أسرار الحرب العالمية الثانية| معركة موسكو أنهت النازيّة
جاك باولز جاك باولز

أسرار الحرب العالمية الثانية| معركة موسكو أنهت النازيّة

تعتبر معركة ستالينغراد التي حدثت عام 1943 من قبل العديد من الباحثين والمؤرخين بأنّها كانت نقطة التحوّل التي هُزمت القوات النازيّة على إثرها، بعد خمسة أشهر من القتال. لكنّ المؤرّخ الدكتور جاك باولز حلل مسار الحرب العالمية الثانية بدقّة، وخلص إلى أنّ معركة موسكو التي حدثت في كانون الأول 1941، والتي سبقت هزيمة القوات الألمانية في ستالينغراد في شباط 1943، كانت هي نقطة التحوّل الحقيقيّة في الحرب».

تعريب: عروة درويش

رغم فشل عمليّة بارباروسا الخاطفة ضدّ الاتحاد السوفييتي، فقد انتعشت آمال الألمان بعد سقوط مدينة كييف في يدهم، وتحقيق تقدّم في الشمال تجاه موسكو. فأعلن هتلر على الملأ في الثالث من تشرين الأول في برلين بأنّ الجبهة الشرقية انتهت، وأمر بشنّ عمليّة تايفون لاحتلال موسكو. بأي حال، بدت فرص تحقيق النجاح ضئيلة، حيث بدأ السوفييت يجلبون قوات احتياطية من الشرق الأقصى (فقد تمّ اطلاعهم عبر جاسوسهم الرئيسي في طوكيو: ريتشارد سورج، بأنّ اليابانيين الذين تتواجد قواتهم في جنوبي الصين، لم يعودوا يخططون لمهاجمة حدود السوفييت في مناطق فاليديفوستوك). وكي تسوء الأوضاع أكثر بالنسبة للألمان، فلم يعد الجيش النازي يتمتع بالتفوّق في الجو، وتحديداً فوق موسكو. وكذلك بات هناك نقص في الذخيرة والغذاء التي يتم جلبها من الخلف للجبهة الأماميّة، فقد جرى إعاقة خطوط الإمداد الطويلة بشكل صارم من خلال حرب الأنصار. وفي النهاية، بدأ السوفييت يهللون في ذلك الوقت لمجيء الشتاء. فرغم أنّ الشتاء ذلك العام لم يكن بارداً أكثر من المعتاد، فإنّ القيادة العسكريّة الألمانيّة، وهي التي دخلت الشرق واثقة من أنّ عمليتها العسكرية ستنتهي بنهاية الصيف، فشلت في إمداد القوات بالمعدات اللازمة للحرب في الأجواء الماطرة والموحلة والمثلجة والمتجمدة، التي يجلبها معه شتاء وخريف روسيا.

كان احتلال موسكو هو هدف مهمٌّ جداً في عقول هتلر وجنرالاته. اعتقدوا بأنّ الاستيلاء على موسكو، وكان اعتقادهم خاطئاً، سيكون بمثابة ضربة في عنق الاتحاد السوفييتي وأنّه سيؤدي لانهياره. كما بدا من المهمّ أيضاً أن يتجنبوا تكرار سيناريو صيف عام 1914، حين تمّ إيقاف التقدم الألماني الهائل عند ضواحي باريس الشرقيّة أثناء معركة مارني. فمن وجهة النظر الألمانية، كانت تلك الكارثة هي من منعهم من تحقيق نصر شبه مؤكد في الأدوار الافتتاحيّة من «الحرب العظمى»، وأنّها أجبرتهم على الدخول في حرب طويلة حكم عليهم فيها بالخسارة، جرّاء نقص الموارد الكافية والحصار الذي فرضته عليهم البحريّة البريطانية. وهذه المرّة وفي الحرب الكبرى الجديدة، وأثناء القتال ضدّ عدوّ جديد هو الاتحاد السوفييتي، كان يجب ألّا تحصل «معجزة مارني»، وألّا تهزم على أسوار العاصمة، وألّا تضطرّ بالتالي ألمانيا على خوض حرب طويلة الأمد تحاصر فيها بلا موارد، فيحكم عليها بالخسارة. لقد آمنت قيادة هتلر وأملت بأنّ موسكو ستسقط، وبأنّ التاريخ لن يعيد نفسه، وأنّ ألمانيا ستحظى بنصرها أخيراً.

استمرّ الجيش النازيّ بالتقدم، رغم البطء الشديد، وبحلول منتصف تشرين الثاني وجدت بعض القوات نفسها على بعد 30 كيلومتر من العاصمة. لكنّ القوات كانت الآن مرهقة بشكل كلي، ولم يعد لديها إمدادات. عرف قادة هذه القوات باستحالة الاستيلاء على موسكو، وأنّ قربهم منها لن يشكّل فارقاً، وحتّى إن استطاعوا احتلالها فلن يجلب ذلك لهم النصر. في الثالث من كانون الأول اضطرت بعض الوحدات إلى التحوّل من الهجوم إلى الدفاع. وخلال أيام، وجد كامل الجيش الألماني المرابط أمام موسكو نفسه مجبراً على اتخاذ وضعية دفاعية. ففي الساعة الثالثة صباحاً من الخامس من كانون الأول، وفي ظروف مثلجة وباردة، شنّ الجيش الأحمر بشكل مفاجئ هجوماً معاكساً معدّاً جيداً. تم فتح العديد من الثغرات في خطوط دفاع القوات الألمانية، وكان الألمان مجبرين على التراجع مسافة 100 إلى 280 كيلومتر مع خسارات شديدة في الرجال والعتاد. لقد استطاعوا بصعوبة بالغة تفادي كارثة تطويقهم. في الثامن من كانون الأول أصدر هتلر أوامره لجيشه بالتراجع عن الهجوم واتخاذ مواقع دفاعية. وألقى اللوم في هذا التراجع على ما افترض بأنّه وصول مبكر للشتاء، رافضاً الاستجابة لاقتراحات بعض جنرالاته بالتراجع إلى الخلف أكثر، واقترح أن تتم إعادة الهجوم في الربيع.

وبهذا انتهت عمليّة هتلر الخاطفة ضدّ الاتحاد السوفييتي، الحرب التي كان يعقد الآمال على الانتصار بها. النصر الذي كان سيحقق له طموحات حياته بتدمير الاتحاد السوفييتي. والأهم من ذلك من وجهة نظرنا، النصر الذي كان سيزوده بنفط وموارد أخرى كافية لجعل ألمانيا النازيّة القوّة العظمى. لو استطاعت ألمانيا النازيّة هزيمة الاتحاد السوفييتي بتلك الحرب الخاطفة، فمن المحتمل جدّاً أنّها كانت ستقدر عندها على إخضاع بريطانيا العظمى العنيدة، وذلك حتّى لو عجّل الأمريكيون لإنقاذ أولاد عمومتهم الأنغلو-ساكسون، وهم الذين لم يكونوا بعد ضمن المشهد في كانون الأول 1941. لقد كان انتصار ألمانيا النازيّة على الاتحاد السوفييتي ليجعل هزيمتها بعد ذلك أمراً مستحيلاً على الجميع، وليس من المغالاة القول بأنّ انتصارها على السوفييت كان ليجعلها اليوم القوّة المهيمنة في أوروبا والشرق الأوسط وشمالي إفريقيا. لكنّ هزيمتها في معركة موسكو في كانون الأول 1941 عنى بأنّ حرب هتلر الخاطفة لم تنتج نصراً خاطفاً. لقد عانى الألمان النازيون من الهزيمة غرب موسكو، ممّا جعل نصرهم مستحيلاً، ولا أعني هنا النصر على الاتحاد السوفييتي فقط، بل أيضاً الانتصار على بريطانيا العظمى، والنصر في الحرب عموماً.

لقد علم هتلر وجنرالاته منذ البداية، وهم الذين كانت الحرب العالمية الأولى حاضرة في أذهانهم، بأنّ على ألمانيا أن تفوز بشكل سريع وخاطف إن هي أرادت أن تطلق حرباً كبرى. لكن في الخامس من كانون الأول 1941، بدا واضحاً بشكل جلي لجميع الحاضرين في مقرّ قيادة هتلر بأنّ الحرب الخاطفة ضدّ الاتحاد السوفييتي قد فشلت، وبأنّ ألمانيا ستخسر كامل الحرب، إن لم يكن آجلاً فعاجلاً. وفقاً للجنرال ألفرد جودل، رئيس العمليات في القيادة العليا للجيش، فقد أدرك هتلر بأنّه ما من سبيل للانتصار بعد الآن في الحرب. ولهذا يمكننا أن نجادل بأنّ مدّ الحرب العالمية الثانية قد انعكس في الخامس من كانون الأول 1941. بأيّ حال، ومثلما لا ينعكس المدّ بشكل عاجل، بل بشكل متدرّج وعلى مهل، فإنّ مدّ الحرب لم ينعكس بيوم وليلة، بل انعكس على طول أيام وأسابيع وحتّى أشهر. وتحديداً خلال ثلاثة أشهر فصلت نهاية صيف 1941 عن بداية كانون الأول من ذات العام.

ففي آب 1941، وبعد فشل الألمان في إيصال الاتحاد السوفييتي للاستسلام، وبعد البطء الذي أصاب تقدّم القوات الألمانيّة، بدأ المراقبون الفطنون يشكون في إمكانية ألمانيا تحقيق النصر، وليس ذلك في الاتحاد السوفييتي فقط، بل في كامل الحرب. فالفاتيكان المطلعة بشكل ممتاز على الوضع كمثال، والتي كانت متحمسة جداً في البدء لحملة هتلر «الصليبيّة» ضدّ الاتحاد السوفييتي أرض البلاشفة «الملحدين»، والتي كانت واثقة من الانهيار السريع للاتحاد السوفييتي، بدأت تعبّر عن مخاوف شديدة بشأن خسارة ألمانيا للحرب. وبالمثل، قامت المخابرات السويسريّة في منتصف تشرين الأول برفع تقرير رسمي تقول فيه: «لم يعد بإمكان الألمان الانتصار بالحرب بعد الآن». وكان هذا الاستنتاج مبنياً على المعلومات التي جمعوها في السويد من الضباط الألمان الزائرين هناك. وفي نهاية تشرين الثاني، بدأت المعنويات المنكسرة تؤثر على الرتب العليا في الجيش وفي الحزب النازي. وحتّى في الوقت الذي كانت فيه قواتهم تتجه ناحية موسكو، بدأ بعض الجنرالات يقدمون مقترحاتهم بعقد سلام وإنهاء الحرب التي رأوا بأنّهم لم يعودوا قادرين على كسبها بعد نفاذ آمالهم الكبيرة التي صاحبت إطلاق عمليّة برباروسا. وقبل نهاية تشرين الثاني، طلب فيرتز تودت، وزير التسليح، من هتلر أن يجد طريقة دبلوماسيّة لإنهاء الحرب، فقد علم بأنّهم عسكرياً، وكذلك صناعياً، قد خسروا الحرب.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني