الصناعات الدوائيّة 3| الاستماتة لأجل الحقوق الفكرية
جويل ليكسين جويل ليكسين

الصناعات الدوائيّة 3| الاستماتة لأجل الحقوق الفكرية

تعريب: عروة درويش

هل الملكية الفكرية «حق»؟

إنّ حقوق الملكيّة الفكريّة هي المفتاح الرئيسي في تحريك العائدات والأرباح لصالح الشركات الدوائية. ففي السياق الدوائي المعاصر، ارتكزت الملكية الفكرية بشكل رئيسي على براءات اختراع المنتجات نفسها وعلى البيانات التي تجمعها الشركات عندما تطلق اختبارات تسويقيّة أوليّة من أجل تقدير جدوى وفاعلية منتجها. ولكما كانت حقوق الملكية في بلد ما أكثر صلابة، كلما احتكرت الشركات المنتجات لمدّة أطول، وكلما جنت مالاً أكثر من بيعها. وعليه فليس من المفاجئ أن تمضي الشركات للنهاية ليس في حماية الملكية الفكرية وحسب، بل أيضاً في تعزيزها.
وأحد التجليات المبكرة على هذه الجهود هي الضغط الذي مارسته الشركات الدوائية والذي قاد إلى إصرار الولايات المتحدة أن تفكك كندا نظام الترخيص الإجباري لديها في مقابل توقيع اتفاق التجارة الحرّة بين البلدين عام 1987 والذي أصبح اتفاقيّة التجارة الحرّة في أمريكا الشمالية عام 1994. وكان نظام الترخيص الإجباري يوفّر على كندا 15% من الإنفاق العام على الأدوية، حيث كان يسمح لمصنعي الأدوية التي لا تملك اسماً تجارياً «generic» بإنتاج وبيع العقاقير حتّى لو كان هناك براءة اختراع سارية على المنتج).
وآخر نصر لتشديد الحقوق الفكرية في الولايات المتحدة هو الحصريّة السوقيّة للمنتجات البيولوجية لمدّة 12 عاماً، وتقسم أربعة أعوام حصريّة لحماية البيانات وثمانية غيرها لبيع المنتج البيولوجي. وحماية البيانات أهم من براءات الاختراع حتّى بالنسبة للشركات، فهذه الحماية غير قابلة للتحدي أمام المحكمة كما هو الحال في براءات الاختراع. ورغم أنّ المنتجات البيولوجية تمثّل أقلّ من 1% من الأدوية الموصوفة في الولايات المتحدة، فهي تحظى بنسبة 28% من الإنفاق، ويميل هذا الرقم للزيادة في المستقبل. مثال: منتج سيريزايم «cerezyme» المخصص لعلاج مرض غوشو النادر، ثمنه أكثر من 200 ألف دولار سنوياً للمريض الواحد.
وعلى الصعيد الدولي، تقوم حكومة الولايات المتحدة، تحركها في ذلك مصالح الصناعات الدوائية، بالتأكد من إدراج آلية «حلّ النزاعات بين المستثمرين والدول ISDS» في جميع اتفاقياتها التجارية الدولية. تسمح هذه الآلية للشركات بمقاضاة الحكومات. استخدمت شركة إيلي ليلي هذا الشرط الوارد في اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا من أجل طلب 500 مليون دولار من الحكومة الكندية، لأنّ المحاكم الكندية قامت بإبطال اثنين من براءات اختراع منتجات الشركة. وقد أدّت شروط الملكيّة الفكرية في الاتفاقات مع البلدان النامية إلى تأثيرات هائلة على قدرة الوصول إلى الأدوية، لتتسبب في تأخير وصول الوصفات الدوائيّة العامّة المتحررة من الأسماء التجارية إلى الأسواق. لقد كانت عواقب مثل هذه الشروط في البلدان النامية أكثر تدميراً، مثال: في ظلّ قانون براءات الاختراع الحاليّ في فيتنام، يتلقى 68% من مرضى الإيدز علاجات مضادة للفيروسات القهقرية. لكنّ هذه النسبة كانت لتنخفض إلى 30% فقط لو نجحت اتفاقيّة «الشراكة العابرة للمحيط الهادئ».
لدى الصناعات الدوائية تاريخ ناجح يمتدّ لثلاثة عقود في تشكيل مجموعات ضغط من أجل تعزيز حقوق الملكية الفكرية، بدءاً بجولة المباحثات التجارية في الأورغواي التي قادت في نهاية المطاف إلى إنشاء منظمة التجارة العالمية. لعبت شركة فايزر ومديرها التنفيذي في حينه إيدموند برات، دوراً حيوياً في الضغط على حكومة الولايات المتحدة لجعل مسألة حماية الملكية الفكريّة أمراً رئيسيّاً في تلك المباحثات. وكانت النتيجة عام 1994 إيجاد ما يسمّى «حقوق الملكية الفكرية للمناحي المتعلقة بالتجارة TRIPS»، وهو ما يتطلّب وجود معايير براءات اختراع موحدة في جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية. وعنى هذا أن تمتدّ براءات الاختراع للمستحضرات الصيدلانية لمدّة عشرين عاماً، وأن يتمّ الحدّ من استخدام «الترخيص الإلزامي» بوصفه وسيلة لتسريع ظهور المنتجات المتحررة من الاسم التجاري.
كانت الصناعات الدوائية تهدف لإجبار كافة الدول على تبني ذات قوانين براءات الاختراع المعمول بها في الولايات المتحدة، بغض النظر عن مدى تطور هذه الدول أو قدرتها على إيصال العقاقير العلاجية لسكانها بأسعار معقولة. لم تتبنى العديد من الدول المتقدمة قوانين حماية كاملة لبراءات اختراع المستحضرات الصيدلانية حتّى السبعينيات من القرن الماضي أو بشكل لاحق حتّى، وذلك عندما أصبح إجمالي الناتج المحلي للشخص الواحد فيها يعادل عشرات آلاف الدولارات. لقد تطلّب اتفاق «TRIPS» من دول نامية لا يتجاوز إجمالي الناتج المحلي للشخص الواحد فيها مئات الدولارات، أن تعتمد معايير مماثلة.
مثال: أدّى تعزيز حماية الملكية الفكريّة إلى أنّ العديد من الدول النامية قد وجدت نفسها بحلول عام 2000، في مواجهة وضع تخطي ثمن العلاجات الثلاثية لمرض الإيدز لمبلغ 10 آلاف دولار بالنسبة للشخص الواحد سنوياً، وقدرة الوصول إلى أدوية متحررة من الأسماء التجارية شبه معدومة. قامت حكومة جنوب إفريقيا في أواخر التسعينيات من أجل مواجهة تزايد أعداد المصابين بالإيدز وارتفاع أثمان الأدوية، بتمرير قانون تعديل السيطرة على المواد الصيدلانية وما يتصل بها، وهو ما سمح باستخدام علاجات متحررة من الاسم التجاري واستيرادها من بلدان أخرى دون الحاجة لإذن أصحاب الملكية الفكرية.
وكردّ على ذلك، قامت 39 شركة أدوية متعددة الجنسيات خلال عام 1998، مدعومة من حكومة الولايات المتحدة ومن المفوضية الأوربية، برفع دعاوى على حكومة جنوب إفريقيا بداعي خرق اتفاق «TRIPS»، وخرق دستور البلاد. لكن وبمواجهة المعارضة الشعبية واسعة النطاق، اضطرّت حكومة الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى سحب دعمها للقضيّة أمام المحكمة، وقامت الشركات التي فقدت دعم حكومة الولايات المتحدة بالتنازل عن القضيّة بعدها.
ومنذ ذلك الحين، استخدمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي اتفاقية «TRIPS» كحدّ أدنى للمعايير المقبولة من جانبها، وحاولت أن تزيد من صلابة حماية الحقوق الفكرية مع كلّ اتفاق تجاري جديد، عبر فرض شروط صارمة أكثر فأكثر. ويمكن مشاهدة بعض نتائج هذه الاتفاقات في تمديد حماية براءات الاختراع لفترة أطول من عشرين عاماً، وفي منع الاعتراضات على براءات الاختراع بشكل سابق لمنحها. لقد قلصت شروط حماية الملكية الفكرية في اتفاقات التجارة الحرّة من القدرة على الوصول إلى الأدوية.
وتزودنا تايلند بواحد من الأمثلة العديدة على كيفيّة استخدام الحكومات وشركات الأدوية لقوانين حماية الملكية الفكرية من أجل التنمر على البلدان النامية. فبسبب أثمان العقاقير الطبيّة المرتفعة جدّاً، والتزام الحكومة التايلندية بإيصال شعبها إلى الأدوية الرئيسيّة، أصدرت عام 2006 رخصة إلزامية لعقار «إيوبينافير/ريتونافير»، وهو العقار المستخدم لعلاج الإيدز. أرسلت المفوضيّة التجارية الأوربية كتاباً إلى وزير التجارة التايلندي، تشتكي فيه ممّا حدث. واستجابت شركة أبوت، وهي صانعة دواء «ايوبينافير/ريتونافير» بسحب كافة طلبات العقاقير المقدمة لإدارة الغذاء والأدوية التايلندية، ومن بينها الوصفة المطلوبة لاستقرار نسخة الدواء محلّ الخلاف.
عندما يتمّ إنتاج دواء عبر التراخيص الإلزامية، تسرع الشركات صاحبة الاسم التجاري لشجب هذا الإجراء. وصف مارين ديكرز، المدير التنفيذي لشركة باير، الترخيص الإلزامي بأنّه «سرقة في الجوهر»، رغم أنّه قانوني بشكل كامل حتّى في اتفاقيّة «TRIPS». عندما قدّم ديكرز منتج شركته الجديد عالي الفاعلية «Sovaldi سوفالدي» المخصص لعلاج التهاب الكبد من فئة سي، قال: «لنكن صادقين، لنحن لم نطوّر هذا المنتج من أجل الأسواق الهندية. أعني بأننا طورنا هذا المنتج من أجل المرضى الغربيين القادرين على تحمّل كلفة هذا المنتج، وهذا بكل صدق».

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني