في البدء كانت يوغسلافيا
ماركوس بابدولوس ماركوس بابدولوس

في البدء كانت يوغسلافيا

كتب الدكتور ماركوس بابادولوس مقالاً تناول فيه الحدث التاريخي الذي بدء فيه الخراب والفوضى الذي يسودان عالمنا اليوم. فكما يقول: «من الواضح أنّ العالم اليوم يمرّ بحالة غير صحيّة، بدءاً بأوروبا الشرقية ومروراً بشمال إفريقيا ونهاية بالشرق الأوسط... اعتاد الناس على إرجاع البداية في ذلك إلى الغزو الأمريكي البريطاني غير الشرعي للعراق... لكنّه في الحقيقة يعود إلى العام الذي تفتت فيه الاتحاد السوفييتي واستتبعه تفتيت جمهورية يوغسلافيا».

تعريب وإعداد: عروة درويش

كانت يوغسلافيا هي أولى خطوات التدخل الغربي في العالم، ذلك أن إضعاف الاتحاد السوفييتي، ثمّ تفتيته، هو من عبّد الطريق أمام قوى الهيمنة لاجتياح وتدمير وقصف الدول ذات السيادة، ضمن استراتيجيّة-سياسيّة تخدم مصالحها. فيوغسلافيا عام 1991 لم تعد مرغوبة من الغرب الذي كان يحتاجها أيام الحرب الباردة هي وسياستها في «عدم الانحياز»، وما الذي سيدفع النمسا وألمانيا وبريطانيا وعلى رأسهم الولايات المتحدة لقبول وجود دولة اشتراكيّة في أوروبا الجديدة؟ خاصة وأنّهم أرادوا منع الروس من يصبح لهم أي تأثير في البلقان مستقبلاً. لقد كانت يوغسلافيا هي حيث ولدت سياسات تدخل الناتو، وحيث رمي بالقانون الدولي جانباً.

فكما يقول الكاتب: «رغم أنّ يوغسلافيا من الدول التي أوجدت الأمم المتحدة، ورغم أنّ حدودها معترف بها دولياً وفقاً للقانون الدولي، فقد شجعت ألمانيا والنمسا الحركات الانفصالية في سلوفينيا وكرواتيا على إعلان الاستقلال عن يوغسلافيا. بينما قام الأمريكيون بفعل المثل بالبوسنة والهرسك. لقد كانت أعمال برلين والنمسا وواشنطن خرقاً خطيراً للقانون الدولي، وقد قوضت ميثاق الأمم المتحدة بالكامل، وقوضت حرمة الحدود الدوليّة... وكما قال [السياسيّ البريطاني المحافظ] اللورد بيتر كارينغتون، الرئيس السابق لمؤتمر السلام في يوغسلافيا: الأفعال التي قام بها الأمريكيون والألمان وعدّة حكومات أوربيّة أخرى، أكدت بأنّ نزاعاً سيجري في البلقان».

لكنّ تفتيت يوغسلافيا دون ضمان أنّ الدول الناشئة ستكون دمى للغرب لا يعني شيئاً، ولهذا بدأت هذه الدول بتوريد السلاح بشكل غير قانوني للمجموعات المسلحة في كرواتيا والبوسنة لتضمن تحقيق انتصارات في المعركة. ففي كرواتيا دعم الغرب الحركة الفاشيّة التي مجدت «الأوستاشي Ustaše»: المنظمة التي حكمت دولة كرواتيا الموالية للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي ارتكبت العديد من المجازر ضدّ الشعب الصربي في ذلك الحين، ليصل عدد ضحاياها إلى 700 ألف صربي. لقد نفّذ المسلحون الكروات في التسعينيات الخطط المعدة أمريكياً، وأبرزها «عملية العاصفة» التي أدّت لطرد 250 ألف صربيّ من كرايينا موطنهم وموطن أجدادهم.

وفي البوسنة، لم يقم الأمريكيون بتسليح القوات الانفصالية «الإسلاميّة» وحسب، بل أمنت كذلك نقل «المجاهدين» من أفغانستان إلى البوسنة للقتال إلى جانب القوات البوسنيّة. وكما يذكر الكاتب: «هؤلاء المجاهدين الذين قاتلوا السوفييت من قبل في أفغانستان، لم يكتفوا بارتكاب أبشع المجازر في الحرب البوسنيّة، بل بدؤوا كذلك باستخدام وجودهم الجديد في أوروبا من أجل نشر التطرف الإسلامي والإرهابيين الإسلاميين في القارة... وكان أحد المجاهدين الذي جلبهم الأمريكيون إلى البوسنة أسامة بن لادن، الذي منحته السلطات البوسنيّة جواز سفر بوسني، وذلك وفقاً لصحفيّ ألماني في صحيفة دير شبيغل، وهو الذي قابله في نزل في ساراييفو عام 1994».

