المهزوم سياسياً... محمول على «انتصار» إعلامي

المهزوم سياسياً... محمول على «انتصار» إعلامي

فاقم خبر التحضيرات الجارية لعقد قمة ثنائية أمريكية – كورية شمالية على مستوى رئيسي الدولتين، دونالد ترامب وكيم جونغ أون، من شدّة ارتباك الخطاب السياسي لدى طيفٍ واسع من متابعي الشأن الدولي. وكما درجت العادة – خلال عقود الهيمنة الأمريكية- فإن أكثر الطرق سلاسة بالنسبة للمحللين/ الراقصين فوق الحبال الأمريكية، هو إدخال هذا الخبر إقحاماً في سراديب الدعاية الغربية الهادفة إلى تحصين القليل الذي تبقّى من مشهد الهيمنة الأمريكية في عالم اليوم.

للهدف المذكور آنفاً، استنفرت أجهزة الإعلام الغربي عن بكرة أبيها عقب خروج أولى «التسريبات» الدبلوماسية حول التحضيرات الجارية لعقد هذه القمة. وما إن أكدت وزارتا خارجية البلدين هذا الخبر، حتى انهالت التعليقات والتحليلات التي يصبُّ أغلبها في تأكيد أن ما جرى هو انصياعٌ كوري شمالي لواشنطن ولحملتها التصعيدية العسكرية والدبلوماسية في شرق آسيا. وفي هذا الإطار، يتمُّ انتزاع الخبر من سياق الأحداث التي سبقته وأثّرت فيه.

ما الذي يريده الكوري الشمالي؟
منذ تثبيت التقسيم الكوري بين شمالٍ وجنوب إثر التدخل العسكري الأمريكي في أعقاب محاولة كيم إيل سونغ توحيد البلاد في خمسينيات القرن الماضي، اعتمدت كوريا الشمالية بشكلٍ كبير على المعسكر الاشتراكي واستفادت من حضور الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى في الساحة الدولية، لتضمن لنفسها قوة ردع في وجه الاعتداءات الأمريكية. ومع تفاقم التراجع في الاتحاد السوفييتي وصولاً إلى تفككه في تسعينيات القرن، وجدت بيونغ يانغ نفسها تحت تهديدٍ مباشر من الإمبريالية الأمريكية المنفلتة من أية ضوابط تحكمها. هذا ما قاد البلاد إلى ما يشبه «العزلة» والتركيز على بناء قدرات عسكرية قادرة على رفع مقومات الردع المفقود.

وبالتوازي، أكدت بيونغ يانغ – مراراً وتكراراً- أن هدف التجارب الصاروخية التي تجريها، والتي تشير التقديرات العسكرية بالمناسبة إلى أنها تحتاج سنواتٍ عدة قبل أن تتحول إلى «تهديدٍ نووي جدي»، هو تحصين نفسها ضد التدخلات السافرة، داعية في مناسباتٍ عدة إلى فتح أقنية الحوار بشرط ضمان وضع حد كامل لهذه التدخلات.

واشنطن تستجيب
على طول الفترة السابقة، تعاطت واشنطن مع بيونغ يانغ بوصفها «ذريعة» أكثر من كونها «خطر جدي»، فبحسب التوازنات العسكرية، لا تشكِّل كوريا الشمالية تهديداً لا رجعة عنه بالنسبة للولايات المتحدة، إذ ما تزال القدرات العسكرية الأمريكية قادرة على تأمين الردع بالحد الأدنى في وجه «التهديدات الكورية» المفترضة. غير أن مسألة بيونغ يانغ مثّلت حجة مناسبة للأمريكي خلال السنوات القليلة الماضية لتعميم التصعيد في شرق آسيا، كجزء من استراتيجية أمريكية متكاملة ترمي إلى تطويق الخصمين الروسي والصيني بالتوترات والتصعيدات السياسية والعسكرية على تخومهما.

ما الجديد؟
منذ منتصف شهر شباط الفائت، حدث أمران ينبغي التوقف عندهما مطولاً: الأول، هو تصاعد وتيرة اللقاءات بين الجارتين الكوريتين الشمالية والجنوبية، بمتابعة روسية صينية واضحة تجلّت في التصريحات المتواترة لخارجيتي الدولتين بالتزامن مع المبادرات الأربع التي جرت للقاء والحوار بين الكوريتين. والثاني، هو الأثر الذي تركه خطاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الأول من هذا الشهر، عندما أعلن أن بلاده طوَّرت صاروخاً جديداً أسرع من الصوت، يُمكنه أن يصل إلى أي مكانٍ في العالم تقريباً، وسيكون من الصعب على الأنظمة المضادة للصواريخ اعتراضه، فضلاً عن الإعلان أن روسيا تختبر غواصات آلية يُمكنها أن تحمل رؤوساً نووية، ذلك مع الإشارة إلى التأكيد على أن «روسيا لا تعتزم مهاجمة أية دولة أخرى، لكنها ستعتبر أي هجوم نووي /على حلفائها/ هجوماً عليها هي نفسها، وهو ما يستدعي رداً فورياً». أي أنه، ورغم الفارق في القدرات العسكرية التقليدية بين موسكو وواشنطن لمصلحة الأخيرة، إلا أن تغيَّراً ملموساً في التوازنات العسكرية وقدرات الردع قد بدأ يتسارع، ولغير المصلحة الأمريكية.

في ضوء هاتين الحقيقتين، تضيَّقت حبال القوى الصاعدة حول الرقبة الأمريكية، فليست لواشنطن القدرة على مشاهدة حلّ الملف الكوري من بعيد وبيد خصومها الاستراتيجيين، كما أنها ليست في موقعٍ يسمح لها أن «تجرّب حظوظها» عسكرياً وتختبر رد خصومها على تصعيدها في تخومهم. يبقى في هذه الحال، الخيار الأخير: لا أن تُمسك بخيوط التقارب الكوري- الكوري تماماً، فهذا ما لن تسمح به موازين القوى اليوم. بل أن «تجرّب حظها» في الإبقاء لنفسها على ما يمكن من المواقع في عملية التقارب هذه.

سيُكتب الكثير عن التحضيرات الأمريكية الكورية الجارية، وستُضخم الميديا من تصريحات حفظ ماء الوجه التي تضطر الإدارة الأمريكية أن تدلي بها في هذا السياق. لكن شيئاً لن يغيّر من حقيقة الأمر: لا ترامب انتصر على كيم، ولا كيم انتصر بقدراته وبمفرده، ما ينتصر اليوم هو خيار السلم المستند إلى وزن القوى الصاعدة، في وجه خيار الحرب خيار القوى الدولية الآفلة بتسارع...

آخر تعديل على السبت, 10 آذار/مارس 2018 19:40