«فن العمليات الحديث في الاستراتيجية العسكرية الروسية»
لويس تيجيرينا لويس تيجيرينا

«فن العمليات الحديث في الاستراتيجية العسكرية الروسية»

نقد لمقال "ستيفن كوفينجتون" حول "ثقافة الفكر الاستراتيجي وراء نهج روسيا الحديث للحرب".

لم تتغير الحروب في القرن الحادي والعشرين، فبقيت كما كانت دائماً منذ بداية الحضارة. فدائما سيكون هناك قوة عسكرية مهيمنة تقوم بإخضاع الطرف الآخر في الحرب. والشيء الوحيد الذي يُكمل عملية شن حرب ضد أي عدو هو إبادة هذا العدو. إن حروب الاستنزاف تثير حالة من الفوضى والدمار بين الدول وحلفائها، والهدنة فقط تؤجل النتائج الحتمية المميتة التي ستقود إليها هذه الحروب. ويمكن أن نتذكر معاهدة "نيكاس" للسلام، والتي كانت عبارة عن خمسين عاماً من السلام المضطرب بين أثينا وإسبرطة وحلفائهم، والتي انتهت في عام 414 قبل الميلاد، عندما بدأت الهجمة النهائية مرة أخرى مع الحرب البيلوبونيسية، والتي أسفرت عن انتصار لإسبرطة وحلفائها.

الإسبرطيون وحلفاؤهم في "سيراكيوز" هزموا قوات البحرية وقوات المشاة الأفضل في أثينا، والتي دُمرت في بعثة صقلية بين عامي 413-415 قبل الميلاد، وهكذا تمت الحرب ضد المستعمرين في أثينا. عرف جنرالات إسبرطة فيما بعد أن الاستسلام غير المشروط سيحقق السلام بين الأحزاب أو الدول المتحاربة فقط. ومن خلال هذا الماضي يمكن أن نفهم أنه في الصراع الحديث الحالي بين روسيا وثقافتها الاستراتيجية العسكرية في معارضة الهيمنة الأمريكية، والاعتداءات العسكرية لحلف الناتو على الحدود الروسية، لن يأتي السلام إلا بعد انتهاء هذه الحرب الطويلة دبلوماسياً وعسكرياً بين هذين الخصمين الحديثين. ويتطلب هذا التحليل دراسة جيش واحد، وهو الجيش الروسي وقواته العسكرية الأخرى، في صراعه المثير للجدل والغامض في بعض الأحيان مع أوروبا الغربية والولايات المتحدة. سيكون التركيز ذو طابع نظري فيما يتعلق ببعض الأسس المتعلقة بسبب وكيفية قيام الثقافة الاستراتيجية العسكرية الروسية بالحروب بطريقة مختلفة عن السابق.

فن الحرب هو عملية جدلية مستمرة من الفن والعلوم على مر التاريخ، وتحتاج الدول دوماً للباحثين العسكريين وللعلوم العسكرية لخلق أشكال جديدة من الحروب. وكما كتب الجنرال الروسي "فاليري جيراسيموف": " حالة العلوم العسكرية الروسية اليوم لا يمكن مقارنتها مع ازدهار الفكر العسكري في بلادنا في الحرب العالمية الثانية. فهناك أسباب موضوعية لهذا، ولا يمكن إلقاء اللوم على أي شخص على وجه الخصوص في هذا الأمر. ويجب أن نعرف شيئاً آخر: أنه لم يكن هناك أي شخص من ذوي الدرجات العليا ولم يكن هناك مدارس أو أقسام أكاديمية. كان هناك فقط شخصيات استثنائية مع أفكار رائعة، وربما نحن لا نملك اليوم مثل هؤلاء الأشخاص ".

وأنا اليوم كمؤرخ عسكري أمريكي يجب أن أعترف أن بلادي لا تملك مجموعة عبقرية من الباحثين العسكريين في فن الحرب مثل: فرونز، ترياندافيلوف، سيفشين، جورجي إيسرسون وغيرهم، ومع ذلك فهذا لا يعني أنه حتى هذه النظريات الرائعة لم تكن غريبة في بعض الأحيان.

أكد الجنرال "جيراسيموف" والمؤرخ العسكري الأمريكي "كوفينجتون" في أوائل القرن الحادي والعشرين، أنه لم يعد هناك حروب طويلة الأمد ويمكن القول بالنسبة للأمريكيين أن حرب الخليج العربي كانت الأخيرة.

إن الصراع العميق في مدينة حلب السورية هو المثال الرئيسي لنوع الصراعات والحروب المدمرة المتوقعة في هذا القرن بسبب حرب عدم التماثل. ولا نستثني الثورات التاريخية المتوقعة وغير المتوقعة التي ستحدث في العالم. وإن التوزيعات الحديثة للجيش السوري مع الطائرات والقاذفات الروسية، بما في ذلك حلفاء من العراق وإيران ستكمل مهمة تدمير داعش في حلب. ولعل الهدنة ستحصل بين الإمبريالية الأمريكية وحلفائها الاسميين من جهة والمقاطعات الثورية أو الدول القومية أو دول حكم الأقلية من جهة ثانية، وستكون هذه الهدنة عبارة عن توقف عن القتال فقط، وهذا سيزيد معاناة السكان المدنيين ويجلب اليأس لمختلف الجيوش في الميدان. بعد قراءة مقال السيد "ستيفن كوفينجتون" أود أن أكتب وجهة نظر أخرى عن مقالته " ثقافة الفكر الاستراتيجي وراء نهج روسيا الحديث للحرب".

يقول المؤرخ العسكري " كوفينجتون" بشكل قاطع في إحدى الفقرات الرئيسية في المقالة:

"يرى الجيش الروسي أن الحرب ليست مجرد منافسة بين القوى وقدرات الأسلحة، بل هي صراع بين الأنظمة العسكرية، وكيف تنظم كل دولة نفسها لمواجهة نظام خصمها. ويكون النصر للنظام العسكري المتفوق".

على أية حال، هل يكفي النظام العسكري المتفوق للفوز أو النصر في الحرب بغض النظر عن أبعادها؟ أليس هناك نظام أساسي يسهم بالنصر في ساحة المعركة؟ أليست هذه القضية جزءاً من النظام السياسي؟ أود أن أقول إن البقاء للقوات العسكرية المختصة، فالنظام العسكري ليس مركز ثقل الدولة القومية، بل هو جزء من سياستها الاستراتيجية. وكما كتب المفكر العسكري السوفيتي " جورجي إيسرسون" بجرأة وبشكل قاطع: "الحرب ستحمل طبيعة حاسمة، فإن هذه الحرب بين الدول والطبقات ستشتد، ويُظهر التاريخ أن الحروب تنمو بكثافة وفقاً للتغيرات في طابعها السياسي". وبعبارة أخرى فإن ركائز الثقافة الاستراتيجية الروسية هي "التفرد الاستراتيجي"، كما وضح "كوفينجتون" للقارئ. يجب ألا يكون الاستعداد العسكري للحرب أقل أو أكثر من الاستعداد السياسي. وهنا يبدأ التعقيد في العلاقة بين الحكومة الروسية وجيشها. فإن تفكك الاتحاد السوفيتي لا يعني أن الطابع الروحي للجيش السوفيتي قد اختفى من قوات طبقة العمال الرئيسية والتي هي جزء من القوات الروسية، وهذا لا يعني أنهم نسوا جذورهم التاريخية.

سأذكر أن العملية التي يمكن للجيش الروسي وحلفاؤه الانتصار من خلالها في ساحة المعركة على أعدائهم من حلف شمال الأطلسي أو الإمبريالية الأمريكية، هي إقامة حوار سياسي متواصل ومشاركة إيديولوجية مع المواطنين الروس. إذا لم تفهم الحكومة الروسية الحساسية العميقة للشعب الروسي، فإن تطورها العسكري لن يأتي بأي نتيجة.

ذكر "كوفينجتون" في مقالته عن الثقافة الاستراتيجية العسكرية الروسية العديد من وسائل الحروب الغير متماثلة. استخدمت الحكومة الروسية مثل هذه الوسائل في القرن الحادي والعشرين للقتال في جورجيا وأوكرانيا والقرم وسوريا. وستعمل في المستقبل على تطوير مثل هذه الوسائل. كان للقيادة السياسية في روسيا وحلفائها، ورئيس الأركان ووزير الدفاع الجرأة لاستخدام المناورة لتغيير الطرق، واستخدام القوات الخاصة ومختلف القوات المسلحة لتنفيذ نموذج جديد من الحرب في المناطق الإقليمية القريبة من حدودها. إن الطريقة الروسية لإثبات القدرة على وضع سيناريو سياسي وعسكري ضد الخصوم، جعلت حلف الناتو والقوات المسلحة الأمريكية يأخذون حذرهم، بعد أن كانوا يقومون باستخدام قوات بالوكالة "كالمتمردين المعتدلين" في الميدان كما في حالة الحرب السورية. كما أنهم فرضوا العقوبات الاقتصادية التي أثرت على الاقتصاد الروسي في كل القطاعات. وإذا لم تتمكن الحكومة الروسية من إيجاد وسيلة لتكون مكتفية ذاتياً باستمرار وتحافظ على إرادة قوية لدى الناس سيؤثر هذا على الجيش. أضرت القيود الصارمة بالاقتصاد الروسي كثيراً، ويجب على رئيس الأركان الروسي أن يفهم أن رؤيته بإقامة حرب غير متماثلة ستؤثر على الاقتصاد الروسي. ويمكن أن يكون لها تداعيات خطيرة تضعف في النهاية تفاؤل الناس بغض النظر عن تعاطفهم الوطني.

بالرغم من أني أركز في هذا المقال على الفكر العسكري للمؤرخ، أود أن أقدم تحليلاً حول وجهة نظر "كوفينجتون" في الحرب الدفاعية والهجومية للجيش الروسي. فقد كتب: " ركائز الفكر الاستراتيجي الروسي تجعل من المستحيل تقريباً لمخطط استراتيجي روسي أن يكون دفاعياً، كالغربيين في العصر الحديث. العمل الأكاديمي العسكري في النهج الغربي للدفاع، مفقود في روسيا لأنه مفقود من ثقافتهم الاستراتيجية". وفي الواقع يؤكد الفكر العسكري الروسي العكس بالضبط.

إن فهم السيد "كوفينجتون" حول الحرب الروسية الحديثة والاستراتيجية الدفاعية غير دقيق تماماً. فقد لعب " ألكسندر سفيتشين" دوراً تاريخياً في التفكير العسكري الروسي. وعلى الرغم من أن عمل "سفيتشين" في الحرب الدفاعية كان غير كامل وغير مدروس إلا أنه تجدر الإشارة لما كتبه: "من أجل الحفاظ الكامل أو الجزئي على الوضع الراهن، يتطلب هذا إنفاق أقل للقوات أو الموارد".

ومن ثم يعترف "سفيتشين" بعيب يمكن أن يحدث في حرب دفاعية، على الرغم أنه لا يذكر ذلك علناً، فقد قال:

العمليات الدفاعية تنطوي عادةً على خسائر إقليمية، وهم يميلون إلى تأجيل القرارات إلى آخر لحظة ممكنة. وبالتالي لكي يكون الدفاع ناجحاً يجب أن يكون لدينا أرض قابلة للاستهلاك ويجب أن يعمل الوقت لصالحنا.

جاءت وجهة نظر "سفيتشين" حول الحرب الدفاعية في فترة كانت فيها المفاجأة والهجوم العدواني هي الطريقة الوحيدة للتفوق، ولم تقبل آراؤه بالحرب الدفاعية أو حتى حرب الاستنزاف ضد العدو. يمكن للمرء من خلال قراءة الخلافات بين مختلف المفكرين العسكريين السوفياتيين خلال فترة الحرب، أن يشعر بالقلق من التذبذب بين الضباط في مناقشاتهم حول ما إذا كان الدفاع أو الهجوم هو الطريق الأفضل لتحقيق النصر على الخصم. وينبغي أن نتذكر أيضاً أن جميع المناقشات الخطيرة جرت قبل الحرب الوطنية العظمى عندما كان الولاء والخدمة للوطن السوفياتي الأم لا تزال في مهدها.

كان فقدان الملايين من الجنود السوفييت الذي أغلق الباب بشأن نهج "سفيتشين" الأكثر تحفظاً في الحرب. ومع ذلك يشير "كوفينجتون" إلى كيفية وجود جانب خفي للاستراتيجية العسكرية الروسية، عندما كتب: "الثقافة الاستراتيجية الروسية التقليدية ترى أن النهج الروسي لتجنب الحرب يقوم على التفوق الحاسم، والتقدم في الاستعدادات ووضع القوات في بداية الأزمات للحد منخيارات الخصم بشن حرب ضد روسيا". وأنا أرى أن هذه الاستراتيجية العملية يؤديها الفكر العسكري الروسي المعاصر كشكل من أشكال المناورة.

على الرغم من أن روسيا لم تعد الدولة السوفياتية، إلا أنها تحتفظ بقدر كبير من طابعها في استخدام المناورة سواء كانت المناورة عسكرية أو سياسية. وسأقتبس الآن من أطروحتي في الماجستير حول كيفية إنشاء الجيش السوفيتي واستخدامه للمناورة:

كان السوفييت يعرفون منذ بداية صعودهم إلى المستوى القوة أن ما هو مفهوم ضمنياً ليس كذلك دائماً، وأن المعلومات ليست دائماً معلومات بالمعنى الدقيق للكلمة. فكانوا يستخدمون المناورة للحفاظ على الدولة السوفيتية.

المناورة السياسية والعسكرية هي عنصر المفاجأة والسيطرة في نهاية المطاف على عدو واحد. وهي الفن الإبداعي من جميع الأساليب النظرية والعملية للتأثير على الأفعال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعدو، بما في ذلك جدول الأعمال الدبلوماسية والعسكرية. ويُعتبر هذا النوع من المناورة في جميع الفترات الفاصلة بين الحروب هو السلاح الأول والأخير لشراء الوقت للتحضير للانتصار العسكري والسياسي على الخصم. ولا يهتم الدبلوماسيون والضباط السوفيتيون بالقيم الأخلاقية البرجوازية فيما يتعلق بفن الحرب أو تحقيق السلام. والهدف النهائي هو الانتصار في الميدان أو طاولة المؤتمر الدبلوماسي.

وكما سبق لي أن لاحظت أنني لا أملك الفرصة في هذا المقال للنقد الكامل لمقال "كوفينجتون" "ثقافة الفكر الاستراتيجي وراء نهج روسيا الحديث للحرب". وعلى الرغم من أن المؤرخ العسكري الأمريكي كتب بشكل عام عن النهج العسكري الروسي للحرب الحديثة في القرن الحادي والعشرين، كانت هناك مجالات يجب أن يكون أكثر تحديداً فيها، وأكثر تفصيلاً في ملاحظاته الشاملة. ومع ذلك هناك بيان واحد كتبه "كوفينجتون" يستحق الاقتباس تماماً، أود أن أعلق عليه في النهاية. والبيان كما يلي:

"لقد غيرت روسيا السياسة الأمنية، وغيرت الاستراتيجيات العسكرية، وتعيد تسليحها وفقاً لأشد الأهداف السياسية الداخلية وأهداف أمنية خارجية طموحة للغاية. ويبدو أن الإصلاحات العسكرية الداخلية لا تشكل حافزاً محتملاً للحد من التفكير العسكري الروسي أو تغييره، ولا سيما في خضم برنامج تحديث عسكري متعدد السنوات والمواجهة ضد النظام الأمني الأوروبي".

ما لم يعترف به "كوفينجتون" للقارئ بسبب مصالحه السياسية الواضحة والتحالفات، أن القيادة العسكرية الروسية مع جنودها حاربوا وحافظوا على كرامتهم أخيراً بعد القيادة المدمرة لكل من "غورباتشوف" و "يلتسن". وما يمكن قوله إن الروس معرضون لخطر الإفراط في التحركات في الحرب الحديثة.

تسود اليوم النزعة العسكرية ومواجهة أوروبا. فيقود التنافس بين الدول إلى إنفاق المال كل عام على الجيش والبحرية والأسلحة وما إلى ذلك مما يزيد الانهيار المالي أكثر فأكثر. ومن ناحية أخرى فإن اللجوء إلى الخدمة العسكرية الإلزامية الشاملة على نطاق واسع أكثر فأكثر، ستؤدي إلى جعل الشعب مطلعاً على استخدام الأسلحة، مما يمكنهم من فرض إرادتهم.

على الدول التي تدعم العلوم العسكرية، أن يحاولوا عدم السماح بالتمدد في التفكير الضيق بل الانفتاح على النقد الذاتي لشن الحروب. فالعلم العسكري ليس مجرد فن وإنما مسؤولية عميقة تؤثر على الجنس البشري.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني