المافيا الإيطاليّة-الأمريكيّة| الأصل غير الهوليودي
ماتياس كرول ماتياس كرول

المافيا الإيطاليّة-الأمريكيّة| الأصل غير الهوليودي

«البلشفيّة تطرق الأبواب، ولا يمكننا تحمّل تركها تدخل... علينا أن نبقي الأمريكيين ككتلة واحدة آمنة غير ملوثة. علينا أن نبقي العمّال بعيدين عن الأدب الأحمر والحيل الحمراء. علينا أن نُشرف على بقاء عقولهم صحيحة» – آل كابوني.

تعريب وإعداد: عروة درويش

تبعاً لتصويرهم كمقاتلين طماعين وخاطئين، ولكن بارعين ومبتكرين، ضدّ المؤسسة القائمة، لطالما لعب أعضاء المافيا دور النموذج المثالي «لنقيض-البطل Anti-hero» الجذاب في الثقافة الأمريكيّة الدارجة. ففي مسلسلات مثل «سوبرانوز» وأفلام مثل «العرّاب»، نراهم يعملون بشراسة في ظلّ قانون شرف قديم يبدو وكأنّه يفصلهم عن انعدام الأخلاق البارد الذي تمتاز به نخب الرأسمالية (يُظهر مسلسل سوبرانوز الأبطال الرئيسيين طماعين ودونيين بذات طمع ودونيّة الأثرياء الشرعيين الذين يتعاملون معهم ويعملون لصالحهم، ومدى انخراط هؤلاء المافيا في النظام الاقتصادي القائم. ويُظهر كذلك عدم اتساق قانون الشرف هذا مع الواقع بالطريقة التي تتناوله فيها بقيّة الأعمال الدراميّة، ويسخر منه في العديد من الحلقات. ربّما هذا سبب كونه المسلسل الوحيد، أو الأوّل على أقلّ تقدير، عن المافيا الذي كسر تقاليد السينما الأمريكية في طريقة إظهارهم لها وللأوميرتا. ولهذا فلا أوافق الكاتب على هذه النقطة فقط بالنسبة لمسلسل سوبرانوز – المترجم). كما أنّ حياة زعماء المافيا تمنح صانعي الأفلام الفرصة لإظهار جرعة كبيرة من العنف والجنس على الشاشة، وهذا أيضاً عامل مهم في نزوع السينما لتبني هذا النمط بشكل كبير.

لا يبدو بأنّ هناك الكثير من المشاكل في هذا الأمر، فبعد كلّ شيء، نادراً ما يتمّ إظهار رجال العصابات هؤلاء على أنّهم لطفاء أو خيرون، ونقيض-البطل هو دوماً شخصيّة محببة ومفضلة لدى كتّاب السيناريو. إضافة لذلك، ولأسباب مقنعة، فإنّ قلّة منهم في الواقع يستطيعون مجاراة مكتب التحقيقات الفدرالي أو غيره من المنظمات الشرطيّة المخصصة للحفاظ على القانون والنظام ضدّ ما يفترض بأنّ المافيا تثور ضدّه بشكل عقيم، ولهذا فغالباً ما يتمّ إظهار رجال المافيا على أنّهم نقيض-للبطل وخاسرون، وهذا مزيج لا يقاوم بلا شك.

بأيّ حال، يبدو لي بأنّ السياسات وراء هذا النوع من الأدب والفنون لم يخضع لما يكفي من الفحص، وخاصة في الأوساط اليساريّة. هناك كمّ كبير من الكتابات حول ما يظهره هذا الفنّ من حسّ ذكوري ومن عدائيّة ظاهرة. مثال: يلعب مسلسل سوبرانوز بوضوح على موضوع هشاشة الذكورة وعلى سخافة المدّة الطويلة التي يحافظ فيها أعضاء المافيا عليها. وبشكل مشابه، كتب الكثير عن طبيعة أعضاء المافيا بوصفهم رجالاً عصاميين، ومتسلقين اجتماعياً، وعن أسطورة انتقالهم من الفقر للثراء المتأصلة في مهنتهم الإجراميّة. لكنّ هذا يبقي التركيز على رجالات المافيا كأفراد وحسب.

في تأويل مختلف، ركّز فريدريك جيمسون في مقالته الشهيرة عن فيلم العراب: «تجسيد المجردات والمثاليّة»، على المافيا بوصفها شيفرة تدلّ بشكل رئيسيّ على السطوة الإجراميّة والطفيليّة المنتشرة للرأسمالية نفسها. لكنّ هذا التحليل ينزع عن أبطال-العصابات أصلهم الاقتصادي والتاريخي. فبالنسبة لجيمسون، إنّ أبطال المافيا هم بالكاد الجانب المظلم للرأسماليّة الذي يمثّل خيال مناهضة النظام القائم، ويمنحنا الأمل باستعادة سطوتنا داخل المنظومة الرأسمالية وتحرير أنفسنا من قواها السلبيّة المدمرة، والأمل باستعادة حسّنا بالنسيج الاجتماعي المتماسك السابق للرأسمالية. وعليه فإنّ أفلام المافيا بالنسبة له هي ممارسة الحكم الأخلاقي على الجانب «اللاشرعي» للرأسماليّة، متجاهلاً بذلك أنّ الرأسماليّة دوماً مجرمة.

لكن إن ركزنا على الوظيفة الاقتصادية التاريخيّة للمافيا كمؤسسة، يمكننا أن نرى آثار سياسيّة مختلفة. فعندها يجب على أيّ سياسيّ راديكالي أن يرى القبول الذاتي لتصوير رجال المافيا على أنّهم نقيض-للبطل، بشكل أكثر سلبيّة بكثير ممّا يقترحه جيمسون في قراءته التحليليّة النفسية. فالأمر الذي على المحك لدينا هو أكثر من مجرّد غموض تجاه الرأسماليّة ككل. فالمافيا بوصفها بطلة روائيّة نقيضة-للبطل هي بذاتها أداة سياسيّة رجعيّة.

قلّة من الناس يدركون أصل المافيا ما بعد فكرة أنّهم «آتون من إيطاليا» كنوع من المنظمة الإجراميّة الفريدة. بأي حال، لطالما كانت المافيا أكثر من مجرّد عصابة، أو حتّى اتحاد عصابات. فمنظمة مثل المافيا لا توجد هكذا بشكل طبيعي، لا هي ولا سلاسلها الهرميّة ولا قانون شرفها ولا بنيتها شبه العشائريّة. لا ينبغي أن نحيّد هذا الأمر، بل علينا فحصه بشكل تاريخي. وعند قيامنا بذلك سنجد بأنّ المافيا تعود في أصلها للصراع بين ملّاك الأرض الكبار من جهة، وهم الغائبون عن أراضيهم في معظم الأحوال، وبين فلاحي الجنوب الإيطالي.

ابتداء من العصور الوسطى فصاعداً، وبعد إنشاء قنانة الأرض في مملكة صقليّة والحفاظ عليها في ظلّ حكم أراغون، تمّت حماية مصالح ملّاك الأرض الغائبين أثناء فترات انتفاضات الفلاحين الثائرين أو الغزوات الأجنبية (مثل تلك التي كانت تشنّها دول شمال إفريقيا المسلمة)، بواسطة مجموعات منظمة من الحرس التابعين للإقطاعيين. هذا هو أصل المافيا التقليديّة: لقد كانوا ممثلين وحراساً لمصالح طبقة الإقطاع وملاك الأرض الكبار، بدءاً من فترة الأقنان ووصولاً إلى القرن التاسع عشر.

يشرح هذا أيضاً العدائيّة المستمرّة حتّى اليوم لدى المافيا، تجاه منظمات فقراء الأرياف السياسيّة والاجتماعية في إيطاليا، وتجاه اليسار السياسي وزعمائه النقابيين الذين تسعى المافيا لاغتيالهم في غالب الأحيان. بأي حال، يمكن الاعتراض بسهولة على هذا التبسيط في عرض أصول نشاطات المافيا في القرن الحادي والعشرين، بكونها تعود لأصول إقطاعيّة. فقد كان جنوب إيطاليا في القرن التاسع عشر داخلاً في الرأسمالية، وتغيّرت فيه بذلك بنى العلاقات الاجتماعية، وتغيرت معها المافيا. فكما وصف سلفاتوري لوبو في كتابه «تاريخ المافيا»، فقد تضعضع الإقطاع بسبب تفتيت ملكيات الأرض والتمدّن، بالإضافة إلى الاتجاهات الاقتصادية القائمة على التصدير الزراعي والاستخراج التي هيمنت على صقليّة وعلى كلّ مكان آخر.

عنى هذا بأنّ سبب وجود المافيا قد تحوّل مع هذا التحوّل. قامت المافيا، بشكل جزئي، بتقديم نفسها كوسيط بين مالكي الأرض والفلاحين بالتزامن مع المراحل المتعددة من إعادة توزيع الأرض في جنوبي إيطاليا، فقاموا بالسيطرة على سير هذه العمليّة لمنفعتهم الخاصّة. فكما كتب لوبو: «كانت المافيا هي من نظمت التعاونيات، وحصلت على الكثير من قاعدة سطوتها بلعبها دور الوسيط في نقل الأرض من الملّاك الكبار إلى الفلاحين، وبالتالي عززت مكانتها بشكل شديد لتتزعم الحركة التعاونية، وبشكل محدد في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية».

وبالمثل، ومع تزايد المزارع المؤجرة التي تتجه ناحية التصدير، مثل مزارع الحمضيات كمثال، ومع تطوّر الأسواق المدينيّة المتصلة بنهوض حقبة السوق العالمي الرأسمالي، كانت الوساطة بين الإنتاج الريفي والأسواق المدينيّة هي المكان المحدد الذي وجدت فيه المافيا موطئ قدمها الأكثر قوّة. يعرّف لوبو قاعدة عملياتهم في باليرمو في الضواحي وفي المناطق الريفيّة التي تتبع للمدينة:

«بشكل محدد، فيما كان يسمّى في القرن التاسع عشر «agropalermitano»، أو منطقة ريف باليرمو، الواقعة في منتصف الطريق بين الريف والمدينة، وكذلك في القرى النائية، أنشأت مجموعات المافيا نظاماً للتحكم في الأقاليم الواقعة خارج مناطق كثافة الحراس، أي خارج مناطق الوصاية.

لقد سيطروا في نهاية المطاف على كلا الأعمال القانونيّة وغير القانونيّة مثل سرقة الماشية، والتهريب والبضائع المهربة، والوساطة التجارية المبكرة للحمضيات وغيره من المنتجات الزراعية الوفيرة في المنطقة. وفي حقبة أقرب، تبيّن بأنّ المنطقة هي سوق طبيعي، أو غير طبيعي، لتوسيع مجال العقارات والمضاربة فيها. لقد وجدت مراكز السلطة القديمة وقواعدها فرصاً جديدة لجني الأرباح. فحصول المافيا على شبكة مهاجرين عبر المحيط، وانخراطها في التجارة بعيدة المدى، مثل تجارة الحمضيات، قادا لتأمين أرضيّة صالحة، من الناحية الذهنية ومن ناحية القدرات، لتهريب التبغ والمخدرات».

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الأربعاء, 14 شباط/فبراير 2018 10:30