المسيحية ابنة بلاد الشام الأصيلة
د. ناديا خوست د. ناديا خوست

المسيحية ابنة بلاد الشام الأصيلة

ذكر بيان رابطة المسلمين التقدميين في بلجيكا: "يطلب المسلمون البلجيكيون التقدميون من بلجيكا موقفا واضحا من خطب الجوامع الطائفية التي تحرض الشباب على القتال إلى جانب المتمردين في سورية".

 

 يضع ذلك السؤال: ماهو الجهاد، أين مكانه، وماعلاقته بالقوى الفاعلة في النظام العالمي؟ هل يسدد في مقاومة القوى الاستعمارية، ويستند إلى طموح شعبي وتنظيم شعبي ومشروع سياسي اجتماعي ثقافي؟ أم ينعزل عن الشعب، ويسخر في تنفيذ خريطة خارجية، بتمويل خارجي؟ في ظروفنا، تفترض الحالة الاولى أن يكون موجها إلى العدو الإسرائيلي والاستعمار الغربي الأمريكي. وفي الحالة الثانية يشرد في عصابات مرتزقة لاتضبطها معايير أخلاقية وتقاليد وطنية، تجهل التاريخ الإسلامي، والتاريخ الوطني. في مسار العرب الحديث كان العدو هو المحتل، المستعمر، وهناك كانت جبهة الجهاد. كان الأساس الجامع في ثورة فلسطين، والثورة السورية الكبرى، ومعركة القدس، وحروبنا مع إسرائيل: الدين لله والوطن للجميع. لذلك قال باحث عمن خرج عن هذا الإجماع: "إنكار رجال الفكر التكفيري الحديث وجود أمة إسلامية من قرون كثيرة يعني أن عهود الإسلام الزاهرة وأعلام العلم في الدين وغيره كانوا جميعا يعيشون في جاهلية. هؤلاء يؤثرون في الشباب قليلي المعرفة بالدين والفلسفة، معتمدين الغضب من الأوضاع الاجتماعية".

من معايير السلوك الصحيح وصية عمر بن الخطاب عن احترام الرهبان والنساء والأطفال، ورفضه أن يصلي في كنيسة القيامة كيلا يتخذ ذلك جاهل حجة فيهدمها. والوصية العظيمة: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، التي تبين أن البدعة هي احتلال المدارس وتدميرها وتسجيل أفلام يحرض فيها الأطفال على كسر مقاعدهم ومدارسهم. قضية فلسطين هي هدف الجهاد، لاغيرها! لذلك لم يخطر لأي وطني أو مسلم، ولو في الخيال، أن يقاتل بسلاح إسرائيلي، فسلاح العدو ليس حياديا بل ملتصق بمشروعه. نتناول هذا الإرث الوطني من الشيخ الأشمر، ابن حي الميدان العريق، الذي جاهد في فلسطين، وكان ذا وعي وطني وعقل سياسي حدد العدو. ومن رتل طويل من المقاتلين والمقاومين العرب، من شكري العسلي والجابري وهنانو وسعيد العاص وسلطان باشا الأطرش ومريود وشكري القوتلي إلى شهداء حرب تشرين ومقاومة اجتياح لبنان. فهل هدف الحرب على سورية إسلامي حقا، أم موظف في مشروع غربي صهيوني يعتمد تفكيك المنطقة على أساس مذهبي وإثني؟

يعترف كبار الباحثين والسياسيين الغربيين بأهداف الحرب على سورية متوجسين من نتائجها. قال النائب لوران لويس في البارلمان البلجيكي في 11/1/2013: "يستر دعم الغرب الجهاديين في سورية المخططات الستراتيجية والاقتصادية". وقال الباحث أيميري شوبراد: "انفجرت الأزمة السورية بسبب التدخل السعودي والقطري المدعوم بالتدخل الفرنسي البريطاني الأمريكي. تلعب سورية دورا ستراتيجيا في منطق النفط والغاز في الشرق الأوسط. المشكلة أن مايريده الغرب هو الممر السوري إلى البحر الأبيض المتوسط ونقل البترول والغاز من الأراضي السورية. سيصمد النظام السوري لأنه ليس معزولا، ولأنه متماسك، ولأن الدعم الروسي حاسم، ولأنه ليس محاصرا". وقال جان لو ايزامبير: "تريد الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا نهب الشعوب والسيطرة على محاور المواصلات، وتفيد في هذه الحروب الاستعمارية من ديكتاتوريات الخليج البيترولية الدينية" . وقال ألان شويه مسؤول المخابرات الفرنسية السابق: "تسليح المجموعات التي لاتمثل أحدا ولايعترف بها غيرنا أحد، خطأ". وقال الجنرال الفرنسي كورفيز: "بعد أكثر من سنتين من المعارك وعشرات الآلاف من القتلى أدركت أمريكا أن قلب نظام دمشق لايمكن دون تدخل عسكري أصبح مستبعدا نهائيا. بيّن نظام بشار الأسد قوته، والانتخابات المقبلة في 2014 ستظهر ما إذا كان السوريون سيختارون رئيسا جديدا أم سينتخبون رئيسهم الحالي. والاحتمال الكبير أن رئيسهم سيخرج كبيرا من الأزمة، وسيطلبون منه الاستمرار في إصلاح البلاد". ليس هدف الحرب إذن الغيرة على الإسلام، بل المصالح الاقتصادية والسياسية الاستعمارية، بعيدا عن رؤى من ينفذها بالسلاح. يفيدنا في هذا السياق أن نتذكر كلمة الإسلامي عبد الله عزام الذي اختلف مع زملائه فاغتيل: "حمل السلاح قبل التربية الطويلة للعصبة المؤمنة أمر خطر، لأن حملة السلاح سيتحولون إلى عصابات تهدد أمن الناس".

من يتصفح الصراع العربي الإسرائيلي منذ بداياته يتبين بوضوح أن الخطر الصهيوني يشمل العرب جميعا، مسيحيين ومسلمين، من شتى المذاهب. ويجد بين من قتلهم دونمة الاتحاديين من شهداء أيار، مسيحيين وشيعة وسنة، دون تمييز. عانت الكنائس الفلسطينية ماعانته المساجد الفلسطينية في الاحتلال الإسرائيلي من التطاول عليها. وتساوى في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي المسيحيون والمسلمون. الأب عطا الله حنا مثل على ذلك. عدو العرب جميعا، إذن، إسرائيل والغرب الاستعماري الذي اختلقها ويدعمها. إليهم فقط يجب التسديد!

مشروع الغرب لمسيحيي الشرق

في لقاء أجرته الإعلامية ماري آنج باتريسيو بطلال أرسلان ونشرته "لو غراند سوار" في 27/12/2011، وكانت الإعلامية محملة بأسماء المسيحيين المقتولين في حمص، قال لها طلال أرسلان: "في سنة 1975 أتى دين براون، مبعوث الرئيس جيرالد فورد الرئيس الأمريكي، واقترح على والدي طرد المسيحيين من لبنان. قال له: إن السفن جاهزة لنقل المسيحيين إلى كندا، البرازيل، ..! مشروع تهجير المسيحيين ليس جديدا. لكن لاأحد يتذكر ذلك. ماهو مكان المسيحيين في لبنان اليوم؟ في سنة 1975 كانوا 65% من سكان لبنان. واليوم لايمثلون أكثر من 26% بما فيهم الأرمن. تهاجم القوى الاستعمارية البطرك الراعي لأنه يعرف جيدا هذا المخطط.. بعد سقوط الدولة العثمانية كان هناك تياران: إسلامي وعروبي. وكان مسيحيو لبنان الطليعة العروبية. ماالذي يربطني ببشار الأسد؟ لسنا من مذهب واحد. العروبة هي مايجمعنا، وليس الإسلام. هذا أساسي في المنطقة، ولذلك تريد الولايات المتحدة دفع الأصولية الإسلامية. هذه العملية غير مفهومة إذا لم ندرك أنها عملية إسرائيلية".

اعترض الأمير أرسلان على اقتراح دين براون. لكن بعد الحرب الأمريكية على العراق، هجر بالنار والقتل مسيحيو العراق. وصوبت النار خلال الحرب على سورية على المسيحيين لتهجيرهم. في المشروع نفسه انتقد ساركوزي، من منصة رئيس الجمهورية الفرنسية، المسيحيين السوريين لأنهم "يؤيدون الدولة"، وهددهم بأنهم سيتحملون تبعة ذلك! فغضب الراعي الماروني المدافع عن أصالة المسيحيين في بلادهم، وخسر وسام ساركوزي!

يبدو أن العقل الغربي الاستعماري العنصري عاجز عن فهم التنوع الإنساني الحضاري السوري! وهو قريب، روحا ومصلحة، من التخلف والتعصب القطري! فالغرب ليس علمانيا يحترم النسيج الذي يحتضن تنوع المذاهب والقوميات! وليس مسيحيا يحرص على مصير المسيحيين! بل يلبس مايناسب مشروعه الاستعماري: ستر تدخله الاستعماري في القرن التاسع عشر باسم حماية المسيحيين، ويستخدم القتل وحرق الكنائس اليوم لتهجير المسيحيين وتسييد إسرائيل على دويلات ضعيفة! وأية تناقضات لم تكشفها الحرب على سورية في النظام الغربي! من أول الوصايا العشر: لاتكذب، لاتسرق! لكن الكذب وسرقة ثروات الشعوب في جوهر السياسة الغربية!

لامسيحية في الغرب، إذن، بل سياسة استعمارية! لذلك ينسى الغرب البلاد التي ولد فيها السيد المسيح! لايستنكر نسف الكنائس السورية وخطف المطارنة السوريين. لايبالي بالمستوطنات التي تحاصر القدس، وتهويد المدينة التاريخية وبيت لحم. على كيان العدو لاعقوبات اقتصادية، ولاسحب السفراء، ولاحجب المساعدات العسكرية والمالية، ولا إلغاء المناورات المشتركة الأمريكية الإسرائيلية، ولالجان دولية تحقيق في استخدامه الفوسفور الأبيض والغازات السامة، ولاقرارات من الأمم المتحدة تحت البند السابع! لذلك قال بن غوريون: لانبالي بالأمم المتحدة. وقال نتنياهو إنه لايهتم بالأمم المتحدة. يعرف أن الكونغرس وقف له يوم ألقى خطابه تسعا وعشرين مرة! وذلك بعد سنوات طويلة من تهديده: "سأحرق واشنطن"!

من السخرية إذن أن يظهر الغرب نفسه كحكم أخلاقي، ووصي يعرف مايلائم السوريين! وأن يقرر لهم "بديمقراطية" من يجب أن يحكمهم، وأي نظام يجب أن يعيشوا فيه! ومن السخرية ألا يبالي بغضبنا على نفاقه الفظ! وألا يبالي بأننا سجلنا في سلسلة الشواهد على الانحياز ضد حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، قول اوباما كالتلميذ أمام أستاذه الإسرائيلي: "إسرائيل أقوى دولة في المنطقة، تسندها الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم". فوق وقاحة تحدي العرب في أرضهم المحتلة استخف اوباما بعقولنا. من هزمت المقاومة اللبنانية إذن في سنة 2006؟ ومن اضطر إلى الانسحاب من العراق؟

المسيحية ابنة الشرق

يتناسى الاستعماريون الغربيون أن هذه البلاد مهد المسيحية. وأن المسيحية لون أصيل من ألوان النسيج الإنساني الاجتماعي العربي. لأن التطهير الديني والإثني خطوة في الخريطة الصهيونية الغربية لتفكيك سورية إلى دويلات دينية وقومية! عصفوران بحجر واحد: ينفذ المشروع الإسرائيلي الغربي الشرير، ويطلق العصابات المتعصبة لتشوه الدين الإسلامي فتهجرنا من التاريخ العربي، من وصية عمر بن الخطاب، ودفاع صلاح الدين الأيوبي عن مسيحيي القدس، والدولة العربية الاولى التي اعتمدت المترجمين المسيحيين وائتمنتهم على المال، وعبد القادر الجزائري الذي أنزل المسيحيين في بيته، وأهل حيّ الميدان العريق الذين فتحوا للمسيحيين بيوتهم يوم أفلت والي دمشق العثماني الغوغاء على المسيحيين، والدولة السورية الحديثة التي لم تميز بين الطوائف والأديان فمثلها في الأمم المتحدة فارس الخوري. يلغى تاريخٌ حضاري ليوضع مكانه تاريخ آخر مجبول بالدم والكذب والجريمة!

ولكن هيهات! مستحيل اقتلاع جذور المسيحيين من قلب الذاكرة الوطنية والشعبية! في الحرب العالمية الأولى بين سنتي 1914 و1918 شغل الغرب اقتسام بلاد الشام. وانشغلت البطريركية الأرثوذكسية في دمشق بالمجاعة، التي سببها النهب العثماني والحصار البحري الغربي. ففتحت أبوابها لإطعام الجياع، دون النظر إلى الدين والمذهب، ومنهم الوافدون من بيروت. رهن البطريرك غريغوريوس حداد أوقاف البطريركية والأديرة كلها، وباع مقتنيات وأواني الكنائس الذهبية والفضية التي تحكي تراث البطريركية الروحي وجذورها في الشام، كما باع صليبه الماسي الذي يضعه على قلنسوته والذي كان قيصر روسيا نيقولا قد أهداه له سنة 1913 لتشتري البطريركية القمح. حتى أن البطريرك التالي ألكسندروس طحان باع كل هذه الأوقاف ليفي الديون وفوائدها الفاحشة. وخسرت البطريركية الأرثوذكسية كل ممتلكاتها، ولكنها قدمت أروع مثل في الأخوة المسيحية الإسلامية.

