بريطانيا ومعضلة «بريكست»
ليونيد بيرشيدسكي ليونيد بيرشيدسكي

بريطانيا ومعضلة «بريكست»

تناقش التوقعات المسرَّبة الصادرة عن حكومة المملكة المتحدة بخصوص تأثير «بريكست» على الاقتصاد، عدة سيناريوهات لا يبدو أيٌّ منها إيجابياً. ومع هذا، تبقى الرسالة الضمنية الأكثر إثارة للفزع التي يحملها التقرير في طياته أن لندن لا تزال عاجزة عن تحديد نمط الصفقة التي يمكنها إبرامها مع الاتحاد الأوروبي، أو تلك التي ترغبها. وبعد مرور ما يقرب من 600 يوم على إجراء الاستفتاء حول الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، تظهر السيناريوهات الثلاثة التي جرت مناقشتها في التقرير المؤرخ يناير (كانون الثاني) 2018، باعتبارها الوحيدة المطروحة على الطاولة، تبعاً للاتحاد الأوروبي: خروج دونما اتفاق، تبعاً لقواعد منظمة التجارة العالمية. وإقرار اتفاق تجارة حرة على النسق الكندي. وإقرار عضوية المملكة المتحدة في «المنطقة الاقتصادية الأوروبية»، المعروف كذلك باسم «الخيار النرويجي».

الملاحظ أن جميع الخيارات الثلاثة تبطئ وتيرة النمو الاقتصادي داخل المملكة المتحدة مقارنة بالاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي، حسبما ذكر التقرير.
من جانبهم، سارع سياسيو المعارضة إلى الإشارة إلى إخفاق الحكومة في نشر التقرير، باعتباره محاولة لإخفاء الحقائق عن البرلمان والرأي العام. ومع هذا، تظل الحقيقة أنه رغم الصورة القاتمة التي يرسمها التقرير، فإنه قد سبق للرأي العام البريطاني أن تحدى توقعات وأرقام أكثر قتامة وصوّت لمصلحة «بريكست». والواضح أن ثمة قطاعاً من مؤيدي «بريكست» لا يأبهون كثيراً لأمر تباطؤ عجلة النمو الاقتصادي إذا كان ذلك يعني مزيداً من السياسة ومعدلات هجرة أقل. وعليه، فإنه لو نشرت الحكومة هذه التوقعات، لم يكن هؤلاء الناخبون ليترددوا أو يخافوا من التصويت لصالح الانفصال.
من ناحية أخرى، تكمن المشكلة الحقيقية في غياب السيناريو الذي ترغبه حكومة المملكة المتحدة بشدة: إبرام اتفاق تجارة خاص مع الاتحاد الأوروبي.
يذكر أن متحدثاً باسم رئيسة الوزراء تيريزا ماي، أعلن الثلاثاء الماضي، ادّعى أن الوثيقة مجرد «عمل أوّلي، ولم يوافق عليها الوزراء بعد، وتتناول فقط سيناريوهات جاهزة». إلا أن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا: لماذا لا يتناول أي عمل أوّلي تجريه المملكة المتحدة على هذا الصعيد، الخيار المفضل لديها بجانب الخيارات الأخرى «الجاهزة»؟
جدير بالذكر أنه خلال حديث غير مسجل لها مع عدد من المراسلين في دافوس، قدمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تفسيراً جيداً لهذا الأمر. من جهته، ذكر روبرت بتسون، المحرر السياسي لدى «آي تي في نيوز» إضافة إلى قولها في وصفها للمحادثات التي جرت الفترة الأخيرة مع ماي، وذلك خلال مقال نشره مؤخراً، أن: «قالت ميركل إنها عندما سألت ماي عن الصورة التي ترغب أن تصبح عليها العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، أجابت ماي: قدموا لي عرضاً. وردت ميركل على ذلك بقولها: لكن أنتم مَن ترحلون... ولسنا مضطرين لأن نقدم لكم عرضاً. والآن أخبريني ماذا تريدون؟ وأجابت ماي مرة أخرى: قدموا لي عرضاً. وعليه، أشارت ميركل إلى أن المحادثة بينهما دارت داخل دائرة مفرغة ما بين (ماذا تريدون؟) و(قدموا لي عرضاً)».
جدير بالذكر أنه خلال حديث له من داخل مقر «بلومبيرغ» في لندن، دعا ليام فوكس، وزير التجارة الدولية في المملكة المتحدة وأحد كبار المتحمسين لصالح «بريكست»، الاتحادَ الأوروبي إلى البعث بإشارة واضحة «إلى المستثمرين العالميين بأنه ليس بريطانيا فحسب مَن ستظل منفتحة أمام النشاط التجاري، وإنما أيضاً أوروبا ستبقى كذلك»، وذلك في أعقاب «بريكست». ومن دون طرح مزيد من التفاصيل، بدا فوكس هو الآخر في انتظار تقدم الاتحاد الأوروبي بعرض.
من جانبه، يملك الاتحاد الأوروبي الكثير من الأسباب لرفض القيام بذلك. الواضح أنه إذا أقدم الاتحاد الأوروبي على طرح تسوية، فإن هذا الاتفاق سوف يصبح سابقة أمام أي دولة أخرى قد ترغب في الرحيل عن الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، وما يعرضه الاتحاد طواعية اليوم على المملكة المتحدة، سيكون من الصعب عليه التراجع عنه مستقبلاً فيما يخص آخرين. وعليه، فإنه إذا قدم الاتحاد الأوروبي تنازلات أمام المملكة المتحدة، فيجب أن تبدو هذه التنازلات نتيجة نضال مرير على نحو يثبط أي محاولات لاستنساخ تجربة «بريكست».
يذكر أن الاتحاد الأوروبي كان أول مَن طرح مجموعة من القضايا (حقوق المواطنين، والحدود الآيرلندية، والالتزامات المالية للمملكة المتحدة، والولاية القضائية لمحكمة العدل الأوروبية) التي تتعين مناقشتها. في الوقت ذاته، يرفض الاتحاد إلزام نفسه بأي اتفاق بخصوص أيٍّ من هذه القضايا دون إقرار اتفاق مبدئي أولاً بخصوص جميع القضايا. بوجه عام، أبدى الاتحاد في تعامله مع الأمر ثقة بالنفس وخبرة وتمرساً وأسلوباً منهجياً في التفكير والتعامل. في المقابل، انحسر دور المفاوضين البريطانيين على رد الفعل فحسب، وبدوا مفتقرين إلى التنسيق فيما بينهم، وغلب على مواقفهم الانفعال العاطفي.
في الوقت الراهن، يبدو أن ماي تأمل في نيل هدية غير متوقعة من بروكسل، لكن هذه الهدية لن تأتي، ذلك أن قادة فرنسا وألمانيا يبدون عاقدي العزم على توثيق أواصر الاتحاد، بينما توشك القوى المناهضة للاتحاد الأوروبي على تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات الإيطالية، وتبدي الدول الأوروبية الشرقية عناداً متزايداً في مواجهة القواعد التي تفرضها القوى الأوروبية الغربية. وعليه، فإن هذه البيئة في مجملها ليست البيئة التي يمكنها السماح بخروج المملكة المتحدة بسلاسة.
وعليه، فقد حان الوقت كي تقدم ماي عرضاً للاتحاد الأوروبي أو تترك قيادة العملية برمتها للأصوات البارزة المؤدية إلى «بريكست»، لتخرج المملكة المتحدة نهاية الأمر من الاتحاد دونما اتفاق، وتتحمل هذه الأصوات مسؤوليتها عن ذلك.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني