارج الولايات المتحدة.
وكما يقول هاوسمان: «يمكن للتكييف القائم على الجودة في مجال أعمال الكمبيوتر أن يخلق أرقاماً يصعب ترجمتها. فمجال أعمال الكمبيوترات، رغم أنّها ضئيلة التقدير بالمال، تفسد إحصاءات الصناعات الإجمالية، وقد قادت إلى الكثير من الإرباك. وتظهر لنا الأرقام- التي نعزل فيها مجال الأعمال ذاك- صورة أوضح عن الميل في مخرجات التصنيع» وكما رأينا فإنّ هذا الميل لا يدعم الادعاءات بأنّ لدى الولايات المتحدة قطّاعاً صناعياً بصحة جيدة.
الانخفاض في العمالة الصناعية
ويبيّن لنا هاوسمان أيضاً: المغالاة الشديدة بدور الإنتاجية في انخفاض العمالة الصناعية. فكما يبيّن لنا الجدول 1 بشكل جلي، فإنّ أعداد العاملين في المجال الصناعي تنخفض منذ وقت ليس بالقصير. ففي الفترة ما بين 1979 و1989 خسر القطاع الصناعي 1,4 مليون وظيفة، حيث تركزت الخسائر في صناعة الأقمشة والنسيج والمعدن بشكل رئيس.
«كانت العمالة في المجال الصناعي مستقرة بشكل نسبي في التسعينيات. رغم ذلك فقد انخفضت العمالة المقاسة بنحو 700 ألف وظيفة أو 4% ما بين عامي 1989 و2000، ويمكن تفسير هذا الانخفاض بالأعمال بشكل كلي بالاستعانة بمصادر خارجية للقيام بالعمليات التصنيعية بدلاً من المصادر المحلية... فلو تمّ حساب هؤلاء العمال في التصنيع لزادت عمالة التصنيع بنسبة 1,3% بدلاً من أن تنخفض».
ويظهر لنا الجدول 1 كذلك بأنّ الانخفاض العنيف في العمالة الصناعية قد بدأ مع بداية القرن 21. فقد تهاوت العمالة الصناعية ما بين عامي 2000 و2007 بنحو 4,3 مليون وظيفة أو بنسبة 20%. وهذه الفترة هي بكل تأكيد فترة العولمة المركزة، وربّما يمكن وسمها بشكل أفضل بدخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001.
وجد هاوسمان عند فحص البيانات، أنّ النمو الوسطي السنوي للعمالة في التصنيع كان أقل بقرابة 2,5% من متوسط نمو العمالة في القطّاع الخاص ككل خلال الفترة ما بين عام 1977 و2016. يتم حساب 15% فقط من هذا الفارق من خلال انخفاض نمو المخرجات الصناعية، أمّا الباقي فيتم تفسيره عبر نمو الإنتاجية العالية. لكن: «عندما تمّ إغفال حساب مجال أعمال الكمبيوترات، فقد تمّ حساب 61% من انخفاض نمو العمالة الصناعية عبر نمو المخرجات الصناعية المنخفضة، و39% فقط عبر نمو إنتاجية العمالة المرتفعة».
يعلّق هاوسمان قائلاً: «إنّ الهدف من هذه الحسابات هو إظهار أنّ نمو الإنتاجية ليس المسؤول لا بالكامل ولا بشكل رئيس عن الانخفاض النسبي أو الكلي في العمالة الصناعية».
وهنالك أيضاً سببٌ لمساءلة معاني أرقام إنتاجية مجال أعمال الكمبيوترات القوية. يتم تعريف إنتاجية العمالة بأنّها القيمة المضافة إلى مجال أعمال ما مقسومة على مُدخل العمالة. وفي حالة مجال أعمال الكمبيوترات فإنّ أكثر ما يدفع نمو الإنتاجية هو التحسينات على المنتج وليس الأتمتة، وهو ما يعزز قيمته المضافة. لكن الاستعانة بمصادر خارجية عالمية في الإنتاج له دوره أيضاً. ففي حين أنّ الاستعانة بمصادر خارجية يقلل القيمة المضافة لمجال الأعمال، فهو يخفض مُدخل العمالة فيه بشكل أكبر بكثير. وعليه يبقى من غير الواضح المدى الذي ساهمت فيه الزيادة الإنتاجية المعتمدة على أتمتة الإنتاج في تخفيض العمالة الصناعية في الولايات المتحدة، وينطبق ذلك حتّى على مجال أعمال الكمبيوترات.
وعلى قدر كبير من الأهمية، تبدو لنا الدراسات المتزايدة التي تستنتج بأنّ العولمة هي العامل الرئيس وراء الانخفاض الأخير في العمالة الصناعية في الولايات المتحدة. وكمثالٍ عن هذه الدراسات: ما قاله الاقتصاديون دافيد آرثر ودافيد دورن وغوردون هانسون: «تشير التقديرات المتحفظة إلى أنّ المنافسة التي تشكلها الواردات الصينية تفسّر 16% من انخفاض العمالة في الولايات المتحدة بين عامي 1990 و2000، و26% من الانخفاض بين عامي 2000 و2007، و21% من الانخفاض في كامل الفترتين». وقد وصلت الدراسات أيضاً إلى أنّ «المنافسة التي تشكلها الواردات الصينية تقلل بشكل كبير من الأرباح في القطاعات غير الصناعية».
باختصار: هنالك أسباب وجيهة تدفعنا للتشكيك في الصحّة الجيدة لقطّاع التصنيع في الولايات المتحدة، وإلى تحميل المسؤولية الكبرى في ذلك لاستراتيجيات العولمة التي تقودها الشركات.