قاد البطريرك غريغوريوس حداد بين 1916 و1918 المسيحيين للتحرر من نير الأتراك، وبعد استشهاد البطل يوسف العظمة في ميسلون ودخول غورو الى دمشق, كان البطريرك الوحيد الذي ودع الملك فيصل في محطة القدم. فبكى فيصل عندما قال له البطريرك إن هذه اليد التي بايعتك ستبقى وفية لك إلى الأبد. فحاول فيصل تقبيلها لكن البطريرك سحب يده وقبله في جبينه.

عندما توفي البطريرك غريغوريوس سنة 1928, شارك خمسون ألف مسلم دمشقي في تشييعه وسموه محمد غريغوريوس.

أي بيت من بيوت المسلمين لم يترنم بسورة مريم في القرآن الكريم! وهل يغيب من الذاكرة أن المسلمين الفلسطينيين كانوا ينذورن تنكات الزيت لكنيسة البشارة في الناصرة! تذكر الكتب التاريخية أن السيدة مريم العذراء نزلت في الربوة في دمشق. ويسكب ذلك القداسة على الربوة أو يفسر سحرها. ويروي أبو الفرج الأصفهاني في كتاب أدب الغرباء أن الخليفة العباسي المتوكل شَخَص إلى الشام. فلما صار بحمص قال أريد أن أطوف كنائس الرهبان كلها. "ثم إنا نزلنا منزلا بين كنائس عظيمة وآثار قديمة ترتاح النفوس إليها ويشتهي من ينزلها ألا يرتحل عنها.. فلم يزل يستقري تلك الكنائس والديارات ويشاهد فيها من عجائب الصور وفاخر الآلة ويرى من أحداث الرهبان وبنات القسيسين وجوهاً كأنها أقمار على غصون، تتثنى في الأروقة والصحون..". واستظرف ابنة قسيس سقته من ماء الغدران بآنية من الفضة وأعجب بفصاحتها. في العصر العباسي كانت دور العبادة محترمة، إذن!

ولايزال رخام الرصافة يتألق في الضوء. وفي الرصافة كنيسة سرجون، الضابط العربي الذي قتله الرومان لأنه دافع عن ايمانه المسيحي. زاد الغساسنة في عمارة الرصافة أبنية منها الكاتدرائية الكبرى، وخزانات المياه. وأضاف هشام بن عبد الملك الأموي أبنية أخرى بقيت شامخة حتى غزا المغول المنطقة وتكاتفت الزلازل على الرصافة. كانت دور العبادة المسيحية محمية في العصر الأموي، وبقيت جزءا من التاريخ المعماري العربي. فماذا حدث كي يُهدد مسيحيو الشرق، في البلاد التي ولدت فيها المسيحية وانتشرت منها، ويخطف كبار المطارنة، وتفجر الكنائس وهي من الثروة المعمارية العربية؟ لكي ينقلب الصراع المركزي الصهيوني العربي إلى صراع بين الطوائف، وتصبح الطائفة الأخرى هي العدو بدلا من إسرائيل!

ذكرت أناستاسيا بوبوفا في ملاحظاتها على تقرير لجنة الأمم المتحدة عن سوريا وقائع رأتها خلال جولتها الصحفية في سوريا، منها تسديد النار على النسيج الإنساني السوري: "حاصرت العصابات أكثر من ستة أشهر مدينة اسمها نبل في شمال سورية. يموت الأطفال من الجوع في تلك المدينة. ومن يحاول من أهلها الدخول إلى بستانه لقطف الزيتون يطلق عليه الرصاص. وقد تحدثنا إلى أسرة قتل ابنها. حاول الجيش عدة مرات التوصل إلى اتفاقية، وأرسل شاحنات من المواد الغذائية لكنها نهبت. حاول الجيش أن ينزل بعض المواد الغذائية بالحوامات. لكن العصابات أطلقت عليها الرصاص". لاتزال بلدة نبل التي ذكرتها بوبوفا محاصرة حتى هذه اللحظة، وتحاصر القرى التي تحاول أن تنجدها. لانتساءل فقط: أين الهدير السياسي الغربي عن حقوق الإنسان والخشية على المدنيين؟! بل نتساءل لماذا لاينتقل من يحاصر اولئك المدنيين إلى أرض الجهاد الحقيقي: فلسطين؟!

حضارة السوريين

مقابل الانحطاط والكذب والجريمة والنفاق، كشفت سنتان من الحرب الوحشية على سورية أصالة السوريين، تميزهم الحضاري، فطرتهم السليمة. فهمهم أن جوهر الدين أخلاق رفيعة، رحمة، وتكافل في السراء والضراء، ودفاع وطني. في أي مكان في العالم غير سورية صلى المسيحيون والمسلمون معا تحت قصف العصابات وانفجارات السيارات المفخخة؟! في أية بلاد غير سورية هرعت المسلمات المحجبات إلى بيوت مسيحيين أصابتها شظايا القنابل الوحشية؟! وقبل الحرب، في أيام الأمان، يوم كانت بيوت القصاع تزين شرفاتها ويبدو شارع حلب في مهرجان، ويتنزه الناس في باب توما حتى قداس منتصف الليل، كان العيد وطنيا، تمتزج فيه ذكريات بيت لحم والناصرة والقدس وتتلامح فيه فلسطين، ويشارك المسلمون في الاحتفال. أليس المسيح ابن هذه البلاد؟ ألذلك نسفت الكنائس والجوامع، معا، ودمرت مئذنة الأموي في حلب مع الكنائس الحلبية، وقتل رجال دين مسيحيين ومسلمين، فانتشر الحداد في جميع شوارع الوطن.

تلاحق بلجيكا الآن المتعصبين المجهزين للحرب في سورية. لكن لذلك بقية ضرورية: إدانة الإرهاب على بلد نادر استثنائي بنسيجه الإنساني الحضاري. فليست باريز وبروكسل أكثر حقا في الأمان من بلاد المدارس والشعر والمراصد الفلكية، البلاد التي نبت فيها أول قمح، وكتبت فيها أول حروف أبجدية، ونظّم فيها أول أرشيف! ومع ذلك سرقت معاملها ونهبت صوامع حبوبها، وطحينها الذي تبدع منه الخبز المرقّد والكعك بالسمسم وتقدمه مع السحلب! البلاد التي يتلاحم أهلها موجوعين على آلاف القتلى، وآلاف البيوت المدمرة، ومئات المدارس المكسورة، والطرقات التي تقطعها العصابات، وتعلن: لاأعياد حتى يعود الأمان! ومع ذلك لايهزّ هذا الوجع الرفيع ضمائر الغرب البليدة!

لابد لهذا الليل من آخر

الأحلام ابنة الدرب إلى المستقبل. وماأضيق الحياة دون فسحة الأمل! والأحلام هدية الحياة للإنسان. يسجل المحللون: "حتى نصل إلى توازن جديد في الشرق الأوسط فإن الطريق معبد بكثير من الآلام". سيظل المشروع الغربي دمويا شرسا حتى لحظة فشله الأخيرة. لكن سورية تقبض على الأمل بالأمان، تستقوي بشعب صلب صبور إنساني، وبجيش وطني لم يخطئ يوما في تحديد العدو، يستقوي بالشعب السوري العظيم. تتألق في أوجاعها، معتدة بأنها الوحيدة في المنطقة التي لم تعرف مثيل حروب الطوائف والقوميات الاوروبية! الوحيدة التي يلوّنها التنوع! الوحيدة التي شارك في الصلوات على الشهداء فيها الشيوخ والمطارنة! القلوب مثقلة بالأحزان على المهجرين ومن فقدوا أحباءهم. فمن أخلاقنا خفض الصوت إذا مات إنسان في الحي. ولانزال مخلصين لتلك التقاليد. فالفرح الشخصي عيب إذا لم يرافقه فرح عام. لكن الحرب سجلت للعدو صلابة السوريين. وأنعشت لنا جمال سورة مريم في القرآن الكريم. وذكّرتنا بالراهب بحيرا الذي جلس إليه النبي (ص) في كاتدرائية بصرى التي تجسد عمارة بلاد الشام. بسعة الروح التي لايمكن دونها تأسيس حضارة. ولابد أن يكون الحزن كالملاط المستخدم في المشيدات العربية، المتين القادر على الحياة قرونا، مع أنه من مادة بسيطة. ليشدّ هذا الملاط النسيج السوري. ولعل الغافي من العرب والغربيين يصحو، فهول الأحداث السورية كشف انحطاط السياسة الدولية والإقليمية. ودور المال القطري في إفساد الثقافة والسياسة والدول والمجموعات. وواجب لجم المتطاولين على الحضارة والعراقة وإعادتهم إلى أحجامهم الحقيقية.

 

 

 

آخر تعديل على الأربعاء, 25 أيلول/سبتمبر 2013 13:56