دوماً هناك أزمة اقتصادية ما...
ماري دافيس ماري دافيس

دوماً هناك أزمة اقتصادية ما...

كتب دافيد وسامانثا كاميرون: «اهدؤوا يا أعزائي، إنّه مجرّد ركود اقتصادي». بالنسبة لهم الأزمة الاقتصادية مجرّد مزحة، فهم معزولون عن واقع التقشف الذي لا يصيبهم وحزبهم ولا مصالح الرأسماليين الذين يمثلونهم. فهؤلاء يقولوا بأنّ الأزمات حتميّة وضروريّة لإعادة تجديد الاقتصاد: «من أجل مصلحة الجميع».

تعريب: عروة درويش

لكنّ هذه المزحة السوداء تخفي كذلك الاعتراف بأنّ الأزمات متأصلة في النظام الذي يدافعون عنه. فالهدف من التقشف هو تقليل الأجور الاجتماعية، وتعزيز الربح، «وإعادة التوازن» لعلاقات القوّة في المجتمع لصالح الطبقة الحاكمة.

يؤمن الاقتصاديون «التقليديون» بالدورات. وبكل تأكيد، فإنّ معظمهم لا يرونها كأمر حتمي فقط، بل أيضاً أمراً مرغوباً. إنّ «دورة الأعمال» رصيد معترف به في تجارة التمويل وفي عالم الاقتصاد السائد أيضاً. تدور الجدالات بشأنها حول حدوثها (ولماذا تبدو في بعض الأحيان متزامنة على طول قطاعات السوق المتنوعة) وحول سببها.

إنّ عرض سلعة معينة، بدءاً من الطعام إلى الهواتف، هو أقلّ من إجمالي الطلب، ولهذا تتضخم الأسعار، ومعها الأرباح. فيندفع بالتالي المنتجون الآخرون لإنتاج هذه السلعة، ويتخطى العرض في بعض الأحيان الطلب، فتسقط الأسعار والأرباح.

تنتقل الشركات إلى منتجات أخرى، وتبتكر من أجل تقليل الأسعار أو أنّها ستخسر. وتستمرّ دورة النقص في الإنتاج والإفراط في الإنتاج. وفقاً للنظريّة التقليديّة، تحدث المشاكل فقط عندما تخطأ الشركات في الحكم على توقعات أرباحها، ممّا يقود إلى تراجع الاستثمار.

عندما يمتدّ التراجع إلى كامل الاقتصاد، فإنّ التفسير الأول الذي يقدمه خبراء الاقتصاد ووسائل الإعلام التي تستضيفهم، هو إلقاء اللوم على الأسباب الخارجية: الزيادة في التشريع (الشريط الأحمر) والتشدد العمالي ومطالب الأجور «غير المنطقية» والممارسات التقييدية وأسباب «طبيعية» (مثل سوء المحصول أو استنفاذ الموارد)، ومؤخراً بات يظهر سبب التوقعات غير المبررة للابتكارات (مثل فقاعة الإنترنت dot.com bubble).

عندما يصبح هذا التراجع حاداً ويمتدّ لفترة طويلة، يتمّ تسميته «ركود recession»، أزمة، وتتم مناشدة عناصر «خاصة». ففي الكساد الكبير في الثلاثينيات، جادل الاقتصاديون الليبراليون بأنّ حجمها وطولها كانت متعلقة بالآثار طويلة الأمد للحرب العالمية الثانية: توسّع الدولة الكبير، والدين الحكومي، والتضخم، وموقع العمال الأقوى في التفاوض كنتيجة للعمالة الكاملة في وقت الحرب. فبحسب حجاجهم، منع مجموع ما ذكر حالة التوازن «الطبيعيّة» للأسواق.

  • «الحل والملامة!»

كان الحل في مساندة الدولة للأسواق، وتخفيض التوسع والسماح للسماح بالعمل «بشكل طبيعي». لكنّ الأمر لم ينجح بكل تأكيد. تطورت الأزمة بشكل مختلف في كلّ دولة (عنى تطور الرأسمالية في ذلك الوقت بأنّ الركود قد تعمم على طول أوروبا)، وتم تقديم «تبرير» مختلف لكلّ بلد على حدة. مثال: ألقى هتلر باللائمة على التعويضات التي كان على ألمانيا دفعها بسبب معاهدة فرساي، وعلى خسارة الأسواق التي كان مسيطر عليها في السابق ومصادر المواد الخام، وعلى طلب ممولي الولايات المتحدة من جمهورية فايمر ردّ ديونهم إليهم بعد انهيار سوق نيويورك لتبادل الأسهم عام 1929. وكان «الحلّ» ما قاد إلى الفاشية، وإلى الحرب.

وتمّ إلقاء اللائمة في الانهيار الأول الكبير بعد الحرب العالمية الثانية في بداية السبعينيات على حظر النفط العربي الذي ضاعف أسعار الطاقة أربعة مرات. مع أنّ التراجع في حقيقة الأمر قد بدأ قبل ذلك الوقت. وتمّ إلقاء اللوم في الانهيار المالي عام 2007 على قيام المصارف بالإقراض «غير المسؤول». وفي حين أنّ الأزمة الحالية تتعمق، يتم إلقاء اللوم في بريطانيا على بريكست. قد يكون بريكست، وقد لا يكون، «كارثياً» على الاقتصاد البريطاني، لكنّه ليس هو سبب الأزمة دون شك.

هناك في كلّ «تراجع» عناصر محددة هامة، لكنّ الاقتصادات النيوليبرالية الحديثة لا تملك أي تبرير مرضي لحدوث الأزمات ولتكررها بشكل دوري. يقوم الاقتصاديون الكينزيون بإرجاعها ببساطة إلى عوامل نفسية، مثل «الثقة بالأعمال» أو نقص الثقة بها. بينما يركز الماركسيون على التناقض داخل الاقتصاد الرأسمالي.

تقوم الشركات الخاصة بالاستثمار والابتكار من أجل تقليل تكاليف الأجور (بوصفها جزءاً من بقيّة التكاليف)، وتوسيع المبيعات. لكنّ مثل هذه النشاطات مجتمعة تسبب إفراطاً في الإنتاج، وانخفاضاً بالطلب الكلي رغم انخفاض الأسعار. تنخفض الأرباح ومعه يقلّ الحافز للاستثمار. تحدث هذه العمليات بشكل غير متساوٍ على طول الاقتصاد، وتعطل في ذروة الأزمة علاقات التبادل بين الرأسماليين. فالطريقة الوحيدة التي يمكن فيها للرأسماليين أن يحصلوا على حصّة «معقولة» من الفائض هي عبر بيع سلعهم، والذين لا يبتكرون سيحصلون على حصّة مخفضة بشكل غير مناسب، وسيكون عليهم إمّا تخفيض أو إيقاف الإنتاج عندما لا يعودون قادرين على تغطية التكاليف.

  • دورات بلا نهاية لصالح النخب:

وعليه فإنّ الازدهار، حين يتنافس الرأسماليون على الابتكار والإفراط في الإنتاج، سيعقبه حتماً انتكاسات دورية في النشاطات الاقتصادية. تميل هذه الأزمات لإعادة جميع الأسعار إلى قيمتها الفعلية. إنّ قانون القيمة كما أعلنه ماركس: «يؤكد نفسه مثل قانون طبيعي مهيمن. بنفس الطريقة التي يؤكد فيها قانون الجاذبية نفسه عندما يتداعى منزل ما».

تسهّل الأزمات أيضاً على الطبقة الحاكمة أن تعكس مكتسبات العمال التي حصلوا عليها أثناء فترات النمو وارتفاع الطلب. ميّز ماركس أيضاً بين الدورات قصيرة الأمد وطويلة الأمد. تستمرّ الدورات طويلة الأمد بشكل خاص بكونها محلاً للبحث، مثال: تلك المتعلقة بالتحولات الجغرافية في مواقع المواد الخام، وتطوير الأسواق الجديدة، والعلاقة بين الاقتصادات الرأسمالية الأساسيّة «الناضجة» وبين المسماة بلدان العالم الثالث «النامية».

ومن المهم بشكل خاص الانتباه إلى «حِزم» التكنولوجيا: الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر، والقوّة البخارية وسكك الحديد في ثلاثينيات القرن الثامن عشر، والصلب والهندسة الثقيلة في أواخر القرن التاسع عشر، والكهرباء والنفط والسيارات في بداية القرن العشرين، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بدءاً من سبعينيات القرن العشرين. إنّ كل حزمة ممّا ذكرنا مرتبطة بتغيير بنيوي رئيسي في الرأسمالية.

اليوم، ومع عولمة الإنتاج في عالم يهيمن عليه رأس المال المالي، تتم الإشارة إلى الأتمتة (استبدال البشر بالآلات)، على أنّها «تبرير» للأزمة التالية. في كانون الأول العام الماضي، قامت مؤسسات أبحاث العلاقات العامة IPPR (ذات الميول اليسارية)، بالتنويه إلى أنّ 44% من جميع الأعمال في بريطانيا (ويتضمن هذا قرابة 14 مليون عامل) يمكن أن تتم أتمتتها، ممّا «سيفرغ» الصناعة من وظائف الطبقة الوسطى ووظائف قطاع الخدمات.

في كانون الثاني، جادل أحد مراكز الأبحاث (مؤسسة الدراسات المالية من الجناح اليميني) بأنّ «ارتفاع الحدّ الأدنى للأجور» سوف يقود إلى خسارة الوظائف التي يطلق عليها اسم: الأعمال الأكثر «روتينية»، مثل أعمال الحجوزات التي يمكن أتمتتها بسهولة. وقد توقّع مركز أبحاث آخر (المركز لأجل المدن) بأنّ خمس الوظائف في المدن البريطانية سوف يفقدها أصحابها بحلول 2030، وسيعاني أهل المدن الشمالية من أسوأ نتائجها، حيث سيخسر أكثر من 40% أعمالهم عبر إعادة نقل الوظائف المؤتمتة إلى ما وراء البحار.

إنّ أسباب الأزمات، والاستجابة لها، هي مسألة يجب تحليلها وليس تعميمها بشكل عقائدي. مثال: رأى ماركس بأنّ انخفاض معدلات الربح هو أمر أساسي في النظام الرأسمالي. لكن يمكن تعويض هذا الانخفاض عبر عدّة عوامل: منها الابتكار التقني والتوسع في الأسواق والاستغلال الاستعماري وفرض وسائل الطاعة العماليّة (ومنها الهجوم على الأجور وعلى «الأجور الاجتماعية» وعلى النقابات وعلى حقوق العمال، وخصخصة الموارد، عدم أمان الوظائف).

من الواضح بأنّ البداية والنهاية في هذه الأزمات هي استراتيجيات رأس المال اليوم.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني