العملة الجديدة
محمد زهران محمد زهران

العملة الجديدة

إذا تتبعنا الحملات الاستعمارية عبر التاريخ سنجدها دائماً لها أهداف إقتصادية فمثلاً بدأ الأمر بالبهارات (نعم البهارات التي نعرفها ونستخدمها في الطعام) وفي القرون الوسطى إهتمت الحملات الصليبية بالبهارات والتوابل والطرق المؤدية إليها ولك أن تعلم أن أسعار التوابل في ذلك الوقت كانت مرتفعة للغاية وليست في متناول أغلب الناس في أوروبا! المهم أن البهارات والتوابل كانت هي المطمع في تلك الحقبة وكانت من أسباب الكثير من الحملات الاستعمارية، إن أردت أن تعرف المزيد عن البهارات والتوابل وتأثيرها على التاريخ فعليك بكتاب (The Spice Route: A History) أو "طريق التواب: تاريخ" للمؤرخ البريطاني (John Keay).

بعد ذلك ظهرت الثورة الصناعية وبدا أن الموتور هو من سيدير العالم ويتحكم فيه والموتور يحتاج إلى طاقة وهنا ظهرت أهمية وجود مصدرطاقة سهل المنال ورخيص في استخدامه: البترول، وأصبح البترول هو عملة القرن العشرين والذهب الأسود كما يطلقون عليه وأصبح كذلك مصدرالحملات الاستعمارية الجديدة والمحرك لكل السياسات الدولية حتى الآن على الأقل.

إذا نظرنا حولنا ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين سنجد الكمبيوتر في كل مكان: في تليفونك في ساعات اليد في التليفزيون ... في كل مكان وأصبح العالم قرية صغيرة نتيجة ثورة الاتصالات، إذا أجهزة الكمبيوتر أصبحت متصلة ببعضها البعض تتبادل المعلومات .... وهذه المعلومات هي عملة القرن الجديد وأصبحت تنافس البترول في قيمتها وقريباً ستتفوق عليه، لماذا؟ ماهي تداعيات ذلك؟

عندما تستخدم الفيسبوك أو تويتر أو انستاجرام أو أي برنامج للتواصل الاجتماعية فأنت فحالة مستمرة من توليد المعلومات التي تخزن في أجهزة عملاقة وقوية تحللها وتعرف شخصيتك وأصحابك والذاكرة الجمعية للمكان الذي تعيش فيه وهذه التحليلات تساعد على وضع إعلانات معينة في طريقك تجعلك تشتري منتجات معينة هذا من ناحية، من ناحية ثانية تساعد هذه التحليلات الشركات على تحسين منتجاتها وخدماتها وإبتكار منتجات جديدة وهذا يعود عليها بالمبالغ الطائلة، من ناحية ثالثة تساعد هذه التحليلات الدول (وأجهزة الاستخبارات) على معرفة الرأي العام وكيفية التحكم فيه، من ناحية رابعة تساعد هذه المعلومات حكومات بعض الدول على تطوير خدماتها في مد ورصف الطرق (فمن ضمن المعلومات التي تجمعها أجهزة الكمبيوتر تنقلات الأفراد) وتقوية وسائل الاتصالات ... إلخ.

إذن نحن نتكلم عن منجم ذهب لا ينضب معينه والشركات على استعداد لدفع أطنان هائلة من الأموال للحصول على هذه المعلومات لأنها ستحصل منها على ما يكافئ أضعاف ما دفعته ... فنحن كما يقولون في عصر المعلومات الكبيرة (big data) و إن كانت كلمة data لا تعني معلومات بالمعنى الحرفي ولكنها المادة الأولية للمعلومات.

المعلومات التي يتم الحصول عليها كل ثانية في عالمنا هذا إذل تواجدت الإمكانيات لاستغلالها ستاسعد على فهم الحاضر واستشراف المستقبل، فماهي هذه الإمكانيات؟ أولاً تحتاج أجهزة كمبيوتر قوية للغاية (وقد تكلمنا عن ذلك في مقال سابق) وتحتاج إلى برامج تحليل (يسمونها predictive analytics أو بترجمة حرفية التحليل الاستشرافي) وبرامج ذكاء إصطناعي (وقد تكلمنا عن ذلك أيضاً في مقال سابق) وتحتاج إلي إدارة تعرف ما هي المعلومات التي تحتاجها وما الذي تريد استنتاجه منها ولماذا تريد ذلك وكيف ستستفيد منه وفي هذه النقطة الأخيرة يوجد كتاب مفيد جداً وشيق في الوقت ذاته (وهذا نادر!) بعنوان (Prediction Machines: The Simple Economics of Artificial Intelligence) أو "أجهزة التنبؤ: الاقتصاد البسيط للذكاء الصناعي" ألفه ثلاثة من أساتذة الإدارة بجامعة تورونتو يشرف كيفية إدارة إفتصاديات المعلومات.

قلنا أن المعلومات أصبحت اسلعة الثمينة بجوار البترول وتنبأنا أنها ستصبح أغلى وسيحدث هذا قريباً ولكن حالياً المعلومات سلعة لم تسعر بعد وهناك بعض علماء الاقتصاد يعكفون حالياً على إيجاد آليات لتسعيها.

رأينا في بداية هذا المقال أن السلعة الثمينة تكون وقود الاستعمار فماذا عن سلعة المعلومات؟ نحن نعيش في عصر أصبح فيه الاستعمار على الأرض مكلف وغير ذي أهمية لأنه من الممكن استعمار العقول وطرق التفكير وتوجيه الجماهير لأي فعل فكما قال جوستاف لوبون أن الجماهير في مجملها عبارة عن شخص محدود الذكاء أو متوسطه حتى وإن كان في الجماهير على المستوى الفردي عباقرة، وكما نرى الآن هناك حرب معلنة بين الولايات المتحدة وروسيا تتهم فيه الأولي الثانية بأنها تدخلت عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي في توجيه الجماهير لإنتخاب دونالد ترامب، ورأينا مارك زكربرج منشئ فيسبوك ومديره التنفيذي وهو يخضع للتحقيق من قبل الكونجرس لإتهام فيسبوك بترويج أخبار كاذبة .... هذا هو الاستعمار الجديد!

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني