«نحن جياع... بثلاث لغات»
روث تانر روث تانر

«نحن جياع... بثلاث لغات»

لقد مرّت أربعة أعوام على انتفاض آلاف البوسنيين في البلدات والمدن الرئيسيّة على طول البلاد. لعدّة أسابيع صاخبة كان هناك شعور أصيل بالتوقع والخوف والإثارة. بدأ الناس يتساءلون: هل هذا «ربيع بوسني»؟

تعريب وإعداد: عروة درويش

أشعلت مظاهرة عمّال معمل ديتا للكيماويات في توزلا في الرابع من شباط، موجة تظاهرات وطنية. وقد حفزتهم مظاهرات توزلا والاستجابة الوحشية للشرطة عليها، فخرج في السابع من شباط حوالي عشرة آلاف شخص للاحتجاج في توزلا، وانطلقت مظاهرات تالية على طول البلاد.

كانت التظاهرات تعبيراً عن إحباط وغضب مكبوتين ضدّ نخب السياسة العرقيين الوطنيين، وضدّ الفساد والمحسوبيّة اللذان هيمنا على البلاد منذ اندلاع الحرب فيها. وذلك بالتزامن مع الخصخصة الفاسدة والركود الاقتصادي ومعدلات البطالة العالية، والتي ضمنت إبقاء البلاد من بين الأفقر في أوروبا.

وجّه قادة الاحتجاج الغضب المتنامي نحو المنتديات السياسية. نظموا مجالس شعبية سموها «الاجتماعات - بلينوم plenums». عقدت لقاءات للبلينومات لمدّة أيام متواصلة، حيث منح الناس المساحة للتعبير عن آرائهم كمواطنين يمارسون حقّهم بسهولة. بعد أعوام من الإحباط، اجتمع الناس مع بعضهم وتشاركوا الخبرات والهواء أثناء التظلم.

وعندما وافق المشاركون على مطالب مشتركة، أرادوا أن تقوم الحكومة بتنفيذها. ورغم أنّ النقاشات والمناظرات قد عقدت بشكل منفصل وفي مدن مختلفة، كانت المطالب واحدة على طول البلاد، وهي المطالب المتجذرة في الغضب وقلّة الثقة من النخب السياسية. وتحديداً بشأن نقص المسائلة في مجال الجرائم الاقتصادية والخصخصة الفاسدة، وكذلك بشأن الأجور غير العادلة لممثلي الحكومة، وبشأن الحكومة غير الفاعلة وعدم خضوعها للمحاسبة.

شعر السياسيون بالتهديد جراء سرعة وحجم التظاهرات. وكانت الأحزاب السياسية سريعة في تأطيرها كقضية قومية عرقية، وأطلقوا حروباً تخيلية من أجل إرعاب الناس من الاشتراك بالتظاهرات. البوسنة والهرسك مقسمة إلى كيانين. الفدرالية: ويهيمن عليها البشناق المسلمون والكرواتيون، وصربسكا: جمهورية الصرب. نشرت وسائل إعلام الفدرالية الرعب بالقول بأنّ المتظاهرين قد نظمهم الصرب القوميون ومثيرو الشغب، وبأنّه قد تم دفع المال للمتظاهرين. وفي جمهورية صربسكا، خرجت تظاهرات أصغر حجماً، وقام السياسيون هناك كذلك باتهام البشناق بالتأليب عليها. ولكن رغم الجهود التي بذلها السياسيون وإعلامهم بإضفاء الصبغة العرقيّة القوميّة على التظاهرات، بيّن المتظاهرون بأنّ هناك فرقاً صارخاً بين الهيمنة العرقيّة القومية الانتخابية، وبين الإحباط والغضب المنتشر بين داخل المجتمع الصربي من السياسيين ومن الوضع القائم.

كانت إحدى أكثر الشعارات التي تمّ حملها في التظاهرات هي: «نحن جياع بثلاث لغات». لقد تحدّى المتظاهرون بهذا الشعار الخطاب القومي، وأظهروا بأنّ القضايا الاقتصادية-الاجتماعية قد وحدتهم. لقد قالوا بأنّهم حانقون باللغة البوسنية والصربية والكرواتية. إنّ كلمة «غلادان Gladan» تعني جائع في اللغات الثلاثة، وقد استطاعت قوّة هذا الشعار أن تسخف الفروقات بين المجموعات الثلاث الذين يتشاركون في واقع الأمر اللغة والفقر والبطالة.

البوسنة، وهي البلد التي ارتبطت بأذهان الناس بالحرب وبالسياسة التي فتت البلاد، يتجلى فيها نوع جديد من السياسة مرتبط أكثر بالديمقراطية وبالحركات المناهضة للتقشف. لقد عكست مجالس البلينوم نموذج الديمقراطية التشاركية للحركات الاجتماعية التي تقود مناهضة التقشف في أوروبا. ففي عام 2014 في اليونان وإسبانيا، تحدت حركات مناهضة التقشف والأحزاب السياسية الصاعدة جديداً، الفساد المتفشي بين النخبة والضرائب والإجراءات الاقتصادية التي تفرضها النخب.

  • جمرٌ تحت الرماد:

رغم الهمهمة الكثير والمثيرة حول «ربيع بوسني»، لم تعش المظاهرات ولا المجالس الشعبية إلّا وقتاً قصيراً. خفتت أصوات معظم البلينومات خلال أسابيع. وتم تقديم العديد من الأسباب للإخفاق في البناء على الأمل والحماس الابتدائيين. لقد لعب الإرعاب والتخويف الذي استخدمه السياسيون من أجل الضغط على الناس كي لا يشاركوا في التظاهرات على عصب متوتر لدى البوسنيين الذين عاشوا منذ وقت ليس بالبعيد حرباً مدمرة. جادل البعض بأنّ مجرّد وقوفهم مع بعضهم في التظاهرات قد سحب فتيل الحماس منها. ثمّ أغرقت الفيضانات المكان في شهر أيار، وتحوّلت جهود الناس للتعامل مع الأزمة العاجلة.

لقد أدّى فشل الحراك وتنظيم المجالس الشعبية، في تغيير موضوعي إلى إحباط الناس وضجرهم وخوفهم من المستقبل. لكن هناك آخرون أكثر أملاً بنهوض حراك ديمقراطي كردّ على النخب الليبرالية التي تهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية.

لكن، وبالرغم من هذه التحديات، فإنّ لدى البوسنيين أسباب تدفعهم للتفاؤل. لقد تحدّت التظاهرات والمجالس الشعبية (البلينومات) جوهر افتراض قائم لدى العديدين بأنّ البوسنة تفتقر لثقافة الديمقراطية، وبأنّه يجب أن ينظر إلى السياسة في هذه البلاد من خلال العدسة العرقيّة وحسب. وجد المتظاهرون من المجموعات العرقية الثلاثة قضيّة مشتركة في مسائل العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي تقاوم النخب العرقيّة-القومية. لقد عرضت المجالس الشعبية على البوسنيين نموذجاً للمشاركة الديمقراطية، يتحدى سياسات الحرب المفروضة على هذا المجتمع.

والآن، مرّت أربعة أعوام على «ربيع بوسنة» المنسي، ومرّت انتخابات لم تحمل أي تغيير للأفضل في المشهد السياسي. والآن، بما أنّ الأحزاب السياسية تحشد من أجل الانتخابات التي ستقام في تشرين الأول، فإنّ الخطاب القومي والتهديدات بالنزاع قد تم تصعيدها كذلك. النخب الحاكمة التي قادت البلاد إلى الحرب، تستمرّ هي ذاتها باستخدام التهديد بالحرب من أجل غرس الخوف والفرقة وضمان بقائها هي.

ففي حين أنّ 2014 لم يكن هو عام نجاح الانتفاضة البوسنية ولا مجالسها الشعبية، فلا يجب أن يعتبر 2014 وكأنّه نقطة غضب عابرة. لم يذهب الغضب بعيداً، ولم تذهب معه الرغبة بالتغيير. يستحق البوسنيون أفضل من ذلك، وهم يعلمون ذلك.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني