«العولمات الثلاث»3| العولمة الأولى الفيكتورية
توماس بالي توماس بالي

«العولمات الثلاث»3| العولمة الأولى الفيكتورية

  • صياغة نظرية للعولمات الثلاث: ثلاث نظريات لثلاث عولمات:

تشكّل كلّ حقبة عولمة ظاهرة متمايزة منفصلة لها سماتها التجريبية المختلفة بعضها عن بعض، ولهذا تستدعي كلّ واحدة منها صياغة نظرية مختلفة. إنّ لإدراك هذا الأمر آثار جذرية.

تعريب وإعداد: عروة درويش

 

إنّ التجارة مشمولة في النظريات الثلاث. لكن حيث الاقتصاد التجاري قادر على شرح أوّل نمطي عولمة، يتم شرح العولمة الثالثة عبر الاستراتيجية الصناعية للشركات في الاقتصادات المتقدمة. كانت التجارة التقليدية ذات الاتجاهين في جوهر أوّل نمطي عولمة، لكنّ التجارة كانت عاملاً ثانوياً في العولمة الثالثة بمعنى أنّها كانت أداة لغرض استراتيجي آخر. نرى في العولمة الثالثة بأنّ الزيادة في التجارة والتغيّر في التكوين الجغرافي للتجارة قد تمّ دفع كليهما من قبل إعادة التنظيم الصناعي الاستراتيجي، وذلك بدلاً عن نظرية الإتجار ذات النفع المتبادل التقليدية.

  • الميزة المطلقة والجسور الاقتصادية: صياغة نظرية للعولمة الفيكتورية:

يمكن شرح العولمة الفيكتورية الأولى (1870 – 1914) كأفضل ما يمكن عبر الاختلافات في فاعلية الإنتاج فيما يتعلق بالإنتاج الزراعي. تعطينا نظرية الميزة المطلقة شرحاً مقنعاً وشاملاً. يوضّح الشكل رقم 8 كيفيّة عملها، فهو يظهر مصفوفة افتراضية للناتج مقاساً بوحدة العمل للتصنيع والزراعة. تُظهر أوروبا الغربية كفاءة أكبر بخمس مرَات من الاقتصادات الناشئة في المناطق ذات المناخ المعتدل في مجال التصنيع، في حين أنّ الاقتصادات الناشئة كانت أكثر كفاءة بثلاث مرّات في مجال الزراعة. ضمنت هذه الأنماط من الكفاءة النسبية مسألة هيمنة أوروبا الغربية بشكل تنافسي في التصنيع، في حين أنّ الاقتصادات الناشئة في المناطق المعتدلة قد هيمنت بشكل تنافسي على العديد من المنتجات الزراعية. وعليه فقد صدّرت أوروبا الغربية البضائع المصنّعة إلى الاقتصادات الناشئة في المناطق المعتدلة، وقد صدّروا المنتجات الزراعية إلى أوروبا الغربية.

الشكل رقم 8:

وقد كانت الابتكارات التكنولوجية عنصراً حاسماً في العولمة الأولى، وتحديداً فيما يتعلق بتكاليف النقل والتبريد. ساهم التقدّم في تكنولوجيا المحرك البخاري في ثورة النقل والسكك الحديدية بحيث خفضت تكاليف النقل وقصّرت وقت النقل. وبالاشتراك مع هذا فإنّ تقدّم تكنولوجيا التبريد قد سمحت بنقل المنتجات القابلة للهلاك مسافات طويلة. أسست هذه الابتكارات التكنولوجية شكلاً من اقتصادات «الجسور» التي قوّت بشكل شديد الروابط بين الاقتصادات المتقدمة وتلك الواقعة في المناخات المعتدلة، لتعزز المنطق الاقتصادي للتجارة.

وقد نتج عن إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي فوائد كبيرة. فقد خفضت المنتجات الزراعية زهيدة الثمن أسعار الأغذية في أوروبا الغربية، في حين أنّ الصادرات المصنّعة قد زادت من الطلب الصناعي على العمالة. وعليه فقد حقق العمّال الأوربيون الغربيون مكاسب مباشرة عن طريق زيادة القوّة الشرائية للأجور، ومكاسب غير مباشرة عن طريق زيادة الطلب على العمالة الذي أدّى لرفع الأجور. لكنّ الخسارة كانت في القطّاع الزراعي، حيث عانى مالكو الأرض من خسارات كبرى في الإيجارات وفي العمّال الزراعيين الذين أدّى نقص الطلب على عمالتهم إلى تخفيض الأجور.

يشرح هذا النمط السبب الذي جعل التهليل للعولمة الفيكتورية الأولى قليلاً في القارة الأوربية حيث كان القطّاع الزراعي أكبر والقطّاع الصناعي أصغر، ولهذا كانت المعارضة السياسية أكبر والدعم السياسي أصغر. وعلى النقيض من ذلك فقد تمّ التهليل لهذه النقلة في المملكة المتحدة، مع نقطة التحوّل السياسية العظيمة التي تمثلت في قانون الاستيرادي عام 1846 الذي ألغى تعريفات «قانون الذرة» والقيود على الاستيراد. يمكن تلمّس آثار إلغاء قانون الذرة في الشكل رقم 9 والذي يظهر كيف ارتفعت واردات المملكة المتحدة من القمح في الخمسة عشر عاماً التالية للإلغاء.

الشكل رقم 9:

انتفعت الاقتصادات الناشئة في المناخات المعتدلة من زيادة الطلب على المنتجات الزراعية، الأمر الذي وفّر الدخل لشراء المواد المصنّعة. كما عززت الزيادة على الطلب تدفق الاستثمارات التي سرعت التطوير عبر المساهمة في زيادة الإنتاجية الزراعية، والتي وسعت القدرة الزراعية، وزادت التواصل بالنقل مع أسواق أوروبا الغربية. كما أنّها شجعت على تدفق الهجرة.

لكن وعلى المدى الطويل تمّ إسكات صدى هذه الاقتصادات. أولاً: خفّض العرض الزراعي المتزايد أسعار المنتجات الزراعية في وقت لاحق، ممّا أدّى إلى آثار عكسية تجارية مزمنة خفضت الدخل. ثانياً: أضاعت البلدان التي ركزت على الإنتاج الزراعي بدلاً من تركيزها على الصناعة ديناميكية تأثير الابتكارات التي وفرتها العملية التصنيعية. لقد كان الاستثناء الوحيد لهذا هو الولايات المتحدة التي انتفعت من الصادرات الزراعية في ذات الوقت التي احتفظت فيه بتعريفات جمركية مرتفعة ثبطت الواردات الصناعية وشجعت تطوير الصناعة المحلية.

وبخصوص الجدل الدائر حالياً بخصوص العولمة النيوليبرالية، فهناك عدّة أشياء جاهزة هامّة من العولمة الأولى الفيكتورية:

أولاً: كان هناك مكاسب عالمية من التجارة وقد شارك العمّال في الدول الصناعية بها.

ثانياً: كان لهذه النتائج النافعة تأثير ثابت على آراء السياسيين والاقتصاديين بشأن التجارة، والتي لا تزال حيّة في العصر الحالي رغم أنّها غير ذات صلة. فما أن تصبح وجهة النظر متأصلة يصبح من الصعب إزاحتها، وخاصة إن كانت تخدم مصالح النخب المهيمنة على المجتمع.

ثالثاً: لقد تمّ دفع العولمة الفيكتورية عبر أنماط من الميزة المطلقة، وقد أنتجت الميزة المطلقة توزيعاً للإنتاج متطابق مع الميزة النسبية. قاد هذا الأمر الاقتصاديين إلى التأكيد على أنّ الدافع للتجارة كان الميزة النسبية، بينما في واقع الأمر الذي قاد التجارة هو الميزة المطلقة. إنّ الميزة النسبية (مثال: مبدأ تكلفة الفرصة الضائعة Opportunity cost) هي الشرح النظري القديم لتبرير المكاسب من التجارة، وذلك بدلاً من الشرح التاريخي لتبرير سبب وجود التجارة.

رابعاً: إنّ السؤال المعقد للعلاقة بين التجارة والتطوير كان حاضراً بالفعل في العولمة الأولى، حيث كان للتجارة آثار جيدة وأخرى سيئة على الاقتصادات الناشئة.

يتبع