موجز عن النزعة التدميرية للنظام القائم
مايكل باباس مايكل باباس

موجز عن النزعة التدميرية للنظام القائم

قد لا يكون لدى البعض وقت لدراسة الطريقة التي يعمل بها النظام الاقتصادي العالمي السائد، لكنّهم إن قاموا بذلك فسوف ينفعون كلا مهنهم ومحيطهم. سنناقش الأمر باختصار: في ظلّ هذا النظام تجبر الطبقة العاملة التي لا تملك وسائل الإنتاج على بيع قوّة عملها لصالح ربّ عمل ما، من أجل أن تبقى على قيد الحياة.

تعريب وإعداد: عروة درويش

هناك بضعة شركات تتحكم بغالبية السوق لكامل السلع التي يتم إنتاجها. وفي هذه الشركات هناك قطّاع صغير جداً مؤلف من مجلس الإدارة وحاملي غالبية الأسهم ممّن يتخذون في نهاية المطاف جميع القرارات المتعلقة بما ينتجون وأين ينتجونه وبكيفيّة توزيع الأرباح. يضع هذا الأمر الطبقة العاملة في موقف ضعيف. فتبعاً لكون الدافع النهائي هو تعظيم الربح، فإنّ القرارات تتخذها عادة الطبقة المالكة، وهذه القرارات لا تكون في صالح العمّال وتؤثر بشكل سلبي على صحّة كامل المجتمعات.

إنّ جميع القرارات المتخذة، من الاستعانة بمصادر خارجية وإغلاق المصانع وخلق ظروف عمل سيئة لتقليص التكاليف وتلويث مجاري المياه والجو، قد تؤدي إلى زيادة الأرباح في البداية، لكنّها ستضرّ بالصـحّة على المدى الطويل. يمكن لهذا الضرر أن يكون فاضحاً كما في حالة تلويث الهواء والمياه، أو أكثر اندساساً عند عندما توضع العائلات على سبيل المثال تحت ضغط مزمن يقود في نهاية المطاف إلى مختلف أنواع الأمراض الناجمة عن أماكن العمل السيئة أو انعدام أمان الدخل.

في هذا النظام هناك «تكاليف» محددة تمّ «تخريجها externalized» – صـحّة العائلات وكامل المجتمعات التي تدمرت. يعني هذا الأمر بأنّ النظام السائد لا يدفع تكاليف هذه الصحّة المجتمعية الرديئة، خاصة وأنّها تأتي خارج أولويات زيادة الربح في القرارات التي يتخذها المدراء التنفيذيون للشركات. إنّ مثل هذه القرارات تتخذها مجموعة صغيرة من الأفراد الأثرياء المتنفذين الساعين لتحقيق مصالحهم بتراكم ثروة وسلطة أكبر على حساب الباقين جميعهم.

فكما أظهر الاقتصادي توماس بيكتي من خلال فرز السجلات الاقتصادية منذ القرن الثامن عشر، فإنّ الرأسمالية تولّد بطبيعتها اللامساواة، وتركز الثروة في يد حفنة من الناس على حساب الجميع. تظهر دراسة تلو الأخرى لنا بأنّ اللامساواة الاجتماعية-الاقتصادية ذاتها ضارّة بصحة المريض وتقوم بالواقع بزيادة المرض والوفاة.

ورغم الآثار السلبية، فإنّ الطبقة العاملة اليوم أكثر إنتاجيّة من أيّ وقت آخر، بينما تبقى الأجور جامدة (وتتدنى في الكثير من الأحيان) وتستمر ساعات العمل بالازدياد. يكافح العمّال لتأمين رزقهم وتلبية حاجاتهم الأساسية، في حين أنّ الطبقة المالكة يستمر ثرائها بالازدياد. يتم استغلال العمّال واختزالهم لمجرّد آلات في أماكن العمل، ويتم إجبارهم في الكثير من الأحيان على القيام بأعمال أو بمهمات دونية مرّة تلو الأخرى. يتم تغريبهم: أي فصلهم عن التحكّم وإنتاج عملهم في كلّ يوم يمضون فيه إلى العمل. يتم في ظلّ هذا النظام تقليص العمّال لصالح تروس آلية تنتج الربح لصالح الشركات الكبرى.

يدفع المزج بين الإنهاك ونقص المغزى الحقيقي في الحياة ونقص الإحساس بالإنجاز، المزيد والمزيد من العمّال من كلا الياقات البيض «عمّال المكاتب» والياقات الزرق «عمّال المصانع» إلى اليأس والقنوط. وكما بيّن جون هاري في كتابه الأخير «الصلات المفقودة: كشف الغطاء عن الأسباب الحقيقية للاكتئاب والحلول غير المتوقعة»، ففصل العمّال عن أحبابهم وعن الأشياء التي تجلب لهم السعادة لكونهم يعملون في عدّة وظائف ولساعات متعددة أثناء كفاحهم للنجاة وتحقيق الرزق، هو السبب الرئيس في ذلك.

يقود الضغط المزمن إلى اضطراب القلق والاكتئاب والكثير غيرها من الأمراض. وجميع الأدوية التي تعطى لهم في هذه الأثناء لا تكون أكثر من محاولات بائسة لتخفيف ألمهم الذي تستمر الهياكل الممنهجة الأكبر بخلقه.

لسوء الحظ فإنّ النخب الثريّة لا ترى حدوداً لهذا النظام، فيستمرون باستغلال الجموع ويقودونهم أكثر فأكثر نحو الفقر واليأس في ذات الوقت الذي يركزون فيه الثروة في أيدٍ قليلة. ففي أمريكا اليوم، يملك أغنى ثلاثة أفراد ذات الثروة التي يملكها كامل عدد السكان من النصف الأدنى، أي أكثر من 160 مليون شخص. ويجب على النخب من أجل الحفاظ على هذا النظام العامل لصالحهم أن يضمنوا أن يتقاتل أعضاء الطبقة العاملة مع بعضهم البعض بدلاً من توجيه غضبهم ناحية أولئك المنتفعين من قمع الحشود.

إنّ النظام الرأسمالي الذي ولد من رحم العنصرية وتفوّق العرق الأبيض كما هو مبيّن في الدراسات من أمثال: «نصف القصّة الذي لم يُقل: العبودية وإنشاء الرأسمالية الأمريكية» لإدوارد بابتيست، يستمر بالتفريق بين أعضاء الطبقة العاملة بالاستناد إلى بنى اجتماعية مثل العرق. ويقوم النظام السائد في ذات الوقت، وعبر استخدام آليات متنوعة، بخلق جمهور غير آمن يجلد نفسه وتقوده الاستهلاكية المفرطة، وهو ما يقود إلى تلويث الأرض وتسميم المجتمع تلو الآخر.

إنّ أنواع العنف الهيكلي هذه هي الدافع الحقيقي للأمراض والمعاناة، حيث يرقب نظام الرعاية الصحيّة نتائجه ولكنّه غير قادر على علاجها. إنّ صحّة غالبية السكان تتدهور بينما تتربح النخب. إنّ حاجة الرأسمالية إلى التوسع اللانهائي وتأثيره على الأرض قاد بشكل حرفي بعض العلماء إلى الدعوة لتسمية هذا العصر الجيولوجي باسم جديد هو «عصر تأثير البشر Antropocene» كي يصفوا تأثير البشر على الأرض.

إنّ الرأسمالية لا تهدد فقط صحّة ورفاه الإنسان، بل الحياة على الأرض نفسها. تعمل الرأسمالية كسرطان نهائي، عالمة بعدم وجود حدود لنموها واستهلاكها غير المنتهين، مدمرة الأنظمة الضرورية للنجاة ومهددة وجود حاضنها.