شعفاط: ابتلاع السكين ذو الحدين
زياد ابحيص زياد ابحيص

شعفاط: ابتلاع السكين ذو الحدين

خلال إعداده لمسار جدار العزل في الضفة الغربية عام 2002، حرص الجيش الصهيوني بإشراف أريئيل شارون صاحب فكرته على وضع مخيم شعفاط خارج مسار الجدار، الذي يلتف من حوله ومعه حي رأس خميس ليضعهما خارج المدينة فعلياً، رغم أن حدود القدس البلدية ضمتهما منذ إعلانها عام 1967.

 

بعد سنتين من ذلك التاريخ، ناقشت طواقم التخطط الصهيونية مصير المخيم خلال إعدادها للمخطط الهيكلي القدس الذي يحاول رسم الشكل الذي ستكون عليه في عام 2020، ليقترحوا في تقريرهم الصادر عام 2004 إزالة المخيم وإعادة توطين أهله في “أحياء” حديثة خارج القدس بتمويلٍ دولي.

اكتمل بناء الجدار حول المخيم ومعه حي رأس خميس، كما اكتمل عند كفر عقب ومخيم قلنديا، باتت هذه الأحياء الأربعة عملياً خارج المدينة، لكنها بقيت نظرياً جزء من حدودها وكان من المفترض عندها أن تحين لحظة الصفر، بتعديل حدود بلدية القدس لتطابق حدود الجدار، فتخرج هذه الأحياء الأربعة من حدود القدس، ويمسي سكانها بالتالي غير قادرين على الحفاظ على بطاقاتهم الزرقاء، ويُقصى من المدينة نحو 55,000 مقدسي بضربة واحدة.

أهملت البلدية متعمدة ما تسميه بـ”مخالفات” البناء في تلك الأحياء، وصمتت عن بنايات متعددة الطوابق أنشئت دون الترخيص المشدد الذي تستخدمه لخنق قدرة المقدسيين على البناء، وكان واضحاً أنها تعول على تسمين تلك الأحياء وتركها تجتذب أعداداً أكبر من المقدسيين إليها، بحيث تفصل معها أكبر عددٍ من المقدسيين إذا ما حانت لحظة فصلها.

أكمل هذا التعويل مساره، وبُنيت عشرات الأبنية واجتذبت إليها آلاف المقدسيين، عشرات التصريحات عن تعديل وشيك لحدود القدس رُصدت على لسان نير بركات رئيس البلدية الصهيونية في القدس منذ عام 2013، مرت خمس سنوات، وجاء قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني، لكن هذا التعديل لم يأتي، فلماذا يا ترى؟ مخيم شعفاط يصلح حالةً نموذجية للارتباك الذي تمر به ماكينة التخطيط الصهيونية أمام الحقائق الميدانية المعقدة: فهي تتمنى زوال هذا المخيم من نسيج المدينة بين عشيةٍ وضحاها، فهو يفصل مستوطنات شمال شرق القدس عن بعضها البعض، فيترك مستوطنتي بسغات زئيف والنبي يعقوب وحدهما شمالاً، بينما مستوطنة التلة الفرنسية والجامعة العبرية إلى الجنوب منه.

وهو بسكانه البالغ عددهم 20 ألفاً يشكل أحد أكثر أحياء المدينة اكتظاظاً، وتحت ضغط النمو السكاني يواصل توسعه. في الوقت عينه مخيم شعفاط هو حي مركزي في القدس يشاهد فيه علم الأونروا ويجعل قضية اللاجئين حاضرةً في عمق المدينة وفي أفقها أمام الزائر، ويجعل صناعة وهم المدينة “الموحدة” و”المحررة” و”المفتوحة” التي يحاول الصهاينة صناعتها زوار المدينة -وأمام الزئر الغربي تحديداً- مهمةً أصعب.

في المقابل سيشكل الانسحاب من مخيم شعفاط وبقية الأحياء سابقةً تاريخية، فلأول مرة منذ قيامها تكون الدولة الصهيونية قد تخلت عن أجزاء اعتبرتها جزءاً من إقليمها المركزي، من مساحة “إسرائيل” الدولة، وهي تخشى إن فتح باب سابقةٍ كهذه أن تكسر حرمة حدود 1948 التي فرضتها بالقوة مع القوى الغربية، وأن يتطلع أهل الجولان المحتل إلى صناعة سابقةٍ مشابهة.

أمام هذين الاتجاهين اللذين يتنازعان صانع القرار الصهيوني يمسي مخيم شعفاط أشبه بسكين له حدان عالق في حلقه، فلا هو قادرٌ على ابتلاعه إن أراد، ولا هو قادرٌ على إخراجه، وهذا ما ينعكس مباشرةً على سياساته فيه فهو يقدم له الوعود الناعمة بيده التي تلبس قفاز الحرير، ثم لا يلبث بعدها أن يضربه بيدٍ من حديد.

تكرار التشتيت بين الأسلوبين يخلق واقعاً متناقضاً يمكن التعويل عليه في خلق انقسامٍ عميق بين أهل المخيم، وحالة من الضياع والتشتت يمكن التعويل عليها لتسهيل إخضاعه، ففي مقابل نخبة تعقد اللقاءات وتختصر العلاقة مع بلدية الاحتلال في الشارع الأفضل و “جودة” أفضل لخدمات رفع القمامة وتنسيق مع شرطة الاحتلال في “احتواء” المشاكل العشائرية والخلافات، يجد المواطن المسحوق نفسه تحت مطرقة الحديد، ولجعل حالة الضياع والتشتت أكبر فإن تلك الآلة الاستعمارية تختار توجيه أقسى ضرباتها مستفيدة من الفوضى والتعقيد التي صنعها وجودها وخنقها للمخيم، فتدمر 16 محلاً في مدخل المخيم ويكفي أن تغري بعضاً من أهله بفكرة أن تلك المحلات كانت تغلق مدخل المخيم، لتبدأ الألسن تتوجه إليهم وإلى “تعديهم” على الشارع العام، فتمسي آلة الدمار الصهيونية يد “العدالة الإلهية” بعين القراءة الساذجة والتبسيطية للأحداث ويمسي “شلومو” جندياً مرسلاً من جنود الله! يعول المحتل هنا على أن ينسينا الجدار الذي خنق المخيم وعزله، والحاجز الذي يذل أهله ليلاً ونهاراً وتنطلق منه أرتال الجنود مرةً بعد مرة لتقتل وتهدم وتنكل، لقد باتت الدنيا وردية فجأة، والزدحام الذي تسببه المحلات التجارية على مدخله هي أكبر همومه وأصعب فصول معاناته.

هذا الضياع أمام التفاصيل هو ما يريده الاحتلال وينتهي بنا إلى الأسوأ، والعودة إلى الصورة الأوسع هي وحدها ما يخدمنا: رغم كل هذه المناورات والنجاحات الصغيرة فنحن سكين ذو حدين، وإن أردنا البقاء فلا بد أن نمارس دور السكين في حلق الدب الذي ابتلعَنا إلى أن نمزقه ونخرج منه.

العين يجب أن تبقى على الحفاظ على اتصالنا بالقدس، وعلى تأثيرنا فيها مهما كان الثمن، وأن يبقى علم الأونروا ومعه علم فلسطين يرفرف فوق المخيم حتى تحين العودة، وأن يبقى اقتحام المخيم في أي فرصة أو لحظة كابوساً محفوفاً بالمخاطر لأي مقتحم، وأن تجابه أي آليةٍ لبلدية الاحتلال بالرفض والمقاومة إلى أن تخرج أياً كان هدفها… وأن نذكر دوماً أن صراعنا مع المحتل أكبر من كل الصراعات الصغيرة، وأن يد شلومو لا يمكن أن تكون يد “العدالة الإلهية” في يوم من الأيام.