أوروبا تعيد التفكير في أسلوب تخصيص الميزانية
فرديناندو جوليانو فرديناندو جوليانو

أوروبا تعيد التفكير في أسلوب تخصيص الميزانية

على صعيد الأحاديث المتناثرة هنا وهناك بشأن التكاليف التي سوف تتكبدها بريطانيا إثر مغادرة الاتحاد الأوروبي، فإن انسحاب المملكة المتحدة لن يمر مرور الكرام على بقية بلدان الكتلة الأوروبية. ومن بين المشكلات العاجلة التي سوف يواجهها الاتحاد هناك مشكلة سد الفجوة الهائلة في ميزانية الاتحاد الأوروبي والناجمة عن مغادرة بريطانيا.

وتعد المملكة المتحدة من أكبر المساهمين في ميزانية الاتحاد الأوروبي. وحتى مع الأخذ في الاعتبار الأموال التي تحصلها لندن من بروكسل، على سبيل المثال، في صورة منح الأبحاث أو الدعم الزراعي، فسوف يفقد الاتحاد الأوروبي مبلغاً كبيراً يُقدر بنحو 10 مليارات يورو (أو نحو 12.3 مليار دولار) خارج الميزانية السنوية للاتحاد.
ويتيح هذا التحدي لدول الاتحاد الـ«27» الفرصة لإعادة التفكير في أسلوب تخصيص الميزانية. وتقدم إحدى الوثائق المنشورة طليعة الأسبوع الماضي من قبل وزراء المالية في إيطاليا وألمانيا خطة عمل مفيدة في هذا الصدد. إذ تقول الوثيقة إنه ينبغي على الاتحاد الأوروبي إنفاق مزيد من الأموال على المنافع العامة الأوروبية - أي مجالات الإنفاق التي تم تحديدها مسبقاً بأنها تصبّ في صالح كتلة الاتحاد الأوروبي بأسرها.
وفي صورتها الأكثر وضوحاً، فإن بنود الإنفاق المذكورة تشترك في ميزتين رئيسيتين: فهي ما يُطلق عليه خبراء الاقتصاد البنود «غير التنافسية»، و«غير المستبعدة». وهي بعبارة أوجز، إن استهلاك دولة من الدول أو فرد من الأفراد الذي لا يؤثر على استهلاك دولة أو فرد آخر. وعلاوة على ذلك، من المحال استبعاد الدول التي لم تدفع مقابل استخدام هذه البنود.
ومن بين الأمثلة الأكثر وضوحاً على ذلك الإنفاق بهدف تعزيز الدفاع الأوروبي، وتحسين دوريات مراقبة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. ومن شأن مزيد من أعمال المراقبة والتفتيش في البحر الأبيض المتوسط أن تسفر عن مساعدة الاتحاد الأوروبي في السيطرة على تدفقات اللاجئين عبر حدود الاتحاد الساحلية. ومطالبة دولة واحدة بعينها من دول الاتحاد بسداد فاتورة هذه الجهود هي من المطالبات غير المنصفة، ولا سيما أن المنافع الناجمة عن ذلك سوف يستفيد منها حتماً جميع الشركاء الأوروبيين. وفي حين أن هناك بالفعل بعض التمويل الموجه من الاتحاد الأوروبي لمثل هذه المهام (على سبيل المثال، من خلال الوكالة الأوروبية للحدود وحرس السواحل)، إلا أنه تمويل غير كاف بصورة واضحة، مما يترك دولاً مثل إيطاليا تتكبد حصة غير متناسبة من إجمالي التكاليف المطلوبة.
ولا يدعو وزراء المالية علناً إلى تقليص مجالات الإنفاق الأخرى، رغم أن هذه هي النتيجة المنطقية لدعوتهم تلك. والهدف الواضح هو السياسة الزراعية المشتركة. وهذه السياسة ليست حمائية فحسب، وإنما هي غير واضحة أيضاً من حيث لماذا يُضطر دافعو الضرائب الأوروبيون إلى تغطية تكاليف التدابير التي تساعد المنتجين من الدول الأعضاء المنفردة؟ وكانت فرنسا، وهي من أكبر الدول المستفيدة من السياسة الزراعية المشتركة، تشكل العائق الأكبر في مواجهة أي تغيير في هذه السياسة. ولكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد صرح مؤخراً بأنه على استعداد لإعادة النظر في السياسة الزراعية المشتركة. ومن شأن هذا التصريح في حد ذاته أن يعتبر تحسناً كبيراً في الكيفية التي ينفق بها الاتحاد الأوروبي أمواله - حتى بصرف النظر جزئياً عن الفرص التي يتيحها على مسار تحسين أسلوب تخصيص ميزانية الاتحاد.
وأتاح الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي كذلك الحافز لإعادة النظر في «صناديق التماسك» بالاتحاد الأوروبي - وهي الأموال المخصصة لمساعدة المناطق الأكثر فقراً في الكتلة الأوروبية لمواكبة المناطق الأكثر غنى. وعلى العكس من الإعانات الزراعية، فهناك بعد جيد لما يتعلق بالإنفاق العام، من حيث تضييق الفوارق الاقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي الذي من شأنه تعزيز تماسك الكتلة الأوروبية وتقليل حالة الاستياء لدى الرأي العام.
ومع ذلك، غالباً ما كانت «صناديق التماسك» تُهدر في الإنفاق على مشروعات ذات مردود عاطفي أو انفعالي - مثل مهرجانات الغذاء - أو إساءة الإنفاق، بدلاً من أن تكون من الوسائل الفعالة في رفع معدل النمو في المنطقة على المدى البعيد. ويود الوزيران، الإيطالي والألماني، من اللجنة الأوروبية أن تستند هذه الأموال إلى مجموعة من المؤشرات، بما في ذلك فعالية استخدام الأموال المسبقة، وكفاءة الإجراءات الإدارية.
وينبغي على البلدان المتلقية هذه الأموال الامتثال للأهداف الأوروبية الأخرى، بما في ذلك إظهار التضامن في إدارة تدفقات المهاجرين الوافدين على القارة. وذهب البعض في ألمانيا إلى ما هو أبعد من ذلك، حين قالوا إنه ينبغي لـ«صناديق التماسك» احترام سيادة القانون والديمقراطية. ولقد أثارت مثل هذه الأفكار حالة من الجدل لدى حكومات أوروبا الشرقية، غير أنها تحمل بعضاً من المعاني الراسخة. إن كنت تستفيد من التحويلات المالية من أعضاء الكتلة الآخرين، فمن الإنصاف أن تعمل وفق القواعد المعمول بها.
وفي حين أن المنافع العامة تبدو وكأنها من الأمور التي يمكن الاتفاق بشأنها بين معظم الشركاء الأوروبيين من الناحية النظرية، فهي من الناحية التطبيقية تستلزم قدراً من المقايضات عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالميزانية، حتى مع نجاح الاتحاد الأوروبي في تغطية الفجوة الناجمة عن الخروج البريطاني، أو حتى زيادة الميزانية الإجمالية للاتحاد. بيد أن البريكست قد أثار النقاش والجدال. وحتى الآن، فإن التوصيات الصادرة عن إيطاليا وألمانيا تعتبر نقطة انطلاق جيدة ليس أكثر.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني