الحرب التجاريّة 2| استغلال العجز
أندرو فيشر أندرو فيشر

الحرب التجاريّة 2| استغلال العجز

لمراجعة الجزء الأول من هذا المقال، اضغط هنا.

تعريب وإعداد: عروة درويش

بدأت الصين بإدارة العجز في حسابات دخلها بدءاً من عام 2009 (مع استثناء بسيط عام 2014)، وذلك رغم كونها دائناً دولياً كبيراً. وكما شرح يو يونغ-دينغ الأمر، يحصل هذا لأنّ معظم الأصول الأجنبية الصينيّة تدرّ عائدات منخفضة جداً، مثل سندات الخزينة في الولايات المتحدة. وذلك في حين أنّ الاستثمارات الأجنبية في الصين مربحة جداً، وتتخطى في الغالب 20-30% سنوياً، وهو الأمر الذي يؤدي لإبطال أيّ مزايا في ميزان المدفوعات التي تتراكم عادة عندما تكون دائناً دولياً كبيراً.

وهنا يتوضّح لنا بأنّ الولايات المتحدة هي الصورة العكسية للصين: فرغم كونها مديناً دولياً كبيراً، فهي تكسب فائضاً على حساب دخلها. يعود كلا الوضعان (وضع الصين وأمريكا) إلى تحويلات الأرباح، مثال: الأرباح التي تغادر الصين وتدخل الولايات المتحدة بكل تأكيد. قدّر يلمز أكيوز بأنّ وضع صافي الحساب الجاري للمؤسسات الممولة أجنبياً (FFEs) في الصين، كان في العجز في الأعوام الماضية، وهو ما يعني بأنّ تحويلات أرباحها كانت تبطل الفوائض التجارية لبضائعها والتي يمكن للصين الاستفادة منها.

بكلمات أخرى، بعد الفترة القصيرة الاستثنائيّة ولكن التاريخية من إدارة «فائضين توأمين» كبيرين جداً (في كلا حساب العمليات الجارية والحساب المالي)، عادت بنية حساب العمليات الجارية للصين إلى نمط شائع في دول الأطراف النامية. يتميّز النمط بوجود فائض في تجارة السلع يؤدي إلى عجز في حساب خدمة التوازن (والمهيمن عليها بالمدفوعات التي تتلقاها الشركات الأجنبية)، وكذلك بتحويلات أرباح الشركات الأجنبية (وغيرها من الاستثمارات الأجنبية، سواء أكانت تحويلات شرعية أم غير شرعية).

عكست هذه التحولات السريعة الاندماج العميق المتزايد لتجارة الصين الخارجيّة، في الشبكات الدولية التي تهيمن عليها الشركات العابرة للحدود التي تتخذ من الشمال موطناً لها. نتج عن هذا النموذج أداء تصدير استثنائي، رغم حدوثه عبر ضخّ مصادر حساسة كبيرة لا تحظى بالتقدير المناسب.

وكما لاحظ يو يونغ-دينغ، قام «بنك الشعب الصيني» بين عامي 2015 و2017 بأكبر تدخل في أسواق صرف العملات الأجنبية في التاريخ من أجل منع سحب الرنمنبي (العملة الصينية) من المصارف. استنزف هذا احتياطيات النقد الأجنبي لدى الصين بأكثر من ترليون دولار أمريكي. وقد أوضح يونغ-دينغ في مقالة حديثة بأنّه في الفترة ما بين 2011 و2017 اختفى عملياً ما قيمته حوالي 1.3 ترليون دولار من الأصول الصينيّة الأجنبية، ما يعكس في الغالب هروباً لرأس المال. وقد كان هذا الأمر بالإضافة لسحب الرينمنبي، هما السبب الذي دفع ببنك الصين إلى وضع قيود على تحرير حساب رأس المال وإحكام السيطرة على رأس المال لدرجة لم نشهد لها مثيلاً منذ الأزمة المالية الشرق آسيوية في نهاية التسعينيات.

وإذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ القسم الأكبر من رأس المال الهارب هذا يمضي إلى الولايات المتحدة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر مراكز التمويل الخارجيّة المتعددة، إضافة للأرباح التي تستخلصها الشركات الأمريكية من التجارة بين الصين والولايات المتحدة، فمن الواضح بأنّ الولايات المتحدة منتفعة أكثر في هذه العلاقة الثنائية.

  • خطابات تناقص المنفعة الإمبريالية من التجارة:

من هذا المنظور، فإنّ العجز التجاري العميق في الولايات المتحدة والمستمرّ منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، يمثل بشكل مثير للجدل صيغة جديدة من صيغ الإمبريالية الرأسمالية المتقدمة، وذلك عبر إنشاء نظام جزية تدعم فيه الدول حول العالم عملياً توسّع الرأسمالية ذات المركز الأمريكي. وعلى أقلّ تقدير، فإنّ حالات العجز هي علامات على تحوّل هيكلي في العلاقات بين القوى العالمية، والمرتكزة على صيغة افتراسيّة متزايدة لرأس المال المالي، بحيث تبقى الولايات المتحدة قابعة في قمّة هذه العلاقات.

وعلى غرار ما حدث في خطابات الخصومة مع السوفييت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فإنّ الثرثرة الحاليّة عن الانحدار والمحافظة تخدمان هدفاً إيديولوجياً ضمن هذه التحولات المستمرّة للقوى المتمركزة في الولايات المتحدة. وهي تهدف عملياً إلى إخضاع البلدان الأخرى ووضع عبء التكيّف عليها، وإلى تشتيت الانتباه عن عمليات إعادة الهيكلة التي تقودها الشركات المتمركزة في الولايات المتحدة بخصوص أنظمة الإنتاج العالمي التي تسببت بالعجز الأمريكي في المقام الأول.