التسوية الأمريكية وتصفية قضية فلسطين
د. غازي حسين د. غازي حسين

التسوية الأمريكية وتصفية قضية فلسطين

تجسد عودة المفاوض الفلسطيني إلى المفاوضات مع كيان الاحتلال برعاية جون كيري، المؤيد بقوة لإسرائيل، وإشراف الصهيوني المتطرف مارتن أنديك، رضوخاً للترهيب والترغيب الأمريكي لمصلحة إسرائيل، وتلبية لمطامعها، وتحقيقاً لمخططاتها، ومكافأة لحكومة نتنياهو أكثر الحكومات الإسرائيلية عنصرية وفاشية واستعماراً استيطانياً في تاريخ الكيان الصهيوني، وتنازلاً خطيراً عن حق الشعب الفلسطيني والأمة العربية وثوابت النضال الفلسطيني.



جاءت استجابة إدارة أوباما لشروط نتنياهو المسبقة ورفضه الانسحاب إلى حدود ما قبل الخامس من حزيران عام 1967 وضم القدس بشطريها المحتلين وكتل المستعمرات الكبيرة الثلاث في الضفة الغربية ومن دون وقف الاستيطان، بمثابة التدمير الأكبر لإمكانية التوصل إلى حلول سياسية وتسوية عادلة على أساس مبادىء القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وتصفية الحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف وفي طليعتها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، والانسحاب من القدس وبقية الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
كان من المفروض على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية رفض العودة إلى مفاوضات الإذعان من دون التزام إسرائيلي واضح بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967، ووقف الاستيطان، وتفكيك جميع المستعمرات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى رأسها القدس الشرقية المحتلة، وكان عليها أن ترفض رفضاً قاطعاً تبادل الأراضي لضم أكثر من 85٪ من المستعمرات اليهودية إلى الكيان الصهيوني.
وأظهرت العودة إلى المفاوضات رضوخ الرئيس الأمريكي أوباما إلى ابتزاز نتنياهو، حيث فشل أوباما في الحصول منه على إعلان إسرائيلي بتجميد الاستيطان، ورضوخ السلطة الفلسطينية للرئيس الأمريكي، ووافق نتنياهو على استئناف المفاوضات، بعد أن ضمن الخروج منها مستفيداً ورابحاً ومعززاً لمكانته بين الإسرائيليين والجاليات اليهودية، وربما الوحيد الذي سيصفي قضية فلسطين وينهي الصراع مع جامعة الدول العربية ويرسخ وجود الكيان الصهيوني في المنطقة.
سارت المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، وتسير، بحسب المخططات والمصالح الإسرائيلية والأمريكية برعاية الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي للعدو الإسرائيلي، وبدعم من آل سعود ونظام كمب ديفيد في القاهرة وجامعة الدول العربية، وذلك لتحقيق رؤية الدولتين التي أخذها الرئيس بوش من مشروع شارون للتسوية، وضمنها خارطة الطريق التي تبنتها الرباعية الدولية ووافق عليها رئيس السلطة الفلسطينية.
خططت إسرائيل بعد الحرب العدوانية التي أشعلتها إلى تجزئة الصراع العربي-الصهيوني إلى نزاعات إسرائيلية ومصرية وفلسطينية وأردنية وسورية ولبنانية للاستفراد بكل طرف عربي على حدة، والحصول على أكبر التنازلات عن الثوابت الوطنية والقومية وبيع قضية فلسطين التي أصبحت عبئاً على آل سعود وآل ثاني والجامعة العربية، وتجاوباً مع هذا التخطيط الصهيوني ورفع شعار القرار الفلسطيني المستقل وفصل قضية فلسطين عن بعديها العربي والإسلامي للتوصل إلى حل منفرد مع العدو برعاية واشنطن، بعدما بدأ التشكيك بجبهة الصمود والتصدي والثوابت الوطنية والقومية الفكرية والسياسية لقضية فلسطين، والحديث عن الواقعية والعقلانية وسلام الشجعان وإنقاذ ما يمكن انقاذه.
وكان الغزو الإسرائيلي إلى لبنان عام 1982 قد أدى إلى توقيع عرفات مع فيليب حبيب مبعوث الرئيس الأمريكي - آنذاك- رونالد ريغان عدة اتفاقات تم بموجبها إخراج منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها من بيروت وتوزيعها في تسعة أقطار عربية بعيدة عن فلسطين، وتحويل منظمة التحرير من منظمة سياسية مقرها تونس.
طرح الرئيس ريغان مبادرته لتسوية الصراع بعد يومين من خروج آخر مقاتل فلسطيني من بيروت وقبل انعقاد قمة فاس الأولى بيومين ليجدد إطار التسوية الأمريكية، ولتفرضها الولايات المتحدة على المفاوض الفلسطيني وبتغطية من جامعة الدول العربية.
أقرت قمة فاس مشروع الأمير السعودي فهد، وأصبح يعرف بمشروع السلام العربي، وودع مشروع السلام العربي الخيار العسكري، واعتمد الخيار السياسي واعترف ضمناً بإسرائيل.
ووقع عرفات مع الملك حسين اتفاق عمان في 11 شباط 1985 واتفقا فيه على الكونفدرالية، كما أجبر الرئيس المخلوع مبارك منظمة التحرير في 7 تشرين الثاني 1985 على توقيع إعلان القاهرة المشؤوم الذي تضمن شجب منظمة التحرير الفلسطينية وإدانتها لجميع العمليات «الإرهابية» أي عمليات المقاومة ووقفها داخل الكيان الصهيوني.
اشتعلت الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة البطولية) بعفوية شعبية في أواخر عام 1987، وفاجأت القيادة الفلسطينية، وفشل العدو المحتمل بالقضاء عليها، فشكل قيادة تابعة لمنظمة التحرير، وأخذت الاستعداد لإلغاء الميثاق، والتخلي عن المقاومة المسلحة، والدخول في مفاوضات مباشرة مع العدو، والتفاوض معه على أساس مبادرة ريغان واتفاق عمان وإعلان القاهرة، وإقامة دويلة في الضفة والقطاع.
وعقدت دورة المجلس الوطني التاسعة عشرة في الجزائر بتاريخ 12/11/1988، وكانت ست فصائل فلسطينية قد أعلنت مقاطعتها للدورة، ولكن معمر القذافي أقنع الجبهتين الشعبية والديمقراطية بالاشتراك.
عقدت دورة المجلس الوطني في الجزائر لحملة الموافقة على الشروط التي وضعها كيسنجر على منظمة التحرير الفلسطينية لبدء الحوار الأمريكي-الفلسطيني.
تضمن البيان السياسي لدورة الجزائر التوجه السلمي لمنظمة التحرير لتسوية قضية فلسطين، وانعقاد المفاوضات على أساس قراري مجلس الأمن الدولي 242و338، وضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وربط البيان السياسي الصادر عن المجلس الوطني العلاقة مع الأردن بالكونفدرالية بين دولتي الأردن وفلسطين، وتضمن البيان الختامي رفضاً للإرهاب (أي المقاومة) بكل أنواعه، والالتزام بإعلان القاهرة عام 1985.
عقدت دورة الجزائر لتقديم الاستجابة الرسمية للشروط التي وضعها هنري كيسنجر لبدء الحوار الأمريكي-الفلسطيني كمقدمة لبدء الحوار الإسرائيلي-الفلسطيني، وأكد عرفات في مؤتمره الصحفي بعد اختتام دورة الجزائر الهدف من عقدها قائلاً: «إن الكرة الآن في الملعب الأمريكي، وإن دورة الجزائر هي دورة من أجل السلام إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل ترغبان في ذلك».
وهكذا اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بما سمي حق إسرائيل في الوجود وبالقرارين 242 و338 ونبذ الإرهاب (المقاومة)، ووافقت على الشروط الأمريكية الثلاثة التي فرضها كيسنجر على منظمة التحرير للاعتراف بها والتعامل معها.
اعتبرت الولايات المتحدة أن قرارات الجزائر غير واضحة وغير مستوفية للشروط الأمريكية، وقال الرئيس ريغان: «نحن نريد كلمات أكثر وضوحاً»، و«أكثر تحديداً».
قرأ عرفات بتاريخ 14/12/1988 في جنيف ما عرف ببيان جنيف الذي استجاب فيه حرفياً للصيغة التي طلبتها الإدارة الأمريكية، وكرر فيه رفضه وإدانته للمقاومة المسلحة والتخلي عنها، وأكد أن الرغبة في السلام استراتيجية وليست تكتيكاً، ولن يتراجع عنها إطلاقاً، وأن القرار 181 أساس الاستقلال، وأن القبول بالقرارين 242 و338 كأساس للمفاوضات مع إسرائيل.
وعلى الفور أصدر ريغان في اليوم نفسه أي في 14/12/1988 قراراً ينص على فتح الحوار الأمريكي مع منظمة التحرير الفلسطينية، ووجه وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتس في اليوم نفسه أيضاً رسالتين إلى بيرس وشامير يقول فيها إن منظمة التحرير الفلسطينية قبلت بالقرارين 242 و338، واعترفت بصورة واضحة بحق إسرائيل بالوجود ونبذ الإرهاب، لذلك نعتزم بدء الحوار معها.
وأكد الرئيس ريغان أن الهدف من الحوار مع منظمة التحرير هو مساعدة إسرائيل على تحقيق الاعتراف بها والأمن لها وجعلها جزءاً لا يتجزأ من المنطقة.. لقد تراجعت القضية الفلسطينية بعد دورة الجزائر وحتى بداية التسعينيات من القرن العشرين.
وبسبب الاستعداد التنازلي عن الحقوق والثوابت والمحظورات الفلسطينية والعربية والإسلامية، وبسبب فقدان القيادة الجماعية للمنظمة، وهيمنة فتح على مؤسساتها وقراراتها وأموالها، وانتشار الفساد والإفساد والبترودولار في فتح ومنظمة التحرير، خشي العدو الصهيوني من ضعف ذلك، فأسرع وفتح مع قيادة المنظمة قناة اوسلو السرية، على الرغم من وجود الوفد الفلسطيني الرسمي المفاوض في واشنطن برئاسة د. حيدر عبد الشافي.
بدأت المفاوضات بين أحمد قريع والوفد الإسرائيلي المفاوض في اوسلو بتاريخ 20/1/1993 من وراء ظهر الشعب الفلسطيني وقيادات الفصائل الفلسطينية وبسرية تامة أشرف عليها الموساد، وتوصل أحمد قريع مع الجانب الإسرائيلي في الجولة الثانية عشرة بتاريخ 7/8/1993 إلى اتفاق في اوسلو على ما وضعه شيمون بيرس، حيث وصل بيرس وقاد الجولة الختامية الثانية عشرة لمفاوضات اوسلو السرية الظالمة والمظلمة في دهاليز اوسلو، ووقع عرفات اتفاق الإذعان في اوسلو في التاسع من آب 1993، كما وقعه محمود عباس في البيت الأبيض بحضور الرئيس كلينتون في 13 أيلول 1993.
علّق الرئيس حافظ الأسد على اتفاق اوسلو بقوله: «إن كل بند من بنوده يحتاج إلى اتفاق»، وعلّق عليه المفكر العالمي فلسطيني الأصل ادوارد سعيد بقوله: «إنه لم يسبق لأية حركة تحرر وطني في التاريخ أن باعت نفسها لأعدائها كما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية».
لم يعترف اتفاق الإذعان في اوسلو بالشعب الفلسطيني، ولا بحقوقه الوطنية، ولا بانسحاب إسرائيل من القدس وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا بعودة اللاجئين إلى ديارهم، ولكن اعترف للكيان الصهيوني بالسيطرة على 78٪ من مساحة فلسطين العربية، وأبقى الـ 22٪ الباقية أراضي متنازعاً عليها، وحقق العدو المحتل من توقيعه عدة أهداف منها:
- إنهاء الاتفاقية الأولى التي عجز العدو عن إنهائها.
- إدانة المقاومة الفلسطينية البطولية، ونعتها بالإرهاب، والالتزام بالتخلي عنها، ومعاقبة رجالها.
- إقامة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني والتعاون بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والفلسطينية.
- إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني بحضور الرئيس كلينتون في غزة 1998.
- الموافقة على تهويد 20٪ من مدينة الخليل العربية.
وكان توقيع الإذعان في اوسلو نقطة تحول استراتيجية هامة في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، ووصف بيرس توقيع الاتفاق بثاني أكبر انتصار في تاريخ الحركة الصهيونية.
تمكن اولمرت وليفني في المفاوضات التي أجريت مع عباس وقريع في 2008 من انتزاع موافقة عباس على تبادل الأراضي لضم أكثر من 85٪ من المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني، وتضمنت مبادرة السلام العربية التي وضعها اليهودي توماس فريدمان شطب حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، كما تضمن التعديل الذي أجرته قطر على المبادرة العربية، وأعلن فيه حمد بن جاسم في أواخر نيسان 2013 من واشنطن موافقة الجامعة العربية على تبادل الأراضي.
وكان مؤتمر أنابوليس الذي عقده الرئيس بوش بناء على رغبة اولمرت بجلب السعودية إليه، قد تحول إلى لقاء عربي دولي لدفع عملية التسوية الأمريكية إلى الأمام، وجسدت مشاركة السعودية فيه بناء على طلب إسرائيل استعداداً سعودياً لفتح أسواق السعودية أمام المنتجات الإسرائيلية، وكان هدف اولمرت من جلب السعودية إلى مؤتمر أنابوليس تحقيق التطبيع الجماعي مع الدول العربية، وبناء مكانة إسرائيل الإقليمية وقيادتها لائتلاف إقليمي معتدل موجه ضد إيران وحركات المقاومة، وكان حضور الدول العربية مذهلاً في أنابوليس لنيل رضى وبركة الإدارة الأمريكية والصهيونية العالمية.
وتسير التسوية الأمريكية حالياً لتصفية قضية فلسطين بخطا سريعة، حيث بحث كيري في بداية آب 2013 مع الجامعة اليهودية الأمريكية حتمية التوصل إلى اتفاق إسرائيلي فلسطيني، وأشار إلى الالتزام الجاد الذي لمسه من نتنياهو وعباس، وأكد لهم كيري أنه متفائل إزاء المحادثات.
إن كيري مؤيد قوي لإسرائيل وواشنطن ويستطيع أن يحمل عباس على توقيع اتفاق الحل النهائي مع نتنياهو لتصفية قضية فلسطين، لاسيما أن الرئيس كارتر يعتقد أن نتنياهو على وشك أن يدخل التاريخ باعتباره البطل التاريخي الذي جاء بالسلام الكامل والنهائي لإسرائيل.