وتمّ العبث بالحقائق في وقتها ليأخذ الإعلام السائد على عاتقه إظهار الصربيين الذين رفضوا أن يحكمهم هؤلاء المتطرفون بأنّهم هم الجزارين، وبأنّهم هم من يقوم بالتطهير العرقي. اقتبس المقال عن اللواء لويس ماكينزي، الذي خدم كقائد لقوات الحماية التابعة للأمم المتحدة في قطاع ساراييفو: «لقد أدركنا نحن الذين عملنا في قيادة الأمم المتحدة في البوسنة بأنّ تقارير الإعلام منحازة، وذلك أقل ما يقال بحقها. وكلما حاولنا أن نقوّم التقارير ونقول الحقيقة، كنّا نتهم بكوننا [عملاء صربيين]»

وبعد أن بدأ الناتو بقصف الصرب البوسنيين عام 1994، كان الأمريكيون والبريطانيون بحاجة إلى ذرائع أكبر وقصص أعتى لتعرض من خلالها قوتها وتبرر تدخلها في المنطقة. وهكذا في عام 1995 أتت مجزرة الإبادة المزعومة في سربرينتشا، والتي قام على إثرها الصحافيون والسياسيون التابعون بالدعوة للتدخل العسكري، تماماً كما حدث في ليبيا وسوريا فيما بعد. لكنّ ما حدث في سربرينتشا في صيف 1995 لم يكن بالوضوح الذي حاول الإعلام الغربي ورجالاته أن يظهروه.

اقتبس الكاتب عن اللواء كارلوس مارتينز برانكو، الذي خدم في جيش الأمم المتحدة للمراقبة في البوسنة عام 1995: «لقد تمّ إظهار سربرينتشا، وما يزال الأمر مستمراً، بأنّها مذبحة متعمدة ضدّ مدنيين مسلمين أبرياء، أي بوصفها إبادة جماعية. لكن هل هذا حقيقي؟ إنّ أيّ تقدير دقيق ومطلع على هذه الحوادث سيجعلنا نشكك بوصفها».

لكن وكما يوضح الكاتب، فمسألة سربرينتشا لم تبدأ عام 1995، بل عام 1992 عندما بدأت القوات الإسلاميّة المتواجدة في المدينة بقيادة مجرم الحرب ناصر أوريج ثلاثة أعوام من المجازر الجماعيّة ضدّ المدنيين الصرب في القرى المحيطة، والتي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف صربي قتلوا بطريقة بربريّة. ثمّ في عام 1995 سنحت الفرصة لجيش الصرب البوسنيين باحتلال سربرينتشا فاغتنموها، لكنّها كانت مصيدة من الأميركيين وعلي عزت بيغوفتش الباحثين عن «إبادة جماعية» يستطيعون من خلالها تبرير تدخلهم المركز في البوسنة.

ويقول الكاتب: «بتقديري أنّ ما حدث في سربرينتشا يمكن أن يشكل جرائم حرب قام بها جنود صربيون دون أوامر، ضدّ جنود مسلمين بهدف الانتقام. فقد تمّ إعدام حوالي 800 جندي مسلم على يد الجنود الصرب، وهو أمر مريع، لكنّه ليس بأي حال من الأحوال إبادة جماعية ضدّ مدنيين». فوفقاً لوثائق الأمم المتحدة، سمح الصرب لـ 35632 مسلم من النساء والأطفال والشيوخ واليافعين بمغادرة سربرينتشا، وذهب أغلبهم إلى توزلا. وكما يقول اللواء لويس ماكنزي: «كانت نقطة بغيضة، لكن علينا نقول الحقيقة: إن كنت تريد ارتكاب إبادة جماعية، فلن تسمح للنساء والأطفال بالذهاب طالما هم مفتاح استمراريّة هذه المجموعة التي تحاول أن تنهيها عن الوجود».

ثمّ بعد أن انتهت مسألة كرواتيا والبوسنة، كان على واشنطن وتابعيها أن يستمروا بضرب الجمهورية التي نشأت من بين الرماد والتي جمعت الصرب بالجبل الأسود في جمهورية واحدة، فكانت كوسوفو هي المقصد هذه المرّة. وكالعادة كان لدى الغرب ادعاء بحماية المدنيين الألبان الذين «يرتكب بحقهم المجازر». فبدأ الناتو عام 1999 بحملة جويّة وحشيّة غير شرعية، ودون موافقة مجلس الأمن في الأمم المتحدة، ضدّ يوغسلافيا استمرّت لمدّة 78 يوماً، قامت خلالها بقصف مواقع مدنية وإلقاء دروع اليورانيوم المستنفذ على المناطق المدنية، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات السرطان بشكل هائل بين الصربيين.

وينتهي الكاتب بالقول: «لقد استعادت روسيا اليوم الكثير من موقعها كقوّة عظمى. لكنّها لا تزال مجرّد ظلّ للاتحاد السوفييتي فيما يخصّ القوّة. أعتقد بأنّ الأمر سيتغيّر في المستقبل القريب، لكنّه يحتاج إلى وقت يجب أخذه بالاعتبار». وجميعنا نعلم بأنّ هذا اليوم هو ما سيؤكد عودة الأمور لما قبل عام 1991، أي لما قبل القطب الواحد وشروره.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني