الانتفاضة الفلسطينية: الفعل الشعبي الوطني
خالد بركات خالد بركات

الانتفاضة الفلسطينية: الفعل الشعبي الوطني

منذ أوائل القرن الماضي تعرّف الشعب الفلسطيني على معنى “الهوجة” و “الهَبَة الشعبية” و “الثورة” و “حرب التحرير الشعبية” و “الانتفاضة” وكان الشعب الفلسطيني يثور في كل مرة ليؤكد وجوده وقدرته على النهوض مجددًا واستعداده للتضحية، ومقاومته للاستعمار والهجرة الاستيطانية الصهيونية.

ولم يقبل بأشكال الوصاية العربية الرّجعية فانتفض عليها ورفض وجود الكيان الإسرائيلي العنصري في وطنه وظل يرفضه وينفجر كل عشرين سنة. ويمكن القول إن الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت مع وعد بلفور، لاتزال مستمرة، إنها انتفاضة واحدة في جوهرها، تكثيف حيّ للإرادة الشعبية الفلسطينية في فعل مقاوم جماعي وموحد ينشد التغيير والانعتاق والتحرير.

ولكن! مع كل انتفاضة فلسطينية، كان الشعب الثائر يقف أمام عدو امبريالي صهيوني عربي رجعي متعدد الجهات والهويات، ويتأمل أحوال قيادة عربية-فلسطينية عاجزة، تتلعثم في المعركة وتسقط في منتصف الطريق، قيادة فاشلة، تطعنه في ظهره، فقيرة الفكر وهشة الوعي والانتماء…

ومنذ هبة البراق عام 1929 حتى انتفاضة الأقصى في العام 2000 وصولا إلى اليوم، مرّت مياه كثيرة تحت جسر النضال الوطني الفلسطيني، وتغيرت الأسماء وتبدلت الرموز، حتى ألوان العلم الفلسطيني تغيرت، والرايات والشعارات والأحزاب وأسماء الصحف تغيرت هي الأخرى، لكن ظل الإنسان الفلسطيني يشهر السلاح ـ حجارته إذا احتاج الأمر، وينتفض الجسد الأعزل في وجه الاستعمار الاستيطاني وكيان الاحتلال.

لكن لماذا لا تنتصر الانتفاضة؟ وإلى أين تذهب؟ ولماذا لا تحقق الجماهير الفلسطينية أهدافها رغم كل التضحيات والعذابات؟! ولماذا بعد كل انتفاضة شعبية ومسلحة يجد الشعب الفلسطيني نفسه يقف على أرض أقل؟

تنطلق انتفاضة الشعب الفلسطيني هادرة ونبيلة ومبشرة، ثم ما تلبث أن تتعثر وتخبو نارها، تحاصر ويمنع عنها الهواء حتى تسكن إلى ذاتها مرّة أخرى وتعود لبيوت التنك والصفيح وبذرتها الأولى في المخيمات والقرى وأحزمة البؤس، وتعود منهكة ومتعبة ومطعونة وقد شيعت آلاف الشهداء. وتعود إلى الذين صنعوا شرارتها الأولى وسهروا على نارها ودفعوا كل شيء مقابل أن تبقى شعلتها مستمرة. وتنتظر عودة اللاجئين والأسرى. تذهب الانتفاضة إلى حقائب مدرسية صغيرة، تتوارى من جديد بين دفتي كتاب مدرسي وريشة فنان وطفل يكبر في الوطن والمنافي وفي أنفاس البشر وفي زحمة الشوارع. تطوي نفسها وتنام!

وحين تولد الانتفاضة تأتي كحالة ثورية عفوية لتخلط أوراق النظام الدولي وتعيد الصراع مع العدو الصهيوني إلى قانونه الأول. تأخذ الانتفاضة شكل المبادرة الشعبية، تأتي فجأة، ومع كل فعل، مع كل رصاصة أو ضربة مقلاع أو قصيدة شعر وأغنية تؤكد على جوهرها الديموقراطي الإنساني. ولا تعرف أسرار الانتفاضة وكيف قرر الشعب أن يثور. دفعة واحدة وكأنه على موعد واتفاق!

ولأنها ثورة شعبية، وضد عدو مركب الأبعاد والأضلاع، أجنبي مستعمر وصهيوني محتل، وعربي رجعي وفلسطيني فاسد، يتكاثر حولها الأعداء ويشتد الحصار عليها وتزفر عجلة الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية، لإنقاذ العدو. فينعقد مجلس الأمن وتشكل الأمم المتحدة لجان التحقيق الجديدة، ويتذكر العالم وجود شعب معذب، تنطلق مبادرات سياسية في كل صوب واتجاه، ويحدث كل ذلك لإجهاض الانتفاضة، دفن هذا النموذج الخطر على قوى الاستعمار ووكلائه. ويتصرف العالم كأنه إطفائية تخيفها شعلة الانتفاضة القريبة من آبار النفط في المنطقة.

تفتح الانتفاضة أفاقا وفضاءات جديدة ورحبة أمام قوى الأمة التي تنشد التغيير والتحرر تصبح الانتفاضة الثورة الشعبية الحقيقة الوحيدة التي تفرض سطوتها على كل المشهد، إنها ورطة العدو والأنظمة، تأتي وتبشر بالنصر وتستعيد الكرامة الفلسطينية والعربية المسفوكة على يد النظام الاستعماري بين انتفاضتين!

كان الباشا العربي يستجدي العرش البريطاني كي ينصفه ويعينه على وقف الثورة. هذا السيد الاقطاعي العربي والفلسطيني يقود الشعب قبل النكبة عام ،48 ويتنكر للفلاح العنيد الذي صعد إلى الجبال في ثورة العام 1936، وقد باع الفقير سوار زوجه واشترى بندقية. وحفنة رصاص.

وبعد ثورة مسلحة دامية وإضراب استمر لأكثر من 6 شهور، بعد مئات الشهداء والجرحى، يجد الفلسطيني نفسه عاريًا أمام المنظمات الصهيونية الإرهابية. لأنه صدق وعود الملك وحديث الباشا. فيكتب شاعر الثورة الشعبي في ليلة إعدامه، بالفحم على جدران زنزانته في عكا:

ظنيت إلنا ملوك تمشي وراها رجال

تخسى الملوك إن كانوا هيك أنذال

والله تيجانهم ما يصلحولنا نعال

نحن اللي نحمي الوطن ونضمد جراحو

بعد عقود يطل علينا المسؤول “الحديث” و”المعاصر” اليوم ليلعن المقاومة علناً ويرمي عليها كل الصفات البذيئة بعد أن تحول هذا السلطوي إلى “واسطة كبيرة ” بين جمهور فلسطيني مقاوم وبين احتلال صهيوني لا يشبع.

يدفع الشعب الفلسطيني ثمن انتفاضته مرّتين على الأقل، “إنها ضريبة الحرية” يقول ويعزي نفسه، يدفعها مرّة للمحتل ومرّة أخرى للقوى المحلية المرتهنة لإرادة المستعمر المحتل في الداخل، التي تلهث خلف امتيازاتها. وتتذرع البرجوازية التي لا تجوع  بـ”جوع الناس” و”الحصار”، لتبرر هزيمتها وتراجعها، وباسم الشعب تقدم التنازلات للعدو وتسميها  “تكتيك” وتغتصب الحقوق واللغة معا فتصير الهزيمة “اتفاق أوسلو” وهكذا صارت الصفقات “شطارة”، وتضييع حقوق البشر..

 يتعثر الإنسان الفلسطيني ويقع في شباك قوى الواسطة والفساد والتنسيق الأمني، قيادة تتحدث عن التعاون والعمل المشترك مع العدو الصهيوني أكثر مما تتذكر أوجاع المخيم. ترفض في الوقت ذاته أية شراكة مع القوى والطبقات الشعبية الفلسطينية، تستأسد على قطاع غزة بينما تقف ذليلة ومهزومة أمام العدو. لقد عودتنا القيادات الفلسطينية التقليدية، منذ الحاج أمين الحسيني وحتى الحاج أبو مازن، على أن نختار دائمًا بين السيء والأسوأ جدًا ـ هذا هو الدرس الفلسطيني الأول الذي يتكرر في تاريخنا الغابر:

بعد كل انتفاضة ننتهي إلى كارثة جديدة على يد قيادة بائسة، وطبقة عميلة، فمع أبو مازن نترحم على زمن ياسر عرفات، ومع عرفات كنا نترحم على زمن الشقيري والحاج أمين الحسيني وعلى زمن مضى …وهكذا!

تأتي الانتفاضة الشعبية الفلسطينية دائمًا، بعد أن يسد العدو والمستعمر كل الدروب والطرق، وبعد أن يضيق المكان وتتكاثر السجون ويشتد الحصار وينتشر الجوع ويجري إعداد المسرح لحفلة الذبح والتصفية فينفجر الشعب كله، لكن في الوقت ذاته “ينتفض” براميل النفط من الأمراء وينتفض البيت الأبيض ويستنفر المسؤول التقليدي الفلسطيني الفاشل ليصادر الفعل الشعبي الديموقراطي ثم ينقلب عليه. فهذه مهمته المركزية أصلا، ومنها يستمد “شرعية دولية” و “عربية” و “إسلامية”، دوره هو تكييف وتطويع كل مواجهة مع العدو لصالح طبقة فلسطينية وكيلة للاحتلال، تريد حصتها بعد أن تجهض حمل الانتفاضة قبل أن يكتمل، فتكثر في الحيث مبكراً عن “قطف الثمار” و “الواقعية السياسة” و “حماية مصالح الشعب”، طبقة وسخة تشارك في اغتيال الانتفاضة كل مرة، أو هكذا يظن الجميع، وينسى معسكر العدو أن الانتفاضة الشعبية لا تذهب إلا لتعود أقوى… فكم مرة اغتالوها وعادت من جديد؟ وإنها قادمة حتمًا وستظل تذهب وتعود إلى أن تنتصر…