رأس المال المالي الاحتكاري المعولم والإمبرياليّة الجديدة
monthly review monthly review

رأس المال المالي الاحتكاري المعولم والإمبرياليّة الجديدة

إنّ النظرية الأساسيّة للشركات متعددة الجنسيات، والمتجذرة في نظريّة رأس المال الاحتكاري والتحليل الماركسي العام للتراكم، والتي طورها اقتصاديون سياسيون ماركسيون في الستينيات، لها ميزة على جميع وجهات النظر الأخرى بحيث يمكنها أن تساعدنا على فهم التغيرات الشديدة التي حدثت في الإمبرياليّة في زماننا، والأحداث التي قاربتها النظريات السائدة بشكل غير فعّال عبر مفهوم العولمة الشامل. كان التحوّل الأساسي في الإنتاج العالمي في ظلّ الإمبريالية الجديدة لرأس المال المالي الاحتكاري العالمي هو المفاضلة بين العمالة العالميّة. لقد سمح ذلك بتحوّل الصناعات التحويليّة في العقود الأخيرة من الشمال العالمي إلى الجنوب العالمي، حيث ارتفعت حصّة التوظيف في الصناعة العالميّة في البلدان النامية من 52% في الثمانينيات من القرن العشرين إلى 83% عام 2012، وارتفعت حصّة الاستثمار المباشر الأجنبي في الاقتصادات النامية والانتقاليّة من 33% في 2006 إلى 51% في عام 2010. والسؤال الآن، مع أخذ الدور المتحوّل للشركات متعددة الجنسيات بالاعتبار، هو كيف تمكّن النظام من نقل الإنتاج إلى تلك الأجزاء من الكوكب حيث تكاليف العمالية هي الأرخص، والحفاظ في ذات الوقت، بل وزيادة في بعض الأحيان، التقسيم بين المركز والمحيط داخل اقتصاد العالم الرأسمالي.

بقلم: جوني بيلامي فوستر
تعريب وإعداد: عروة درويش

إنّ الموازنة العمّالية العالميّة (وهي التبادل غير المتساوي الذي يعتمد على التراتب الهرمي للأجور حول العالم، والذي يقسّم بشكل حاد بين المركز والأطراف) هي وسيلة تقوم من خلالها الشركات متعددة الجنسيات بالاستفادة من التمايز بين تكاليف وحدات العمالة داخل نظام «القيمة العالمي» الإمبريالي. في ظلّ الرأسماليّة الاحتكاريّة، تسيطر الشركات الاحتكاريّة-الأقليّة «oligopolistic corporations» على أغلب السوق العالميّة عبر عملياتها العالميّة. علاوة على ذلك فإنّ السوق العالميّة ليست متناظرة: فرغم أنّ بإمكان رأس المال (عندما لا تواجهه عقبات مثل الضوابط الاحتكاريّة للشركات الاحتكاريّة أو الحمائيّة التي تمارسها الدول الثريّة) أن يتحرّك بحريّة نسبيّة، لا يمكن للعمالة أن تقوم بذلك. إنّ العمالة عموماً محصورة داخل الحدود الوطنيّة، فحركتها مقيدة بسياسات الهجرة. يسمح عدم التناظر هذا للشركات متعددة الجنسيات بأن تستفيد من فروقات أثمان العمالة الهائلة على المستوى العالمي، وبامتلاك المزيد من الحريّة في السعي لتحقيق أرباح أعلى من خلال الاستعاضة عالمياً عن العمالة ذات الأجور الأعلى بالعمالة ذات الأجور الأدنى.

وكما كتب ألبرت بارك وغواراف ناير وباتريك لو عام 2013 في «قضايا ووجهات نظر في سلسلة التوريد»:

«المحرّك الأساسي للاستعانة بمصادر خارجيّة أجنبيّة عبر البحار هو التكاليف الأدنى. إنّ التباعد الاقتصادي بين الشمال العالمي والجنوب العالمي في القسم الأول من القرن العشرين قد مهّد الطريق للشركات متعددة الجنسيات لتحقق وفورات في التكاليف في النصف الثاني من القرن العشرين. تبعاً لكون الأجور في البلدان النامية هي أقلّ بكثير من الأجور في البلدان المتقدمة، فقد ازدادت الوفورات المحتملة التي يمكن جنيها من التمايز العمّالي، بالتزامن مع زيادة التباعد الاقتصادي. بأيّ حال، الذي سبّب تحقيق هذه الوفورات كان الابتكارات التكنولوجيّة والتشريعات التي خفضت بشكل كبير تكاليف مزاولة الأعمال عبر الشركات وحدود البلاد.  ثم نشأ الابتكار التنظيمي من أجل حصد الإمكانات التي خلقتها هذه العوامل الاقتصاديّة المساعدة، لتقود إلى نموّ سلاسل التوريد».

من وجهة نظر رأس المال، فإنّ التمايز العمّالي العالمي، والذي يُشار إليه غالباً بشكل غير مباشر بمصطلحات القيمة أو سلاسل التوريد، هو مجرّد «تكتيك عاجل للبقاء»، مطلوب في الديناميات المتغيرة للاقتصاد العالمي الناشئ عن تنافس الشركات العملاقة. وتزعم وجهة النظر هذه بأنّ سبب وجود مثل هذه الشركات هو «الضرورات الجديدة للسيطرة على التكاليف» التي تدفع الشركات للسعي نحو طرق جديدة لاحتواء التكاليف. لقد استمرّ التوسّع في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الجنوب العالمي (المرتبط بالتجارة بين الشركات متعددة الجنسيات) في العقود القليلة الماضية. لكن بالإضافة لذلك، فإنّ الانتشار الجديد للتعاقد من الباطن «subcontracting»، أو ما سماه مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «بأساليب الإنتاج الدولي غير المتساوية NEMs»، هو أمر مذهل. لقد أصبحت مثل هذه الممارسات بشكل متزايد جزءاً أساسيّاً من سلاسل القيمة العالميّة، حيث تمّ تركيز النمو في الجنوب العالمي. بين عامي 2005 و2010، تجاوز معدّل نمو العقود من الباطن في العديد من قطاعات التصنيع، بما في ذلك الإلكترونيات والمستحضرات الصيدلانيّة والألبسة، معدّل نموّ الصناعة العالميّة ككل. هذا كلّه نتاج رغبة جشعة من الشركات لاستغلال العمالة في الجنوب العالمي، وذلك عبر وسائل متنوعة من السيطرة. أصبحت التعاقدات من الباطن في أكثر الحالات وسيلة لتطوير أشكال أكثر تطرفاً من الاستغلال، لتصبح أقرب إلى صورة رأسماليّة العصر الفيكتوري التي فصّلها ماركس في كتابه رأس المال.

طوّر عالم الاجتماع غاري غيريفي وزملاؤه مفهوم السلاسل السلعيّة «التي يحركها المشتري» من أجل التشديد على الزيادة الكبيرة في التعاقد من الباطن في الخارج من قبل الشركات متعددة الجنسيات «التاجرة» التي لم تعد (أو لم تفعل على الإطلاق) تصنّع منتجاتها، بل تقوم فقط بالتصميم والتسويق لأجل هذه المنتجات.

وفي حين أنّ هذه الآراء يمكن أن تساعد في تفسير ما يحدث على السطح، فإنّ هناك حاجة إلى منظور راديكالي أو ماركسي لفهم الإمبرياليّة التي تكمن وراء هذا التحوّل في استراتيجيّة الشركات. فالتمايز العمّالي ليس مجرّد تكتيك للبقاء، بل هو وسيلة للحفاظ على، ولتوسيع سيطرة الشركات متعددة الجنسيات الاحتكاريّة-الأقليّة، في سعيها لمراكمة رأس المال. لقد كانت نتيجة ذلك خلق صيغ جديدة من التداعيات الخطيرة على العمالة في جميع أنحاء العالم.

لم تعد الشركات تصنع منتجاتها الخاصّة، بل نقلت العمليّة إلى المصانع الموجودة في الخارج، والتي تكون في الغالب على شكل ورشات استغلاليّة. لقد تمّ في العقدين الماضيين إجراء عدّة دراسات مبهرة على شركات متعددة الجنسيات ذات أذرع إنتاجيّة طويلة، مثل شركة نايك: فقد بدأت الشركة كمستورد للأحذية من اليابان، ثمّ نقلت إنتاجها كليّة تقريباً، عبر مجموعة من العقود من الباطن، إلى ما وراء البحار، وتحديداً في آسيا».

وبالإضافة إلى الاستغلال المتزايد والمستمر للعمالة الأجنبيّة، فإنّ نظام التعاقد من الباطن يوفّر «نزعاً لفتيل الكثير من الانتقادات المرتبطة بمثل هذا الاستغلال الجسيم». لأنّ الشركات يمكن أن تتنصّل من المسؤوليّة عبر إلقاء اللائمة على الوكلاء المحليين. فالشركات متعددة الجنسيات التقليديّة كانت تركّز فيما سبق على الاستثمار الأجنبي المباشر، أمّ الآن فتزيد استخدامها للتعاقد من الباطن، بحيث لم يعد الاستثمار المباشر الأجنبي تمثيلاً ملائماً لكامل عمليات رأس المال المالي الاحتكاري العالمي.

لكن كيف استطاعت الشركات العملاقة الموجودة بشكل رئيسي في الغرب أن تحتفظ بالسيطرة على الإنتاج والاستمرار بمصّ الأرباح من معظم عمليات الإنتاج، والكثير من عمليات الإنتاج المتطور، ونقله إلى الشمال العالمي عبر السيطرة على القيمة وليس عن طريق توليد القيمة؟ كما أشارت فيفيان فينتورا دياز، بأنّه رغم قيام الاقتصاد السائد بربط هذه الشركات مع تدويل تكاليف العمليات: «فإنّ الشركات متعددة الجنسيات متحضّرة لنقل أيّ نشاط ليس جوهرياً لميزاتها التنافسيّة، سواء في أسواقها أو في صناعاتها، إلى الخارج. إلى حيث يمكنها أن تعمل بتكاليف أدنى أو أكثر فاعليّة، عبر أطراف أخرى. شريطة أن تكون الأخطار المرتبطة بهذا النقل إلى الخارج محدودة أو يمكن احتوائها».

ويبقى مع ذلك هناك مخاطر عديدة أمام الشركات متعددة الجنسيات: ماذا لو أصبحت الاقتصادات الناشئة ودولها قويّة بما فيه الكفاية لفرض بعض السيطرة على الإنتاج وعلى نظم المعلومات التي تحكم الإنتاج وعلى الظروف القانونيّة والتجاريّة ...الخ؟ ماذا عن خطر الاضطرابات العماليّة الناجمة عن الاستغلال المفرط لها؟ كيف يمكن للشركات متعددة الجنسيات أن تحتفظ بالسيطرة على التكنولوجيا في ظلّ هذه الظروف؟ ما مدى احتمال كسر بعض سلال التسليع العالميّة التي باتت تعتمد عليها هذه الشركات؟

إن كنت مكان الشركات متعددة الجنسيات، فستقوم أولاً وقبل كلّ شيء بإبقاء نظام الاستغلال القائم على الاستملاك العالمي دائراً تحت السيطرة الاحتكاريّة على التمويل والتكنولوجيا، وذلك بدعم من القوى الإمبرياليّة للدول في مركز النظام. لقد أوضح سمير أمين في الواقع بأنّ المركز الاقتصادي العالمي يحافظ على سيطرته قائمة عبر خمسة احتكارات: التمويل والتكنولوجيا وموارد الكوكب والاتصالات والقوّة العسكرية. وتتطلّب هذه الاحتكارات الخمسة الدور النشط الذي تؤديه دول المركز. إنّ سيطرة المركز على التمويل والتكنولوجيا والاتصالات، مدعوماً بالجيش والسيطرة الجيواستراتيجيّة للدول الرأسماليّة، هو ما سمح للشركات متعددة الجنسيات في الدول الإمبرياليّة الرئيسيّة بترحيل الإنتاج عالمياً دون الخوف من الاستيلاء عليها، وهو ما سمح لها بنزع حصّة الأسد من القيمة المنتجة.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني