المشهد السياسي الألماني| إعادة إنتاج الفشل
إينس شويردتنر إينس شويردتنر

المشهد السياسي الألماني| إعادة إنتاج الفشل

أثبتت استراتيجية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في تفادي النزاعات نجاحها، حتّى الآن على الأقل. فبعد الإخفاق في المفاوضات بين الخضر والليبراليين والمسيحيين الديمقراطيين، يبدو بأنّها تجمع ائتلافاً آخر، ومن جديد تدعم مستشاريتها عبر ترك وزارات رئيسية، مثل التمويل والخارجية، للاشتراكيين الديمقراطيين.

تعريب: عروة درويش

لكن رغم ذلك، فإنّ كلا التحالف والمستشارة نفسها واقعان في مأزق بالفعل. وليس ذلك لأنّ التحالف الذي كان ساحقاً غير ذات مرّة قد تقلّص إلى حزبين، ولكنّه ممزق الآن بين قوى «اليمين» المتنامية وبين التزام الحكومة بالنيوليبرالية وبالسياسات الموالية للسوق وبالمطالب الشعبية الخاصة بالضمان الاجتماعي والاستقرار.

ورغم أنّ كثيرين يعتبرون أنّ «أزمة اللاجئين» عام 2015 كانت هي نقطة التحول في السياسة الألمانية، ففي الواقع هي لم تفعل أكثر من الكشف عن مشكلة هيكلية طويلة وغير محلولة. لقد تحوّل الخطاب السياسي منذ ذلك الحين إلى اليمين، فمشاعر الإحباط والعجز تمّ توجيهها ناحية «الأجانب» بدلاً من توجيهها ناحية بدائل تقدمية. ولن يقوم هكذا تحالف بأكثر من تعزيز هذه الصيحة، حيث وافق الجميع على الاقتطاع من النفقات التي تؤثر على اللاجئين، والتحسينات القليلة المتبقية ما هي إلّا أمور هامشية بالمقارنة مع الاحتياجات الحقيقية، مثلما هو قائم في قطّاع الصحة والإسكان.

وما هذا التحوّل إلّا جزءٌ من النقلة العلنية إلى الاستبداد الذي لم يشهد تاريخ ما بعد الحرب مثله، والذي بلغ ذروته في دخول حزب «البديل لأجل ألمانيا AfD» إلى البرلمان كقائد للمعارضة في الخريف الماضي.

علاوة على ذلك، فإنّ هورست زيهوفر، وهو زعيم الحزب البافاري المحافظ الشقيق لحزب ميركل «المسيحيين الديمقراطيين في بافاريا CSU»، سيصبح وزيراً للداخلية، وهي الوزارة المسؤولة الآن عن مجالات مثل البناء و«أرض الوطن heimat». وعليه فإنّ ما يطلق عليه مسألة اللاجئين سوف تقع في اختصاص أكثر عنصر يمينيّ متشدد في الائتلاف.

يريد زيهوفر الحصول على مستوى من السلطة لا يتناسب مع قوّة حزبه الحقيقية، والفضل بذلك يعود للتقدير السيء الذي تحظى به ميركل وللقوة النسبية التي يحظى بها حزب بافاريا بالمقارنة مع حزب ميركل «رابطة المسيحيين الديمقراطيين». لكنّ ذلك دليلٌ على الانحلال: فقد تدبر الرجل البالغ من العمر 68 عاماً أمر «الفرار» من انقلاب داخل حزبه بالانطلاق من بافاريا إلى برلين.

واقتداءً بالشعارات القومية التي رفعها ترامب، فقد حمل «اليمين» الألماني شعار «ألمانيا أولاً» ليعبر عن سياساته الاقتصادية. يبقى موقع البلاد كدولة مصدرة غير قابل للنقاش، وهو أيضاً يؤمن موقعها كقوة رأسمالية متوسطة المستوى. ولهذا فإنّ تأثير حزب البديل لأجل ألمانيا على رابطتي المسيحيين الديمقراطيين سيتعلق «بالمسألة الثقافية» المتعلقة «بأرض الوطن» وبالمفهوم الجدلي «للثقافة المهيمنة».

من الناحية الرمزية، فاز المحافظون في معركة الحدّ من أخذ اللاجئين، وهو الأمر المتصل باتفاق الائتلاف ولو لم يتم ذكره بشكل علني. فبالمثل، تقتصر سياسة لمّ الشمل الأسري المتنازع عليها حالياً لتشمل ألف شخص شهرياً فقط. لقد تمّ نقاش هذه المسألة كما لو أنّ هذه الأرقام تمثل القدرة الاستيعابية الحقيقية لألمانيا، لكنّها مجرد قيم رمزية ضمن الخطاب السياسي، وهذا القيم تشير إلى أنّ المسائل المتعلقة بدولة الرفاه قد تمّ تشتيتها وتحويلها إلى السياسات المتعلقة بالهجرة، وهو في الحقيقة نصر هائل لحزب البديل لأجل ألمانيا.

يتجلى واضحاً تبني المسيحيين الديمقراطيين لمسألة الثقافة هذه، في استيلائهم على خطاب حزب «البديل لأجل ألمانيا»، وكذلك على إعلانهم عن «الثورة المحافظة» دون تحديد ما تستتبعه مثل هذه الثورة في الواقع. فبدلاً من الاعتماد على منصتهم الاقتصادية السابقة الموالية للأعمال، تحوّل المسيحيون الديمقراطيون إلى خليط ثقافي رقيق يركز على المفهوم الغامض والخطر «لأرض الوطن».

ويبدو أنّ الحزب ينجرف خلف هذا الخليط: فالجناح الموالي للأعمال ومنظمة الشباب ومنظمات أرباب العمل، جميعهم يعتقدون بأنّ الاتجاه الاقتصادي لرابطة المسيحيين الديمقراطيين مهدد بالخطر. ويقف المعارضون والخلفاء المحتملون بفارغ الصبر وراء ميركل، رغم أنّ أحداً منهم لم يدعوها بشكل صريح للاستقالة.

  • المزيد من ذات الشيء:

وقد أثبت العنصر الآخر في التحالف الجديد: الاشتراكيون الديمقراطيون، من جديد بأنّهم أكثر فوضوية من المعتاد خلال الأسابيع القليلة الماضية. فاستمرار قيادة الحزب في التأرجح بين الانضمام للحكومة من عدمه يبدو متجسداً بمارتن شولز.

لقد تمّ اختيار شولز من البرلمان الأوربي، ومعه أتت العبارة الطنانة «العدالة الاجتماعية» كجزء من محاولة منح الحزب نقطة تحوّل في الانتخابات. وقد ترك له سلفه سيغمار غابرييل رئاسة الحزب بحيث يحظى الحزب الديمقراطي الاشتراكي بفرصة الوصول للمستشارية، وأن يصبح هو وزير خارجية. تبع ذلك موجة من الحماس، لكنّ الأخطاء التكتيكية والاقتتال الداخلي أخمدا الحماس قبل أن يأخذ مجده. ولم يتمّ تلقي شعار العدالة الاجتماعية بالرضا.

تعهد شولز قبل الانتخابات بأنّه لن يسعى للحصول على وزارة في أيّ ائتلاف كبير، لكنّه فعل العكس بعد الانتخابات عندما أعلن بأنّه أراد شغل منصب وزير الخارجية في التحالف الجديد. تبع ذلك معركة شخصية بينه وبين مؤيدي غابرييل. وفي نهاية المطاف، خسر شولز دعم الحزب من الداخل، وأصبح مثالاً لتجسيد انحطاط وعدم مصداقية الحزب.

ومع ذلك، وجد الحزب منقذه الجديد المفترض: رئيس «الاشتراكيين الشباب Jusos» كيفين كونرت.

عارض الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ومعه كيفين كونرت ومنظمته، التحالف الكبير في تصويت الأعضاء. فبرأيهم إنّ التنازلات التي قدمها حزب المسيحيين الديمقراطيين كبيرة جداً، وبأنّ قادة حزبهم ليسوا ديمقراطيين بالمرّة، وأنّ الهوّة السياسية بينهم وبين شركائهم في التحالف كبيرة جداً. تستمر هذه الشكوكية بالنمو تبعاً لسقوط الحزب الديمقراطي الاشتراكي في معدلات استطلاعات الرأي (حالياً حوالي 17%، وهي الأدنى على الإطلاق، وقد أتوا خلف حزب البديل لأجل ألمانيا في بعض الاستطلاعات).

بأيّ حال، جادل أولئك الذين يساندون التحالف بأنّ الحزب كسب عدّة مواقع وزاريّة هامّة، وحقق بعض الخطوات الصغيرة تجاه سياسات تقدمية. إنّ لديهم دعم غالبية أصوات أعضاء الحزب، أمّا ما يخصّ عضوية الحزب بحدّ ذاتها فليس واضحاً بعد.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني