الصناعات الدوائيّة 2| الالتفاف على الأزمة
جويل ليكسين جويل ليكسين

الصناعات الدوائيّة 2| الالتفاف على الأزمة

تعريب: عروة درويش

من الأدوية الواسعة إلى الأدوية المحدودة:

حتّى ما قبل عدّة سنوات، كانت شركات الأدوية تعمل وفق نموذج الأدوية الواسعة. فكانت تستهدف تطوير عقار طبي لعلاج داء مزمن شائع في البلدان النامية، مثل أمراض القلب والسكري. ثمّ تقوم بتسويق هذه العقاقير بكثافة بغية الوصول إلى مبيعات سنوية تجاوز المليار دولار. وتمّ تجاهل الأمراض الحصريّة بالبلدان النامية بشكل كبير، بسبب عدم تمتّع المصابين بهذه الأمراض بالقوّة الشرائيّة اللازمة لتحقيق ربح للشركات. فمن بين 850 عقار علاجي تمّ التسويق له بين عامي 2001 و2011، هناك فقط 37 عقار (أي 4%) تمّ تخصيصها لهذا النوع من الأمراض الحصريّة.

لكن مؤخراً ومع استنزاف جميع الأهداف السهلة، بدأت الشركات تتحوّل من نموذج الأدوية الصارخة إلى نموذج «الأدوية المحدودة»، حيث تستهدف الشركات الأسواق العلاجية بعقاقير يمكن بيعها بمئات آلاف الدولارات سنوياً للمريض الواحد. وبهذا تكون الشركات الدوائية قد حولت أسلوب عملها ليتناسب مع متطلبات الاقتصاد الرأسمالي.

فاستنزاف الأسواق هو شرطٌ لازم للرأسمالية التي تتطلّب «تمييزاً في المنتجات»، والتمييز في حالتنا هو الميل نحو علاجات ذات أثمان مرتفعة أكثر فأكثر، تستهدف أسواقاً أضيق فأضيق، ممّا يضمن النموّ الضروري. ففي الولايات المتحدة مثلاً، ارتفع ثمن عقاقير علاج التصلّب المتعدد من وسطي 8 إلى 11 ألف دولار سنوياً في أوائل التسعينيات، إلى 60 ألف دولار سنوياً في منتصف التسعينيات. وفي عام 2013، اجتمع 120 اختصاصي في أمراض السرطان من أكثر من 15 دولة، للتنديد بأسعار عقاقير الأورام الجديدة التي وصلت إلى أكثر من مائة ألف دولار سنوياً.

يجب التوقّف عن الادعاء بتبرير الأسعار المرتفعة بتكاليف الأبحاث والتطوير. فكما أكّد هانك ماكينل، المدير التنفيذي السابق لشركة فايزر: «إنّها لمغالطة أن نشير إلى أنّ أثمان المنتجات في صناعتنا، أو في أيّة صناعة أخرى، يتم إعادة توظيفها في ميزانيّة الأبحاث والتطوير». تعتمد الأثمان على ما تحتمله السوق. فكّلما أصبح المرضى يائسين أكثر، كلما ارتفع الثمن الذي يستعدون لدفعه.

إفساد عمليّة قوننة العقاقير:

قبل أن تبدأ الشركات بجني الأرباح من العقاقير التي تصنعها، يجب أن تحظى هذه العقاقير بموافقة من أجل تسويقها. لكنّ هذا الشرط مجرّد أمر شكلي في معظم البلدان النامية، حيث أنّ ثلث هذه البلدان إمّا لا تملك، أو تملك قدرة تشريعية قليلة جدّاً بما يخصّ الأدوية. فحتّى في بلدان مثل الهند، يعدّ تشريع العقاقير الطبيّة أمراً مخزياً، وذلك كما تبيّن من الفحص الذي تمّ عام 2011-2012 على مجموعة من المنتجات المختلطة التي تحوي اثنان أو أكثر من المواد الفعالة. لقد وجدت الدراسات التي أجريت مؤخراً بأنّ الشركات تستغلّ تهلهل معايير التشريع من أجل بيع «ملاين المنتجات المختلطة التي تحوي على مواد مقيدة أو محظورة أو غير حاصلة على الموافقة في بلدان أخرى، وهي المنتجات المرتبطة بشكل وثيق بعدّة آثار خطيرة من بينها الموت».

لقد تمّ إفساد التشريعات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي عبر ممارسة شركات الأدوية لتأثيرها. فكما لاحظت كورتني ديفيس وجون أبراهام، بروفسورا الصيدلة في جامعة الملك في لندن: «شهدت الأعوام الثلاثين الماضية مجموعة من الإصلاحات التي قللت عدد التشريعات بشكل كبير، والتي كانت تهدف في ظاهرها لتعزيز الابتكار الصيدلاني. لكنّها في حقيقة الأمر كانت تهدف لتعزيز المصالح التجارية للصناعات الطبيّة». ويفسّر أبراهام الأمر: «تسمح نظريّة التحيّز للشركات بتفسير نفوذ الصناعات الدوائية على الدولة القويّة، ممّا يسمح لها بالتواطؤ مع الشركات لتقليل عدد التشريعات». حتّى أنّ أبراهام يجادل بأنّ للشركات القدرة ليس على التأثير على الوكالات الحكومية فقط، بل كذلك على الحكومة الأوسع بشكل مباشر، وذلك عبر مجموعات الضغط والتبرعات المالية وغيرها من النشاطات التأثيرية. وكمثال على ذلك تعيين ممثلي الشركات في فرق العمل من أجل المساعدة في صياغة السياسات الحكومية العامّة. وكانت النتيجة الحتميّة لذلك هي دعم الدولة بشكل نشط التشريعات التي تخدم الشركات.

والتجلي الواضح للانحياز للشركات في التشريعات الصيدلانية هو التبني الحكومي واسع النطاق للاعتماد على ذات الشركات في تمويل نشاطات السلطات التشريعية، مثلما هي الحال مع إدارة الأغذية والدواء الفيدرالية الأمريكية، ووكالة الأدوية الأوربية، ووكالة المنتجات الصحيّة والدوائية في المملكة المتحدة. فكمثال: بعد تردد الكونغرس الأمريكي في زيادة ميزانية إدارة الأغذية والدواء الفيدرالية، تمّ في عام 1992 تمرير قانون «أجور فحص الدواء»، الذي تقوم بموجبه الشركات بتزويد الإدارة بالمال اللازم لإجراء الفحوص على الأدوية المقدمة إليها، والذي سمح في عام 2007 بموجبه لإدارة الأغذية والدواء باستعمال هذه الأموال بشكل مباشر من أجل الموافقة على المنتج.

وتمّ بعد خمسة أعوام في 2012 تمديد هذا السماح مرّة ثانية. إنّ أحد الشروط الرئيسيّة كي تحصل إدارة الأغذية والدواء على المال أن تلتزم بدراسة الطلب، والموافقة عليه أو رفضه خلال فترة محددة قصيرة نسبياً. فعندما نأخذ بالاعتبار محدوديّة عمر براءة الاختراع، فكلما نزل العقار الطبي إلى الأسواق بسرعة أكبر، كلما عنى ذلك جني الشركات التي تبيعه لأرباح أكبر ولمدّة أطول.

وفي بريطانيا، كانت وكالة المنتجات الصحيّة والدوائية تتلقى قبل عام 1989 65% من تمويلها عبر «أجور فحص الدواء» و35% عبر الضرائب، تحولت بعدها لتحصل على كامل تمويلها من الشركات. ويبدو أنّ هذه المسألة قد لاقت استجابة حسنة من نخب أوروبا ووكالاتها التشريعية عموماً.

وتظهر الأدلّة أنّ مسألة التمويل عبر الشركات قد حملت معها عواقب وخيمة على الصحّة العامّة. مثال: إنّ وقت الفحص النموذجي للمنتج في أمريكا هو 300 يوم، وفي ظلّ «قانون أجور الفحص» يجب أن تكمل إدارة الأغذية الفيدرالية 90% من فحص الطلب في هذه الفترة. وإن لم يتمّ الموافقة على الطلب تتمّ إعادة عمليّة الفحص مع تحميل الشركات مقدمة الطلب كامل التكلفة. لكن في واقع الأمر فقد ارتفعت نسبة الموافقة على المنتجات قبل الميعاد النهائي بشهرين خمسة أضعاف، بالمقارنة بما قبل القانون. وقلّت نسبة سحب المنتجات لأسباب صحيّة 4.5 أضعاف.

وفي أوروبا، حيث يجب تقديم الطلب إلى وكالة الأدوية الأوربية، فإنّ المنظمة مسؤولة عن الاختيار بين ما يدعى «التقرير Rapporteur» و«التقرير المساعد Co-rapporteur»، حيث يقع على عاتق وكالات الأدوية الوطنية أن تقوم بالتقييم الحقيقي لطلبات العقاقير الجديدة. وبما أنّ معظم وكالات الأدوية الأوربية تأخذ تمويلها من شركات الأدوية عبر «أجور الفحص»، فإنّ هناك منافسة شديدة بينها من أجل إصدار التقييم والحصول على أموال الشركات. فمن بين خمسة عشر مسؤولاً تنظيمياً من وكالات الأدوية في ألمانيا والسويد والمملكة المتحدة، وهم الذين التقاهم غراهام لويس من جامعة يورك، أقرّ خمسة منهم بأنّ وضع جدول زمني للموافقة يشكّل تهديداً على الصحّة العامّة، ووافق خمسة آخرون منهم بأنّ هذا الأمر محتمل.

وفي سياق متصل، وصلت اللجنة المشكلة من مجلس العموم البريطاني عام 2005 إلى الاستنتاج التالي: «إنّ وكالة المنتجات الصحية والدوائية البريطانية، مثلها في ذلك مثل الكثير من الوكالات التشريعية، تتلقى تمويلها بالكامل من أولئك الذين تشرّع لهم. بأيّ حال، وخلافاً للكثير من الوكالات التشريعية، فهي تتنافس مع نظيراتها من الوكالات الأوربية من أجل الحصول على عائدات أجور الفحص. قاد هذا الوضع إلى الخوف من خسارتها للرؤية اللازمة لوضع حماية وتعزيز الصحّة العامّة فوق اعتبار سعيها لعائدات أجور الفحص التي تزودها بها الشركات».

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني