روسيا وإيطاليا... معضلة العقوبات وتداخل المصالح
ليونيد بيرشيدسكي ليونيد بيرشيدسكي

روسيا وإيطاليا... معضلة العقوبات وتداخل المصالح

عقب الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكأنه يقترب مما يريده في إيطاليا. فبعد الانتخابات التي جرت في مارس (آذار) الماضي، بات من المؤكد أن وجود حكومة مؤيدة لروسيا ومعارضة كبيرة الحجم مؤيدة لروسيا. ومن المرجح أن إيطاليا ستحرص على عدم توسيع الاتحاد الأوروبي لنطاق عقوباته على روسيا، لكن من غير المرجح أن ترفع العقوبات كلياً. وسياسة الكرملين، التي تستند إلى المصالح الاقتصادية، ستدق إسفيناً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يخص سياسة العقوبات؛ وذلك لتتأكد من احتفاظ روسيا بقدرتها على الحصول على مصادر الطاقة، وتصديرها وعلى اجتذاب تمويلات للسوق، سواء للدولة أو للشركات الروسية. فعقوبات الاتحاد الأوروبي التي فرضت على روسيا – بسبب ضمها شبه جزيرة القرم وإشعال المعارك بشرق أوكرانيا - سارت على نفس وتيرة عقوبات الولايات المتحدة. وفي حين استمرت الولايات المتحدة في إضافة المزيد من الإجراءات العقابية، عمل الاتحاد الأوروبي على تمديد العقوبات القديمة. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، تعرض 132 شخصاً و28 هيئة للعقوبات في أوروبا، وارتفع العدد لاحقاً ليصبح 150 شخصاً و38 هيئة حتى الآن. وبالبحث في قاعدة بيانات الأشخاص الخاضعين لعقوبات أميركية، اتضح تعرض 569 شخصاً ومؤسسة للعقوبات استجابة لتعليمات تنفيذية متعلقة بأوكرانيا. وعلى الاتحاد الأوروبي الذي يضم قادة دول أوروبا اتخاذ القرارات الخاصة بتلك العقوبات بصورة جماعية. وفي الحالة الروسية، فقد حدث هذا بالفعل أكثر من عشرين مرة؛ ولذلك فإن الجائزة الكبرى لروسيا هي كسب دولة منشقة تقوم بالتصويت ضد تمديد العقوبات. لا يمكن بحال أن تكون هذه الدولة هي المجر رغم تعبير رئيس وزرائها فيكتور أوروبان صراحة عن إعجابه ببوتين، ولا يمكن أن تكون قبرص رغم غرقها في المال الروسي، ولا يمكن أن تكون النمسا التي وقّع «حزب الحرية» القومي بها، والذي يعد الشريك الأصغر في الائتلاف الحاكم هناك، على اتفاقية تعاون مع حزب «روسيا المتحدة» الذي يرأسه بوتين. فبالنسبة لتلك الدول الصغيرة، فإن تكلفة التمرد المعلن على الاتحاد الأوروبي وبشكل واضح تفوق المنافع الاقتصادية التي ستعود عليها جراء التعاون الاقتصادي مع روسيا. ويمكن للغضب الأميركي، الذي لا يمكن لأي حماية يوفرها الاتحاد الأوروبي أن يخفف من وطأته، أن يكون أيضاً سبباً لخوف تلك الدول. فالدولة التي ستنشق عن إجماع الاتحاد الأوروبي من أجل عيون روسيا يجب أن تكون دولة كبرى، ويفضل أن تكون إحدى الدول الأربع التي صنفت بحسب منظور الكرملين على أنهم «شركاء استراتيجيون» بحسب البحث الذي أعده الكرملين عن «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» عام 2007 عن الدول التي تتمتع بـ«علاقات خاصة مع روسيا والتي أحياناً ما تتسبب في إضعاف السياسات المشتركة للاتحاد الأوروبي». تلك الدول هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وجميعها دول كبيرة بما يكفي لضمان عمل سياساتها الخارجية بصورة مستقلة بعيداً عن تأثير الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

فألمانيا التي دفعت زعيمتها أنجيلا ميركل غيرها من دول الاتحاد الأوروبي للسير في نفس طريق العقوبات، وإسبانيا ذات العلاقة غير الودية مع الكرملين، تعتبران خارج تلك المعادلة حالياً. ففي الانتخابات الفرنسية الرئاسية التي جرت العام الماضي، سارت روسيا على طريقي هجوم واعدين من خلال المرشحة القومية مارين لوبان ومنافسها المحافظ فرنسوا فيلون. فكلاهما معارض متحمس لمسألة العقوبات، بيد أن فيلون، مرشح التيار العام، كان الخيار الأكثر عقلانية للكرملين. فقد كان المرشح الأبرز للكرملين إلى أن تسببت فضيحة فساد في تدمير مسيرته. بعد ذلك، خسرت لوبان أيضاً أمام إيمانويل ماكرون الذي يسعى إلى التحالف مع ميركل.
كل ذلك يجعل إيطاليا تقف وحيدة في الخندق، نظراً لعلاقاتها بالغة الخصوصية مع روسيا منذ زمن الاتحاد السوفياتي عندما بات التيار اليساري القوي في السياسة الإيطالية على هامش الحرب الباردة. في ستينات القرن الماضي، قدمت إيطاليا أكثر من نصف المعدات الصناعية التي استوردها الاتحاد السوفياتي، وكانت شركة «إيني» النفطية الإيطالية شريكاً استراتيجياً لصناعة النفط الروسية، وقامت شركة «فيات» الإيطالية لصناعة السيارات ببناء ما يمكن اعتباره أكبر مصنع للسيارات في روسيا حالياً، وذلك في المدينة التي أعيد تسميتها لتصبح «توغلياتي» تكريماً لاسم بالميرو توغلياتي، زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي لفترة طويلة والذي توفي عام 1964؛ ولذلك فعدد الأفلام الإيطالية التي شاهدها الروس يفوق أفلام هوليوود.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انتعشت العلاقة الخاصة بين الدولتين، وحتى الزعماء الإيطاليون التكنوقراطيون ذوو المنحى الأوروبي جميعهم يعتبرون أنصاراً لروسيا نسبياً. فرئيس الوزراء الإيطالي الذي سار في اتجاه رئاسة المفوضية الأوروبية، رومانو برودي، قال ذات مرة إن «روسيا وإيطاليا معاً يمثلان ثنائياً رائعاً مثل الفودكا والكافيار». لكن هذا التشبيه ليس كافياً لوصف الصداقة الوطيدة بين بوتين والزعيم الإيطالي سيلفيو برلسكوني. فعندما أزيح إمبراطور الإعلام عن منصبه بسبب الفضيحة التي ألّمت به، عرض بوتين عليه، وفق أحد التقارير، الجنسية الروسية ووظيفة وزير الاقتصاد هناك. في عام 2015، وفي ظل العقوبات السارية، قام برلسكوني بزيارة شبه جزيرة القرم بصحبة بوتين، وقام بتذوق خمر معتق يعود إلى 240 عاماً مضت في أحد أقبية شركة «ماسندرا» التي يفترض أنها لا تزال شركة حكومية أوكرانية، لكن روسيا استولت عليها بعد ضم القرم. والعام الماضي، كانت هدية برلسكوني التي قدمها بمناسبة عيد ميلاد بوتين عبارة عن لحاف كبير عليه صورتهما وهما يتصافحان باليد. وبرلسكوني بالطبع يمثل القوة الدافعة وراء عودة تيار اليمين قبيل انتخابات مارس المقبل.
ولن يكون رئيساً للوزراء بسبب الحكم الجنائي، لكن حزبه: «فورزا إيطاليا»، يمتلك إمكانية بناء تحالف حاكم بالتعاون مع حزب «التحالف الشمالي» اليميني، الذي يمثل النصير الآخر لروسيا والذي وقع على اتفاقية التعاون مع حزب «روسيا المتحدة»، ويعتبر رفع العقوبات جزءاً من برنامج الحزب. كذلك، فإن «حركة الخمسة نجوم الإيطالية» تعارض العقوبات وأيدت العمليات العسكرية الروسية في سوريا. وحتى حزب اليسار الوسطي الديمقراطي الذي تولى قيادة الحكومات الأخيرة في إيطاليا لا يعارض بوتين. ورغم الضغوط الأميركية، فقد منعت إيطاليا محاولات توسيع نطاق العقوبات المفروضة على روسيا، وذلك في رد فعل على تدخل بوتين في سوريا. والسبب في شعبية روسيا في إيطاليا ليس ثقافياً أو تاريخياً فحسب، بل اقتصادي أيضاً، فالمشروعات التجارية الإيطالية لا تزال موجودة بقوة في إيطاليا، ومن أهمها مثلاً بنك «أنتيسا سان باولو» الذي لعب دوراً بارزاً في عملية بيع نسبة 19.5 في المائة من أسهم شركة «روزنفت» النفطية الروسية الكبرى المملوكة للدولة، التي يعتبر مديرها التنفيذي إيغور سيشن، صديقاً مقرباً من الرئيس بوتين الذي يواجه عقوبات أميركية.
لقد أضرت العقوبات الاقتصادية على روسيا بإيطاليا، فأكبر المصدرين إلى روسيا بعد ألمانيا، غير راضٍ عن تراجع صادراته إلى روسيا بواقع 40 في المائة منذ بدأ فرض العقوبات. وسيكون من الصعب لمؤيدي العقوبات البيع للمؤسسات التجارية النافذة.
لكن هذه هي إيطاليا، الدولة ذات الحكم الفوضوي والتحالفات غير المستقرة، فليس هناك حزب أو جماعة ذات اتجاه آيديولوجي في موقع يؤهلها للفوز في انتخابات مارس المقبل. ففي بعض التحالفات الكبيرة (والتي سيشعر حزب الخمسة نجوم بحساسية تجاه الانضمام إليه) سيجري إضعاف جميع المواقف، ومن غير المرجح أن يقوم زعيم حكومة غير مستقرة بإشعال فتنة التمرد على مستوى الاتحاد الأوروبي فقط ليساند بوتين. ومن الواضح أن إيطاليا لن تهتم بالالتفات إلى النداءات الأميركية للقيام بالمزيد من الإجراءات ضد الكرملين، وكذلك لن تقدم دول أخرى على إجراء كهذا؛ ولذلك لن يتغير شيء بالنسبة للكرملين. وبناءً عليه، يمكننا استبعاد الدولة الأخيرة التي تبقت في قائمة الدول الأربع التي يمكنها رفع العقوبات عن روسيا.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني