عام على «قرار القدس»: العزلة الأمريكية فلسطينياً أيضاً
زياد ابحيص زياد ابحيص

عام على «قرار القدس»: العزلة الأمريكية فلسطينياً أيضاً

عامٌ مرّ على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني والتحضير تالياً لنقل السفارة الأمريكية إليها، وقد تبين لاحقاً أن هذا القرار شكّل فاتحة سياسة الإدارة الأمريكية الحالية لتصفية القضية الفلسطينية، فجاء بعده قرار وقف تمويل الأونروا والضغط باتجاه حلها كوكالة دولية تشكل رمزاً لمظلومية اللجوء الفلسطيني في فلسطين ودول الطوق، وإغلاق مكتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن، وهي حزمة سياسات يجري الحديث عنها باعتبارها بنوداً من “صفقة القرن” التي لم تُعلن، ويحتمل أن لا تعلن أبداً.

قرار الاعتراف هذا هو قرار معنويٌّ ليست له آليات تنفيذية مباشرة، فحين تقول الولايات المتحدة أنها تعترف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني فإن ما يخصها تنفيذياً من هذا القرار هو أن تنقل سفارتها إلى القدس وأن تتعامل مع المقرات الرسمية للحكومة الصهيونية فيها، لكن الأهمية الأكبر للقرار تكمن في ما يضفيه من مشروعيةٍ على السيادة الصهيونية في المدينة، وبما تتيحه تلك المشروعية من إمكانات واحتمالات على مستوى العالم وعلى مستوى حسم هوية المدينة على الأرض؛ بلغةٍ أخرى فإن هذا القرار لا تملك الولايات المتحدة تحويله إلى حقيقة واقعة على الأرض، لكنها تصدره لكي تفتح أفقاً أوسع لتطبيقه، وهنا تصبح المسألة هل يمكن للاحتلال الصهيوني أن ينتهز تلك الفرصة المتاحة؛ أم أن هناك ميزان قوىً ومعارضةً له تحول دون تنفيذه؟ في السطور الآتية سنتتبع ما الذي تغير على مستوى الموقف الدولي من القدس بعد قرار ترامب، فيما سيخصص مقالٌ لاحق لتقييم مستوى فرض الوقائع على الأرض وما تحقق من تقدم صهيوني بعد القرار، وما واجهه مشروع التهويد من عقبات.

رأس قاطرة؟

عوّلت الولايات المتحدة على أن تكون رأس قاطرةٍ في نقل سفارتها إلى القدس المحتلة، وأنها حين تفعل ذلك ستتبعها دول عديدة وسينهار الموقف الرافض للاعتراف بشرعية الاحتلال في المدينة، لكن النتيجة العملية كانت نقل سفارة غواتيمالا والباراغواي التي ما لبثت أن أعادت سفارتها إلى تل أبيب في 5-9-2018 عقب انتخاب رئيسها الجديد ماريو عبدو فشكلت بذلك ضربةً جديدة لمسار نقل السفارات المتعثر أساساً. بعد انتخاب اليميني جايير بولسونارو رئيساً للبرازيل لاحت في الأفق إمكانية نقل سفارة بلاده إلى القدس كما وعد في حملته الانتخابية، فيما أصدرت دول عربية وإسلامية تحذيرات بتأثر العلاقة مع البرازيل في حال تنفيذ هذا الوعد، لكن هذا يبقى تحدياً قائماً يمكن أن يكسر العزلة الأمريكية في هذا القرار بعد أن يتسلم الرئيس مهامه في شهر يناير/ كانون ثاني المقبل. وأخيراً جاء حديث الرئيس التشيكي ميلوس زيمان ليعلن نية بلاده نقل سفارتها إلى القدس، لكن هذا الإعلان ما زال غير مطبقٍ حتى كتابة هذه السطور.

في الأمم المتحدة:

لم يحقق القرار مبتغاه في إضفاء المشروعية على مستوى الأمم المتحدة كذلك، إذ اصطدم بموقفٍ من القوى الكبرى راغبٍ في إحراج الولايات المتحدة لأسباب عديدة، فاضطرت الولايات المتحدة لاستخدام حق الفيتو في 18-12-2017 في وجه إجماع الأعضاء الأربعة عشر الآخرين الذين صوتوا لصالح مشروع قرارٍ في مجلس الأمن يدين الاعتراف ونقل السفارة، ووقفت منفردة مع 8 دول مجهرية الحجم في وجه قرار الجمعية العمومية الذي اعتبر الاعتراف الأمريكي “لاغياً وباطلاً ولا تترتب عليه آثار قانونية” في 21-12-2017.

نقل السفارة:

بدت الإدارة الأمريكية متعجلة لتطبيق نقل السفارة على الأرض، إذ لم تنتظر إيجاد أرضٍ جديدةٍ للسفارة أو بناء مبنىً يتسع لأعمالها، فافتتحتها في 14-5-2018 رغم أن مبانيها غير مهيأةٍ بعد لاستقبال السفير وطاقمه؛ ومن الناحية العملية اقتصر افتتاح السفارة على إزالة يافطة القنصلية الأمريكية في القدس ووضع اسم “سفارة” على المبنى ذاته دون أي تغيير. في الافتتاح حضرت إيفانكا ترامب ابنة الرئيس، وصهره ومستشاره جاريد كوشنير، لكن البيروقراطية الأمريكية بدت راغبة بالنأي بنفسها عن هذا الافتتاح؛ إذ لم يحضره مايك بنس نائب الرئيس رغم أنه يحمل آراء صهيونية يمينية، ولم يحضره وزير الخارجية ولا وزير الدفاع ولا مستشار الأمن القومي، فيما أعلن طاقم السفارة لاحقاً بأن السفير الأمريكي سيعمل من السفارة في القدس ليومين فقط لحين تجهيزها، بينما سيواصل العمل بقية أيام الأسبوع في مبنى السفارة في تل أبيب.

في شهر 7-2018 كشف النقاب عن فوز تحالف شركتي ليماك التركية وديسبلد الأمريكية بمناقصة توسيع وتطوير مبنى القنصلية الذي تحول إلى سفارة، حتى يصبح أقدر على استيعاب طاقم السفارة وبالذات من الناحية الأمنية، ورغم أن شركة ليماك التركية تسير بعملها هذا بعكس الموقف المعلن لحكومتها، ورغم أن لها في العالم العربي استثماراتٍ كبرى مثل مطار الكويت الجديد وقيمة تطويره بقيمة 4.2 مليار دولار، إلا أن فرصة الضغط الحقيقي على شركة ليماك التركية ما تزال مفوتةً حتى الآن، علماً أن دفعها للانسحاب سيضطر الولايات المتحدة لإعادة طرح مناقصة تأهيل سفارتها في القدس، ما سيشكل لطمةً معنويةً جديدةً لهذا القرار.

قطار التطبيع العربي:

على العكس من هذا التيار الدولي كله سار قطار التطبيع العربي، الذي لم يجعل لمشروع تهويد القدس برعاية أمريكا أية قيمةٍ معيارية، لم تتأثر علاقات معظم الدول العربية مع الولايات المتحدة نتيجة قرارها هذا، بل إن دولاً كثيرةً منها اندفعت نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني باعتباره عنواناً لاستعادة الاهتمام الأمريكي الآخذ بالتراجع بسبب تراجع أهمية نفط الخليج في هرم الطاقة العالمي. ورغم أن الموقف السعودي المفترض تجاه صفقة القرن لم يعلن رسمياً، ورغم أن صفقة القرن لم تعلن رسمياً، اضطرت لتوضيح ما تسرب حول تلك المواقف لرويترز في 29-7-2018 التي نقلت أن الملك سلمان بن عبد العزيز “طمأن حلفاءه العرب بأن السعودية لن تقبل أي مشروع سلام يستثني قضيتي القدس وحق العودة”.

في الخلاصة؛ بمرور عام على قرار الاعتراف وسبعة أشهر على حفل افتتاح السفارة الأمريكية في القدس، لا تجد تلك السفارة لها رفيقةً سوى نظيرتها الغواتيمالية، لكنها تتطلع إلى معاودة كسر العزلة من بوابتي البرازيل والتشيك، ولم يتغير الموقف الدولي من القدس بل وقفت الولايات المتحدة فيه منفردة في مجلسي الأمن والجمعية العمومية، أما نقل السفارة فكان رمزياً وإلى مبانٍ ليست مستعدة لاستقبالها، فيما بقيت البيروقراطية الأمريكية على تحفظها تجاه القرار وتوقيته، وما تزال هناك فرصة غير مستغلة لإرباك مناقصة تطوير السفارة عبر الضغط على شركة ليماك التركية الفائزة بمناقصة تطويرها. مقابل ذلك كله مشهد عربي مأزوم يتركز في دول الخليج العربي باستثناء الكويت، يدفعها للهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني بحثاً عن استدامة مظلة الحماية الأمريكية أو بحثاً عن غطاءٍ أمريكي لانتقالٍ داخلي للسلطة فيها، لكنه يضطر رغماً عن ذلك للإفصاح عن موقف مختلف فيما يتعلق بالقدس. عام شهد الكثير من المحاولات لتغيير المكانة القانونية للقدس، لكنه انتهى حتى الآن –رغم كل التهويل- إلى إعادة تأكيدها.