أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية3| «العبوديّة كنمط للإنتاج»
دومنيك ألكسندر دومنيك ألكسندر

أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية3| «العبوديّة كنمط للإنتاج»

(هذا المقال هو مراجعة في كتاب «دراسات في أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية).

تعريب وإعداد: عروة درويش

العبوديّة كنمط للإنتاج:

ما هو دور العبوديّة في مختلف أنماط الإنتاج؟

العبودية في الحقيقة مثل العمالة المأجورة: إحدى صيغ الاستغلال التي يتكرر ظهورها في العديد من المجتمعات المختلفة. ففي حين أنّ العمالة المأجورة هي نمط الاستغلال المهيمن في الرأسمالية، فإنّ وجود العمالة المأجورة كمفهوم بسيط ليس بالضرورة دلالة على وجود مجموعة أوسع من العلاقات الرأسمالية. فليس وجود العمالة المأجور بحدّ ذاته إشارة على وجود الرأسمالية، سواء في مرحلتها الجنينيّة أو في أيّ مرحلة أخرى. وبذات المعنى، فإنّ وجود العبودية في تشكيلة اجتماعية معينة لا يعني بشكل آلي بأنّ نمط الإنتاج السائد فيها هو عبودي.

وعليه، كانت الأرستقراطية النرويجية في العصور الوسطى مضطرة للانخراط في شبكة علاقات ولي-مولى، لاكتساب النفوذ على القوة السياسية، والانتقال إلى المجتمع الإقطاعي بشكل تدريجي. ومع ذلك، ووفقاً لويكهام، فقد اعتمدت سطوة الأرستقراطية على وجود العبيد في عقاراتهم. وعلى غير العادة، يظهر بأنّ هؤلاء العبيد كانوا يعيشون في ذات المنازل مع سادتهم. يشير هذا إلى أنّ العبودية هنا، بعيداً عن هذه الترتيبات التي تمثل نمط إنتاج عبودي في مرحلته الجنينية، كانت متلائمة مع علاقات الإنتاج الأوسع المبنيّة على الأسرة-المعيشيّة. يلاحظ ويكهام بكل تأكيد بأنّ «نمط الإنتاج العبودي هذا قد هيمنت عليه هياكل طاغية ومنطق اقتصادي من نمط الإنتاج الفلاحي، وذلك بدرجة تزيد عن الاستئجار حتى».

وعلى النقيض، فمن المهم أن نميّز متى تشكّل العبودية شرطاً لنمط إنتاج كامل، كما كان الوضع في الإمبراطورية الرومانية. يأخذ كارلوس غارسيا ماكغاو منهجاً اختزالياً للعلاقات الاجتماعية أثناء تحليله للعبودية. ليصر على أنّ العبودية، بوصفها صيغة للاستغلال، يتم تحديدها بشكل ضيّق جداً، مع أطقم العمل في المزارع فقط. ويمكنه عبر هذا التحليل أن يجد بأنّ العبودية كانت مجرّد جزء فرعي من الاقتصاد الروماني، وبشكل محدد حين يعتبر بأنّ العبودية خارج السياق الزراعي الصارم ما هي إلّا ذات طبيعة قانونية. وهذا ما مكّن روما من استيعاب نفسها في نمط الإنتاج الثانوي.

يبدو هذا الاتجاه في التحليل غير مساعد جداً. فهو يعني بأنّ ماركس لم يكن قادراً على التفريق بشكل مهم بين التشكيلات الطبقية السابقة على الرأسمالية، إن لم يكن بالإمكان تمييز صيغة الإمبراطورية الرومانية بشكل نوعي، عن المجتمع الإقطاعي الذي تلاها. يبدو بأنّ مساهمات جون هالدون تؤكد النتائج المؤسفة لهذا النوع من المقاربات، حيث يدعي بأنّه لم يكن هناك أي تغيير في نمط الإنتاج أثناء المرحلة الفارغة الواقعة «في الفترة بين القرن الثاني أو الثالث، وبين القرن الثالث عشر أو الرابع عشر». وذلك بالرغم من قائمة التطورات التي يحصيها في تكنولوجيا الإنتاج والعسكرة، والتبادل والتجارة، وتنظيم الدولة، على طول تلك الفترة. حيث يقول:

«ومن جديد، يستحيل علينا أن نرى تحولات نوعية وكميّة في قوى الإنتاج، يمكنها أن تؤكد حدوث النقلة الشكلية التي يطلبها الفهم الكلاسيكي ليتصوّر: [نمط الإنتاج]. كان هناك تغييرات، ونقلات... لكن ولا واحد منها مؤهلٌ ليكوّن تحولاً شكلياً».

عندما يقرأ غير الماركسي هذا الرأي، فسيستنتج بلا شك بأنّ مفهوم «نمط الإنتاج» ليس له أيّ استعمال أو قيمة تحليلية، طالما أنّه غير قادر على استيعاب مثل تلك التحولات الهائلة التي حدثت خلال ألف عام في أوروبا الغربية.

لكن على النقيض من ذلك، فإن نظرنا لتحليلات صيغ الاستغلال ضمن فهم الكليّة الاجتماعية، يصبح من السهل رؤية أنّ العبودية في الإمبراطورية الرومانية كانت العلاقات المهيمنة التي تميل لفرض الشروط الأخرى. إنّها الحالة المناقضة للصورة التي يرسمها ويكهام عن النرويج في العصور الوسطى. لا يمكن النظر إلى العبوديّة كمجرّد صيغة قانونية في العالم القديم، فقد كانت هذه العلاقات القانونية متصلة بشكل ذي مغزى مع كامل مجموعة العلاقات الاجتماعية.

ويجعل الفشل في رؤية مدى مركزية العبودية في العالم القديم، نماذج التطور التاريخي المتكررة في ذلك الوقت مجرّد هراء: لم تكن العبودية ظاهرة استثنائية أو هامشية هيمنت لمدّة قصيرة على المجتمع. لقد كانت العبودية الرومانية ذروة نظام ديناميكي تعود أصوله بوضوح إلى اليونان القديمة، وتحديداً في أثينا التي صدّرتها إلى المدن-المستعمرات الإغريقية، مثال: سيراكوز وصقلية (وستصبح صقلية فيما بعد القلب النابض لنظام المزارع الرومانية). تمثل الإمبراطورية الرومانية نضوج شبكة العلاقات الاجتماعية التي كانت العبودية في صميمها. لقد كانت الدولة الرومانية حصيلة هذا النظام، وهو الذي أوجد من أجل الحفاظ على العبودية كعلاقة مهيمنة. وبكل تأكيد، قامت الدولة بشكل متناقض بتوليد العمليات التي أدّت في نهاية المطاف إلى تقويض نظام العبودية والدولة ككل.

حمل النظام الاجتماعي في العصور الوسطى الذي أتى تالياً، ديناميكيّة مختلفة بشكل كلي، وكان غير قادر على دعم أيّ شيء يشبه الدولة الرومانية. وينبغي أن تشير هذه الحقيقة إلى أنّ التحليل الماركسي يتجه – في هذه النقطة – لاكتشاف علاقات اجتماعية مختلفة بشكل جوهري. علاوة على ذلك، يخفي الانحسار الثقافي في فترة العصور الوسطى، التطور في فاعلية الاستغلال الطبقي. احتاجت الإمبراطورية الرومانية إلى نظام مركزي لتركيز ثمار الاستغلال المجموعة من منطقة واسعة جداً، وكانت النتيجة لذلك ظهور السطوة والثراء الأسطوريين في عدد قليل من المراكز.

وعلى النقيض، كانت دول العصور الوسطى بطيئة في تطوير أيّ قوّة عظمى أو على نطاق جغرافي، وذلك يعود بشكل جزئي لكون شبكة ملاك الأراضي كانوا قادرين على الحفاظ على العلاقات الطبقية ضمن مستوى محلي أضيق بكثير، دون مساعدة من الدولة الهائلة. وذلك فقط لأنّ الحفاظ على المكية الخاصة كان يتم بشكل داخلي أكثر ممّا كان عليه الأمر في الإمبراطورية الرومانية. يعكس الإقطاع بوصفه نمط إنتاج، تطوّر قوى الإنتاج الاجتماعية عن النمط السابق. يجعل افتراض أنّ كلا التشكيلتين الاجتماعيتين قد تماثلا في اعتمادهما على علاقات التأجير-الاستئجار (مع إدراج الضرائب)، من التطور التاريخي الذي تتم ملاحظته أمراً سطحياً، ويتخلى بشكل فعلي عن شرح الأمر باستخدام المنهج الماركسي.

القاعدة والبنية الفوقيّة:

يحاول هالدون في جدالاته أن يحلّ مشكلة «الماهويّة الاقتصاديّة economic essentialism» أو «الاختزالية»، لكنّه لم يصل عبر اعتماده للوسطيات إلى أيّ أساسات جدلية ماركسية. ففي النقاش حول القاعدة والبنية الفوقية في الإمبراطورية البيزنطية، يجادل هالدون بأنّه يجب ضمّ الإيمان، وهو المسيحية في هذه الحال، إلى إطار العمل التحليلي. ففي حين أنّ الدين «لم يكن بحدّ ذاته يشكل علاقة إنتاج بأي حال»، فهو لا بدّ أثّر على القاعدة الاقتصادية.

يبدو هذا التحليل وكأنّه قد تخطّى محددات الفهم الاختزالي للقاعدة وللبنية الفوقية، وهو ما كان يحاول إنجازه. لكن في الحقيقة هناك نهج اختزالي في أسّ صياغة شروط الجدل بشأن «الدين». ينتمي اللاهوت إلى فئة «البنية الفوقية» بلا شك، لكنّ الكنائس المسيحية المختلفة كانت مؤسسات مادية جداً، أدمجت ونفذت علاقات اجتماعية معينة في المجتمعات التي وجدت فيها. كان التفريق بين الكنائس الكاثوليكية والأرثوذوكسية يقوم بشكل اسمي بناء على نقاط لاهوتية غامضة، لكنّه عكس الهوّة الهائلة بين التنظيم الاجتماعي الذي ساد في شطري خلفاء الإمبراطورية الرومانية.

لقد كانت المؤسستان الاجتماعيتان مدفوعتان لإيجاد اختلافات لاهوتية، ذلك أنّ منطق ممارستهما تمّ إدماجه في نظامين سياسيين مختلفين. وجد أحدهما دون دولة مدنية فاعلة، بينما وجد الآخر مع واحدة مهيمنة وصارمة. كانت النتيجة لذلك أنّ كلا الكنيستين لم تتمكنا من التعاون مع بعضهما البعض. يمكن أن نشهد ذلك بشكل كبير في عدم قدرة الغرب الكاثوليكي الجاهل، على فهم طبيعة الجدال حول تحطيم التماثيل الدينية في الشرق المتعلم. لقد جعل سوء التفاهم حول هذا النوع من القضايا، على مستوى الاجتماعي، من الانقسام أمراً لا مفرّ منه.

تحدد الكينونة الاجتماعية الوعي الاجتماعي، ولكن يجب فهم الكينونة الاجتماعية على ضوء شكل جدلي مترابط. يجب أن يصل التحليل الماركسي الأجزاء بالكلّ بشكل جدلي، ولا يمكنه أن يوجد عبر فئات تحليليّة اختزالية تحددها سمات داخلية ثابتة، بل عبر ديناميكيّة علاقاتها التبادلية.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني