البلطجة الأمريكية والرّد المطلوب
أحمد سعدات أحمد سعدات

البلطجة الأمريكية والرّد المطلوب

البلطجة هي التعبير الأدق لوصف السياسة الامبريالية الأمريكية ومواقف إداراتها السياسية المتعاقبة في التعامل مع قضايا الشعوب، وهذا السلوك ليس جديداً أو مستحدثاً أو خاصاً بإدارة “ترامب” بل مكون أصيل يعكس طبيعتها الامبريالية الاستعمارية الاستعلائية العنصرية؛ فالولايات المتحدة الأمريكية تشكّلت ونشأت من رحم الغزو الاستيطاني الأنجلوسكسوني للقسم الشمالي من القارة الجديدة أو “أرض الميعاد” كما أسماها رواد هذا الغزو والشريحة الارستقراطية للتجار اليهود، وإبادة الملايين من السكان الأصليين للبلاد، فتاريخها كُتب بدماء الأبرياء من قبائل الهنود الحمر والزنوج، وحضارتها بُنيت على جماجمهم.

وعليه، ليس غريباً أو جديداً أن يصدر رئيسها “ترامب” سلسلة من الإعلانات البلطجية والعنصرية والمطالبة بـ”الإتاوات” وفرض الخاوات وتهديد شعوب العالم ودولها والأمم المتحدة ومؤسساتها إذا رفضت أو تمنعت عن تأييد قرارات إدارته السياسية العنصرية، وترجمة قرار الكونجرس الأمريكي القديم بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها.

يأتي في هذا السياق الجديد النسبي للقرار هو أن سياسة القيادة الأمريكية بزعامة “ترامب” بدت أكثر وضوحاً ومجردة من قناعها أو قبضتها الاسفنجية التي كانت تغلف عقدها الحديدي، وهذا الأمر تدركه شعوب العالم من أقصاه إلى أدناه ومن غربه إلى شرقه مهما تنوعت خشونة ونعومة السياسة الأمريكية، فعلى العاجزين من حكام شعوب أمتنا إن كانوا غير متواطئين أن يخلعوا نظاراتهم القديمة إن كانت هي السبب في عدم إبصارهم لهذه الحقائق حتى تكون سياستهم ومواقفهم منسجمة مع تطلعات شعوبهم وأمتنا بشكل عام.

وفيما يخصنا كعرب وكفلسطينيين فإن المواقف البلطجية يُفترض أننا أدركناها منذ أن مارسها الرئيس ” ترومان” عشية نكبة شعبنا، وإجبار الدول التي كانت رافضة لمشروع قرار التقسيم على التصويت لصالحه في الجمعية العامة عام 1947، أو التصويت الأمريكي لمحكمة لاهاي الدولية برفض مشروع القرار المقدم إليها بشأن الجدار الفاصل العنصري؛ فالموقف الأمريكي المتغطرس الراهن في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة هو امتداد منطقي لعمق سياساتها المعادية لشعوبنا وأمتنا وقضايانا الوطنية والقومية.

واليوم فإن وصف السياسة الأمريكية بالانحياز للعدو أو التشكيك بنزاهة مرجعيتها لما سمُي “عملية السلام” أو الإشادة بالاصطفاف الدولي الواسع حول حقوق شعبنا الوطنية الأمر المعروف منذ عام 1974 فجميع هذه العبارات الجميلة لم تعد كافية.

وعليه، فالسؤال المطروح على قيادة ( م.ت.ف) والسلطة والقوى الفلسطينية بشكلٍ عامٍ هو ماذا بعد؟؟! فالحلقة الأهم في سلسلة حلقات الرد العربي والإقليمي والدولي هي الموقف الفلسطيني، فهو وحده المؤهل لنظم حلقات الإسناد لنضال شعبنا ورفع سقوفها فالكرة كانت في الملعب الفلسطيني وهي الآن تلامس أرجلنا أكثر من وقت مضى، فما الذي ينبغي عمله؟

المطلوب الآن دون لبس أو إبهام أو تردد رفض أي دور أمريكي في مرجعية أي عملية إسناد في أي تسوية للصراع العربي الفلسطيني الصهيوني، وهذا يعني فيما يعنيه فك الارتباط والقطع النهائي والكامل مع منهج ” مدريد – أوسلو” والتزاماته السياسية والأمنية، فهذا المشروع من ألفه إلى يائه أمريكي بامتياز فُرض على شعبنا بلغة التهديد والوعيد والهبوط الفلسطيني والعربي الرسمي، وحصاد شعبنا منه على مدار أكثر من ربع قرن علقماً وكوارثاً.

وهذا يحتم علينا إعادة ملف قضيتنا الوطنية إلى الأمم المتحدة بعد أن أخرجها مسار ” مدريد” من هذه الهيئة وحرر “أمريكا وإسرائيل” من أي التزام واضح وصريح لتطبيق قراراتها، ومطالبتها أن تتحمّل مسئولياتها والضغط على الكيان الصهيوني بالالتزام بالقانون الدولي وباحترام وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي تستجيب لحقوق شعبنا الوطنية وفي مقدمتها حق العودة، وعلى المستوى المباشر تأمين الحماية الدولية لشعبنا على أساس اتفاقيات جنيف وبشكل خاص الرابعة والثالثة.

وحتى لا نستبدل وهماً بوهم لابد أن توضع هذه الخطوة في إطار خطة شاملة لإدارة صراعنا واشتباكنا التاريخي المفتوح مع الاحتلال في المحافل والمؤسسات الدولية، وفي إطار برنامج الحملة الدولية لمقاطعة الكيان الصهيوني ومحاصرة سياساته على طريق نزع شرعيته؛ فالحصاد السياسي لأي عملية نضالية ثورية تحدده في نهاية المطاف موازين القوى القائمة في أرض الصراع وانعكاساته على الصعد الإقليمية والدولية، وبذلك ينبغي أن نعيد لمشروعنا الوطني التحرري طبيعته التي تعبّر عن جذر الصراع مع المشروع الصهيوني والتناقضات التي تحكمه، ووضع طاقات شعبنا وثقله في جبهة التناقض الرئيس مع الاحتلال على امتداد محاور وخنادق وساحات وميادين مقاومته.

فالمقاومة كانت الرافعة لإنجازات شعبنا المحققة، ويجب أن تظل الأساس الذي يحكم كل جوانب إدارتنا لهذا الصراع، أما الأسلوب الرئيسي الناظم لأساليب المقاومة كافة يمكن التوافق عليها إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى الجميع، أي علينا التعويل والثقة أولاً وثانياً وثالثاً بقدرات شعبنا وإرادته ومقاومته في حماية ثوابت قضيتنا الوطنية وتعبيد الطريق لتحقيق أهدافها العادلة، والتسريع بوتائر المصالحة الوطنية بعيداً عن المماحكات والمناورات الفئوية الأنانية الضيقة.

فقد كان على الأخ الرئيس بعد إعلان ” ترامب” أن يعقد اجتماعاً عاجلاً للإطار القيادي المؤقت لـ”م.ت.ف” أو أي صيغة تعكس محتواه قبل اجتماعه مع الزعماء العرب المشكوك في صدقية مواقف أغلبيتهم المعلنة، وكان بالإمكان أن يعقد هذا الاجتماع في مصر أو على هامش مؤتمر التعاون الإسلامي في إسطنبول، ومع ذلك ما زال هناك بعض الوقت لتنفيذ خطوات جادة في هذا الاتجاه تتناسب مع التحديات التي تطرحها اللحظة السياسية الراهنة؛ فانسجام الموقف الفلسطيني ووحدته وتماسكه من شأنه أن يخلصنا من ماكنة الضغط العربي والتي تحاول ترجمة الضغوط والإملاءات الأمريكية والصهيونية علينا.

ففي الوقت الذي يجري فيه الحديث عن عقد دورة طارئة للمجلس المركزي لبلورة الخطوط العامة لسياسة الرد الفلسطيني المطلوب من قيادة المنظمة توفير المناخات الدافعة والمشجعة لحضور القوى الفلسطينية الموقعة على اتفاق القاهرة 2005 وما بُنى عليه من توافقات بشأن منظمة التحرير في اجتماعات هذه الدورة، مع التشديد على أن الخطوة الأوسع الديمقراطية وجديتها هي دعوة الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، وتوفير الوقت والجهود المبذول لعقد المجلس المركزي.

ومع ذلك وعملاً بالمأثور الشعبي ” مطلوب العنب وليس مقاتلة الناطور” ينبغي على القوى الحريصة على إنجاز الوحدة الوطنية وفي مقدمتها حركتي حماس والجهاد الإسلامي أن تدرس بجدية وحرص عملية المشاركة في عمل هذه الدورة ولو بصفة مراقب حتى تعطي شحنة جديدة للدفعة التي أحدثتها مرونتها في تسريع عملية المصالحة، وكان لها جدوى ذات مغزى فتحت بوابة الأمل بعد أن كانت موصدة.

كما على الرئيس أن يدعو لعقد هذه الدورة في الخارج لتمكين كل قيادات الصف الأول من القوى الفلسطينية من حضورها والمشاركة في أعماله، حتى يكون لقراراتها مضمون حقيقي يعكس نفسه إيجاباً على وحدة قوى شعبنا الوطنية والإسلامية السياسية والاجتماعية، ويسرع من إنجازها وطي ملف الانقسام، وإطلاق العنان للحراك الشعبي الراهن وتشكيل قيادة وطنية موحدة لإدارته وتوجيهه وتوفير مستلزمات إدامته وتوسيعه وتطويره إلى انتفاضة شعبية شاملة تعيد الاعتبار لمقاومة شعبنا وتمكّن لحمة النسيج الوطني، والإلغاء الفوري لكافة الإجراءات العقابية التي اتخُذت بحق أهلنا في القطاع الصامد، ووقف التنسيق الأمني واعتباره جزءاً من الماضي، والإفراج عن جميع المعتقلين على خلفية الانتماء السياسي أو مقاومة الاحتلال، وهذا لن يضعف السلطة بل سيكسبها الانسجام والاحترام.

وختاماً، فإن كل المهام السياسية العامة ما عدا الرفض القاطع للمرجعية الأمريكية وتطوير الحراك الشعبي يمكن أن توضع كخطوط عامة للعمل توجه الحراك السياسي الفلسطيني وتضبط إيقاعه، فالاستدارة السريعة للموقف السياسي الرسمي قد لا تكون السلطة جاهزة لتنفيذها أو مستعدة لها الآن، وقد يتذرع البعض أن هذا التدوير الحاد قد يربك الحراك السياسي الدولي الراهن المساند للموقف الفلسطيني، ومع التأكيد أن شعبنا لم يعد له ما يخسره سوى القيود، ومع ذلك يمكن تفهم هذه المطالب إذا كان المقصود التمهيد للموقف الفلسطيني، وعدم التسرع في استخدام الأوراق التي نملكها على أن يكون هناك توافق فلسطيني عام على صوابيتها وضروريتها، وهذا ما يحدده التئام طاولة الحوار الوطني الشامل الجدي والمسئول سواء في إطار دورة المجلس المركزي أو أي مسمى آخر يمكن أن يعكس جماعية اتخاذ القرار في الشأن الفلسطيني العام.

المصدر: عن بوابة الهدف الإخبارية

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني