وصول البشر لآسيا1 | أيّ الطرق سلكوا؟
كريستوفر بي كريستوفر بي

وصول البشر لآسيا1 | أيّ الطرق سلكوا؟

«نشأ الإنسان الحديث في إفريقيا منذ قرابة مائتي ألف عام. ثم انتشر عبر أوراسيا منذ قرابة ستين ألف عام، حيث استبدل السكان المحليين الذين قابلهم في طريقه دون التزاوج معهم». هذا هو ببساطة ما يعرف باسم نموذج «الخروج من إفريقيا»، وهو الاسم الشائع له. وجدت هذه النظرية قبولاً واسعاً في تسعينيات القرن العشرين بين علماء أحياء المستحاثات، خاصة عندما بدا بأنّ التحليلات الأولية للحمض النووي للنياندرتال قد بدا وكأنّها تشير لعدم حصول تزاوج بين الإنسان الحديث وبين النياندرتال. لكنّ هذه الفكرة الرائجة بحاجة إلى إعادة تدقيق، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار الكمّ الهائل للمكتشفات الجديدة عبر آسيا خلال العقود القليلة الماضية.

تعريب: عروة درويش

مثال: عندما تمّ اكتشاف «الهوبيت» (إنسان فلوريس homo floresiensis)، وهو النوع الذي يبلغ طوله حوالي أربعة أقدام (حوالي 120 سنتيمتر)، بدا واضحاً بأنّ عدّة أنواع من الأصناف الإنسيّة كانت حاضرة في المشهد خلال أواخر العصر الحديث الأقرب «Pleistocene منذ ما بين 127 ألف عام إلى 12 ألف عام مضت». تم اكتشاف العديد من البقايا الإنسيّة خلال العقد الماضي، وتحديداً في الصين، وهي المؤرخة مؤقتاً بأنّها تعود لحقبة أقدم من 60 ألف عام مضت، ممّا يستدعي مساءلة فكرة أنّ البشر قد هاجروا من إفريقيا فقط قبل 60 ألف عام مضت.

لننظر إلى اكتشافين مؤخراً لأسنان إنسان حديث في كهف لونا في إقليم غوانغشي تشوانغ ذو الحكم الذاتي في الصين. عندما أرخت مع فريقي «الأحجار المنبجسة flowstones»، وهي الأحجار التي تتشكل من الترسبات داخل الكهف، بشكل مباشر أعلى وأدنى موقع وجود الأسنان البشرية باستخدام وسائل تأريخ ثابتة تدعى سلاسل اليورانيوم، وجدنا بأنّ هذه الأسنان البشرية تعود إلى ما قبل 70 ألف إلى 126 ألف عام مضت. وهو الأمر مستحيل الحدوث لو خرج البشر من إفريقيا فقط منذ ستين ألف عام مضت.

إذاً كيف يمكننا باستخدام هذه المكتشفات أن نحدد ما حصل بدقة؟ إلى أيّ المناطق تشير معظم البيانات الحالية المتوافرة لدينا إلى أنّها منشأنا؟ هذه هي الطريقة التي يجب أن نصوغ فيها قصّة اليوم.

طريق الخروج من إفريقيا:

السؤال الأول الذي يجب علينا طرحه هو لماذا قام البشر الحديثون، والذي يعتقد اليوم بأنّ نشأتهم تعود إلى حوالي 315 ألف عام، بمغادرة إفريقيا؟ فإن كان الناس متأقلمين بشكل ممتاز مع البيئة التي عاشوا فيها، وكان لديه القدرة على الوصول إلى موارد وفيرة، فلن يكون لديهم سببٌ حقيقيّ يدفعهم للانتقال أو للتغيّر. فعلى سبيل المثال، كان لدى «التارسيرز tarsiers»، وهم رئيسات غير بشرية فاتنة بحجم يدك ذات عيون ممتلئة، مجموعة أسنان بالكاد قد تغيرت على طول ملايين السنين، ممّا يشير إلى أنهم وجدوا مكاناً ملائماً لهم، واستمروا بالسكنى به بسعادة.

لكنّ التارسيرز انتقلوا من أوروبا إلى موطنهم الحالي في جنوب شرق آسيا بسبب تغيّر في المناخ. فما الذي حدث للبشر؟ اقترح بعض البشر بأنّ الكثافة السكانية قد وصلت إلى حدّ أجبرت فيه مجموعات البشر الساعية للحصول على المؤن على استكشاف أراضٍ جديدة. ويقترح آخرون بأنّه وبسبب الأحداث البيئيّة الكبرى في شرقي إفريقيا (مثل الجفاف الكبير الذي ضرب المنطقة قبل حوالي 60 ألف عام مضت)، دفع البشر لإيجاد كلأ أكثر خضرة. وهناك بعض التفسيرات الأخرى القائلة بأنّ البشر الأوائل قاموا ببساطة بتتبع مصادر الغذاء التي اعتمدوا عليها، وأنّ الساعين وراء حزم الغذاء هذه قد سلكوا معابر الخروج من إفريقيا دون أن يدركوا حقّاً بأنّهم يتنقلون من قارة لأخرى.

يأخذنا هذا إلى سؤال آخر: من أيّ الطرق انتقل البشر الحديثون إلى خارج إفريقيا؟ لا يبدو أنّ هناك وجود لطرق عبر البحر المتوسط من شمالي إفريقيا، ولهذا فلا بدّ بأنّ الموجات المبكرة للخروج من إفريقيا إلى أوراسيا قد تمّت عبر شبه الجزيرة العربية. هناك احتمال قائم بأنّهم عبروا مضيق باب المندب إلى اليمن (وهو الأمر الذي يحتاج للعبور في المياه حتّى في أعتى المراحل الجليدية)، لكنّهم على الأغلب قد سافروا من شمالي مصر إلى شبه جزيرة سيناء.

لقد حدث الانتشار في شرق البحر المتوسط في فترة قريبة من مئتي ألف عامت مضت، وذلك كما يظهر لنا من الأدلّة من كهف مسلية في جبل الكرمل في فلسطين. وصل البشر الحديثون بكل تأكيد حتّى شمال فلسطين، كما تظهر لنا مواقع مثل مسلية وقفزة. لكن يظهر بأنّ الانتشار الأكبر قد سلك درباً أكثر جنوبيّة، ليدور حول نطاق جبال الهمالايا المرعبة وهضبة كينغاي-التيبت، ليصل في نهاية المطاف إلى قلب الصين وإلى شطآن آسيا الجنوبية وأستراليا. لقد حدثت مثل هذه الهجرات المبكرة للإنسان العاقل على نطاقات أصغر من الهجرات اللاحقة. لكننا بدأنا نكتشف آثار هذه الانتشارات الأسبق تاريخياً بسبب تطور التقنية الوراثية لتتبع تسلسل الكثير من الحمض النووي الأقدم. فكما بينت إحدى الدراسات الجينيّة المنشورة، فإنّ 2% من الحمض النووي لسكان بابوا غينيا الجديدة يمثّل هذه الانتشارات المبكرة.

ثمّ قبل حوالي 60 ألف عام مضت، بدأ البشر بالخروج من إفريقيا بأعداد أكبر، ليتحركوا بشكل متزامن في كلا الاتجاهات الشمالية والجنوبية. لقد نتج عن التوسع الشمالي أن تمّ السكن في أوروبا وسيبيريا وغالباً الأرخبيل الياباني أيضاً، ليتم في نهاية المطاف عبور بيرنجيا والوصول إلى الأمريكيتين. أمّا الدرب الجنوبي فعبر شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا وأستراليا وفي نهاية المطاف توسّع عبر المحيط الهادئ.

اقترحت الدراسات الآثارية والجينيّة القديمة أنّ هذه الدرب الجنوبي قد اتخذ منحى سريعاً جداً وأنّه تبع الشريط الساحلي، لكننا لم نعد متيقنين من هذا الكلام اليوم، وذلك بالنظر لنقص الأدلة الآثارية التي تدعمه، ولعدم وجود أرصفة ساحليّة منخفضة شكلت أرضاً جافة أثناء الفترات المتجمدة عندما هبط مستوى البحر. علاوة على ذلك، فإنّ البشر مثلهم مثل بقيّة الثدييات، احتاجوا للوصول يومياً إلى مصادر مياه عذبة يمكن الاعتماد عليها، وهو ما يبدو بأنّه غائب كليّة عن معظم المناطق الساحلية، ولا توجد مثل هذه المصادر إلّا عند التعمّق في الداخل. ولهذا فهناك عدد كبير من الأدلّة التي تدعم التحرّك على طول الدرب الجنوبي، لكنّ هذا الدرب لم يكن بالضرورة محدوداً بالشريط الساحلي.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني