تنمية أقصى شرق روسيا: صراع «شدّ الحبل»
يو هوي يو هوي

تنمية أقصى شرق روسيا: صراع «شدّ الحبل»

أرض متجمدة ورياح باردة وليالٍ طويلة: تتأهل هذه الظروف لتشكل كابوساً لأي فريق إنشاءات. لكن في الحقيقة هذه هي الظروف التي صارعها موظفو «مجموعة هندسة جسر سكّة الحديد الكبرى الصينيّة»، في الشتاء الماضي بينما كانوا يشيدون جسر سكّة حديد تونغ-جيانغ الصينيّ-الروسي الذي يعبر الحدود بين الصين وروسيا.

تعريب وإعداد: عروة درويش

يُتوقع أن يوقد الجسر ازدهاراً تنموياً في التجارة والبنى التحتيّة في الممرّ الاقتصادي العابر للحدود، وذلك مع تدفق أكبر للبضائع والبشر.

يصل هذا الجسر البالغ طوله 2280 متر (بنت الصين منه حوالي 1900 متر)، والمقرر أن ينتهي هذا العام، مدينة تونغ-يانغ في إقليم هيلونغ-يانغ بمدينة نيجنلينينسكوي في روسيا. إنّه أحد أهمّ مشاريع البنى التحتيّة في سبيل تعزيز تنفيذ «خطّة بناء الممرات الاقتصادية الصينيّة-الروسيّة-المنغولية». أتمّ فريق الإنشاءات الصيني قرابة كامل أجزاء المشروع الكبرى في الصين على مدى 14 شهراً في عام 2015، ممّا جعله محلّ تهنئة العالم.

ومع احتضان كلا البلدين لعام قادم من التعاون والتبادل الروسي-الصيني، فإنّ إتمام هذا المشروع سيكون هديّة واقعيّة لتسهيل التعاون الصيني مع أقصى شرق روسيا، وخاصة بعد إدماجه بمشاريع مشتركة أخرى في مجالات أخرى بين كلا البلدين في شرق روسيا الأقصى.

إنّ التعاون الصيني-الروسي والمشاريع المشتركة الضخمة في ظلّ مبادرة الحزام والطريق قد تصاعد في مجالات الطاقة والتمويل والقطارات السريعة والبنى التحتية وقطاعات العلوم والتكنولوجيا خلال العقد الماضي، وهو الأمر الذي حوّل خطاب الشراكة الصينية-الروسية إلى منافع ملموسة.

ورغم أنّ تدفق الاستثمارات الصينية قد يضخم رهاب الأجانب بين القوميين الروس، والذين يقلقون من أنّ يتمّ «تصيين» الشرق الأقصى بعد الوصول المكثف لرأس المال والتكنولوجيا والخدمات الصينيّة. لكنّ الروس المنطقيين يدافعون عن الأمر، ويدعون إلى وضع «حالة التأهب القصوى جانباً» واغتنام الفرصة الكبرى للتنمية.

وفي هذه الأثناء، وفي حين أنّ رؤى الصين قد تقولبت لتسعى لدور أكثر نشاطاً في شؤون آسيا-المحيط الهادئ، فالتنافس بين الاقتصادات الآسيوية الهامّة على شرق روسيا الأقصى من شأنه أن يخفف من غلواء الانفراد بالقرارات الاقتصادية.

  • تشديد التعاون:

هناك في موقع تشييد جسر سكّة حديد تونغ-يانغ الصينيّ-الروسي، دخل مئات العمال إلى بناء مؤقت لالتماس بعض الدفء في درجة حرارة 20 تحت الصفر.

وبما أنّ نهر هيلونغ-يانغ هو نهر متجمد موسمياً، فإنّ الـ 150 يوماً من التجمد تقلل أيام عملهم الفعلي إلى النصف. وكما يقول لو بو، رئيس فريق عمّال الموقع: «تتقلّص ساعات العمل الفعلي بشكل يومي، وليس أمامنا سوى العمل بجدّ قبل غروب الشمس».

إنّ فريق الإنشاءات الصيني الريادي في هذا المشروع، والذي أبهرت سرعته وفاعليته «بشكل عميق» المنظمين الروس، هو في حقيقة الأمر خلاصة مئات المشاريع الإنشائيّة الصينيّة التي استثمرت فيها الحكومة الصينية في منطقة أقصى شرق روسيا.

استوعبت منطقة أقصى شرق روسيا في العامين الماضيين 9 مليارات دولار كاستثمارات أجنبية، وقد أتى حوالي 80% منها من الصين. هكذا قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أقصى شرق روسيا في منصّة الاقتصاد الشرقي عام 2017.

وفقاً لبيانات وزارة تطوير أقصى شرق روسيا، فقد زاد عدد الشركات الصينية العاملة هناك بنسبة الثلث في عام 2017. تبلغ قيمة المشاريع المشتركة الـ 28 في المنطقة أربعة مليارات دولار، لتمثل حوالي 35% من كامل الاستثمارات الأجنبية في أقصى شرق روسيا في الأعوام الثلاثة الماضية.

ويعدّ قطاع الهيدروكربون هو الرئيسيّ هنا. فقد تمّ توقيع عقد بقيمة 400 مليار دولار بين عملاق الغاز الروسي غازبروم وشركة البترول الوطنية الصينيّة عام 2014، وذلك لمدّة 30 عاماً، لتوريد الغاز إلى الصين.

وفيما وراء صناعة استخراج الموارد، وقعت مجموعة ميناء تيانجين الصينيّة مذكرة تفاهم وتعاون مع مجموعة ميناء فلاديفوستوك التجاري في حزيران 2017، وذلك من أجل تعزيز التطوير المتكامل للميناءين والاستجابة لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

ومن المشاريع المعروفة: ممر النقل الدولي «بريموري1 وبريموري2»، المتوقع بأن يشجع التجارة والاستثمار في أقصى شرق روسيا. ستسهم بنى نقل تحتيّة محسنة بشكل كبير بزيادة ترانزيت البضائع ضمن إطار وقت قصير بين شمال شرقي الصين وميناء فلاديفوستوك الروسي.

  • التنافس على روسيا:

مع زيادة تعزيز روسيا لتنميتها الاقتصادية في المناطق الشرقية بوصفها حقيقة ملحة استراتيجياً، فقد أصبحت الاستثمارات الأجنبية في هذه المنطقة مصيريّة بشكل متزايد.

بدأت روسيا في آب 2017 بإصدار تأشيرات دخول إلكترونية لمواطنين من 18 دولة، والصين من ضمنها، لزيارة أقصى شرق روسيا. تسمح هذه الفيزا الجديدة للمسافرين بالدخول لروسيا عبر المعابر الحدودية في ميناء فلاديفوستوك أو مطار فلاديفوستوك الدولي.

تهدف روسيا، وهي واحدة من أكبر مصدرين للنفط الخام والغاز الطبيعي الجاف في العالم، إلى تنويع اقتصادها عبر استغلال ميناء فلاديفوستوك الحر، وعبر 12 منطقة اقتصادية-اجتماعية أخرى في منطقة أقصى شرق البلاد. وتصل الصين، وهي التي تملك خططها لتنشيط أقاليمها الشمالية-الشرقية، هناك كشريك تجاري منافس في منطقة أقصى شرق روسيا.

وهناك الكثير من الدول الآسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية ومنغوليا والهند، تظهر اهتمامها بتطوير أقصى شرق روسيا.

قال تشين يورونغ، الخبير من معهد الصين للدراسات الدولية: «إنّ البلدان الأخرى هي أقلّ قدرة على التنافس نسبياً من الصين، سواء من ناحية العلاقات الروسية-الصينية القوية أو من ناحية قوّة الصين الاقتصادية وقدرتها الاستهلاكية».

لكنّ لي يونغهوي، الباحث في مركز الدراسات الروسيّة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، لا يوافق على هذا التفوق الذي تمّ منحه للصين: «إنّ روسيا في حقيقة الأمر تمنع الاستثمار الصيني من أن يصبح أوليغارشيّة-أقلويّة في منطقة أقصى شرق روسيا، وذلك عبر الاحتفاظ بالمزيد من الفرص لبلدان آسيا الأخرى كاليابان وكوريا الجنوبية، وعبر تقييم إمكانات الصين واليابان لخدمة المصالح الروسية، وذلك من أجل تعظيم نفعها من المنافسة».

ووفقاً لما ورد في وسيلة الإعلام المملوكة للدولة الروسية سبوتنيك، فقد أعلنت وزارة تنمية أقصى شرق روسيا في تشرين الثاني 2017 بأنّ اليابان استثمرت 100 مليون دولار في مشاريع جديدة في أقصى الشرق، وهو ما يتخطى الكمية المستثمرة من قبل شركاء روسيا الآخرين في منطقة آسيا-المحيط الهادئ، ومن ضمنهم الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام.

ونظراً لتقاسمهما نظرة جيوسياسية عن عالم متعدد الأقطاب، يقترح الروس زيادة استثمار اليابان في أقصى شرقها إلى مليار دولار خلال العامين التاليين، وهو الأمر الذي قد يطلق صراع «شدّ حبل» على احتياطيات هذه المنطقة الوفيرة.

  • القلق والتوتر:

أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي يوري تروتنيف مرّة بشكل صريح في عام 2015، عن رغبة روسيا بتنمية منطقة أقصى شرقها على غرار النموذج التنموي الذي اعتمد في مدينة شينزن جنوبي الصين، وهو المثال المزدهر على سياسة الانفتاح والإصلاح الصينية.

وقد اعتبر وانغ تشينزينغ، وهو باحث آخر من الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، بأنّ هذا الأمر يعكس «عقلية منفتحة»، وهي برأيه جوهر نجاح نموذج تنمية شينزن، والأمر الأكثر أهمية ليتمّ استيعابه في أقصى شرق روسيا.

وقال غاريتسين، أحد المدراء في معمل محلي لضغط الزيت، موجود في منطقة أمورسكايا أوبلاست الاقتصادية الخاصة المتقدمة، بأنّه واثق من توسيعهم لحصتهم من السوق الوطنية إلى الخمس خلال العام التالي، وذلك بسبب «مجموعة كاملة من خطوط إنتاج فول الصويا في مصنع استخراج الزيت الذي قامت الصين بتوفيره».

وقال غاريتسين: «الصين هي شريك موثوق جداً نتمنى أن نتعلم منه أكثر». لكنّ بعض الخبراء الصينيين قلقون من هذا العزم. فقد قال لي يونغهوي بأنّ تشكيل «شينزن روسيّة» ليس بالأمر العملي بسبب الطبيعة المحافظة للسياسة والثقافة الروسيّة.

يقول يونغهوي: «يصعب في واقع الأمر أن نتصوّر قيام روسيا بفتح أقصى شرقها بشكل تام كما حصل في شينزن الصينية. بالنسبة لبلد مثل روسيا، وهي التي تعطي الأولوية للتوكيد الأمني على حساب المنافع الاقتصادية، فمن المنطقي أن نشهد إغلاق أقصى شرق البلاد في المستقبل حال الكشف عن عناصر مناقضة لأمنها أو لنظامها البيئي».

قد تشكّل المخاوف والتوترات التي يثيرها انفتاح أقصى شرق روسيا بين السكان المحليين تحديات أخرى. وقد يؤدي تدفق الاستثمارات الصينية إلى تضخيم المشاعر المعادية للأجانب بين القوميين الروس.

وصفت التقارير المتكررة بأنّ السكّان المحليين في أقصى شرق روسيا قد اعتبروا ارتفاع عدد المهاجرين الصينيين إلى مناطقهم، وهو أحد الآثار الجانبية للاستثمار الصيني، تهديداً بتوسّع السكان الصينيين. الكثيرون على الجانب الروسي قلقون من أن يتمّ «تصيين» أقصى الشرق في بلادهم على إثر الوصول الهائل لرأس المال والتكنولوجيا والخدمات الصينيّة.

هناك ادعاء بأنّ التصيين الاقتصادي سوف يهيئ الساحة، عاجلاً أم آجلاً، لتآكل السيطرة الجيوسياسية. يخشى آخرون من أنّ يؤدي الاختراق الصيني الاقتصادي الحصري لمنطقة أقصى شرق روسيا إلى تحويلها إلى ذيل مواد خام تابع للصين.

وقّع أكثر من 50 ألف روسي عريضة إلكترونية في كانون الثاني 2018 لمنع جميع الصينيين من شراء الأراضي في بحيرة بايكال. تمّ توجيه العريضة للسياسيين الروس ومن بينهم الرئيس فلاديمير بوتين. وهناك عريضات أخرى تدعو لإنهاء قطع الغابات في الشرق الأقصى السيبيري بغرض تصدير الأخشاب إلى الصين.

قال زو هوا، الخبير بالعلاقات الصينيّة-الروسيّة من أكاديميّة العلوم الاجتماعية الصينية: «ليست هذه العرائض تحديات عمياء ضدّ الصينيين، بل تعمل كإنذار مبكر للتأكيد على المخاطر الإيكولوجيّة-البيئيّة المحليّة».

وقد خاطب سيرجي ساناكوف، رئيس مركز التحليل الصيني-الروسي، القوميين الروس: «إن تابعنا بهذا النوع من حالات التأهب القصوى، فسنخاطر بخسارة فرصة كبيرة للتنمية».

ويشرح زو: «إنّ السلوك الروسي من الاستثمار الصيني معقد، مع مخاوف عالقة متصلة به. يأملون بالاستفادة من رأس المال الصيني من أجل تنميتهم الاقتصادية، لكن لديهم مخاوف من تحوّل أرضهم إلى ذيل مواد خام تابع للصين».

ربّما تنقل الصين قريباً المزيد من الشركات إلى أقصى شرق روسيا، بدءاً من مشاريع البناء إلى خدمات الهواتف. في اللحظة الحالية، تبقى روسيا راغبة بالقبول بهذه الشركات طالما تلتزم بالمعايير البيئية.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني