لسن راهبات وحسب!
تعريب: هاجر تمام تعريب: هاجر تمام

لسن راهبات وحسب!

في الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1980، وجدت أربعة جثث مدفونة تحت الأرض في ريف السلفادور. كانت الجثث التي وجد عليها آثار اغتصاب تعود لراهبات في الكنيسة من الأمريكيات الشماليّات: إيتا فورد ودوروثي كازيل وجين دونافان وماورا كلارك، على يد فرق الموت السلفادوريّة المدربة على يد الولايات المتحدة.

بقلم: هيلاري غودفريند

ورغم أنّ اغتيال هؤلاء النسوة كان أمراً وحشياً، لكنّه لم يكن أمراً غير مألوف في وسط العنف المنتشر على طول السلفادور فيما سيُعرف فيما بعد بحرب الاثنا عشر عاماً الأهلية. لكن رغم ذلك، أثار قتلهنّ احتجاجاً عالمياً، ليتسبب ذلك بإحراج شديد لإدارة ريغان التي كانت على وشك استلام السلطة لتزيد الدعم السياسي والعسكري للجيش السلفادوري الديكتاتوري.

لقد كان النظام السلفادوري المدعوم من الولايات المتحدة يشنّ حرباً على التمرّد اليساري الذي تولّد عن فشل الحركات السلميّة الساعية لإصلاحات ديمقراطيّة ولإنهاء التوزيع الأوليغارشي وشبه الإقطاعي للثروة والسلطة في البلاد. ومن أجل القضاء على أيّ طموح ثوري أطلقته كوبا عام 1959 وأشعلته نيكارغوا عام 1979، أنفقت الولايات المتحدة مئات ملايين الدولارات على الجيش السلفادوري المتعطّش للدماء وعلى قواته التي ذبحت قرى بأكملها. فأدّى إلى عشرات آلاف القتلى والمفقودين من المدنيين ولاغتيال المعارضين السياسيين والزعماء العماليين والكهنة والراهبات المولودات في الولايات المتحدة.

وبعد جريمة القتل، قامت سفيرة إدارة ريغان إلى الأمم المتحدة جين كيركباتريك بالإعلان بقسوة: «هؤلاء الراهبات لم يكنّ راهبات وحسب». لقد كانت تصريحها يحمل بشكل ضمني الإعلان عن أنّ الراهبات قد استحققن ما أصابهن، ولهذا فقد أثار الاحتجاجات الشديدة. لكن من ناحية أخرى، وإن أفرغنا محتوى إعلان كيركباتريك من الضغينة، فهم حقّاً لم يكنّ مجرّد راهبات. لقد خاطرت هؤلاء النسوة الشجاعات بحياتهن من أجل دعم أضعف ضحايا سياسات الولايات المتحدة الخارجيّة، وذلك أثناء كفاحهم من أجل الكرامة وتقرير المصير. وقد فعلن كلّ ذلك تحت راية إيمانهن الديني.

  • انطلاق لاهوت التحرير:

قرر مجمع الفاتيكان عام 1962 أن تقام الصلوات والاحتفالات بلغات الكنائس المحليّة، ممّا حرر التعاليم الكنسيّة من اللاتينيّة النخبوية. ثمّ أعلن ملتقى ميدلاين لأساقفة أمريكا اللاتينيّة عام 1968 بأنّ للفقراء الأفضليّة بالكنيسة، وفتح هذا المؤتمر المجال لتغيير التركيز الكنسي من خلاص الفرد إلى التنظيم الاجتماعي، وهو ما أدّى لما بات يعرف باسم «لاهوت التحرير».

يصعب وصف مدى أثر لاهوت التحرير على الحركات الثورية في دول ذات أغلبية شعبيّة كاثوليكيّة مثل نيكاراغوا والسلفادور. فقد أدّى انتشاره عبر أمريكا اللاتينيّة والوسطى إلى تنظيم جزء كبير من قواعد الحركات الجماهيريّة التي غذّت التمردات اليساريّة ودعمتها في الشوارع.

انتقد نظام سوموزا في نيكاراغوا أيّ تأييد جماعي لحقوق الإنسان الرئيسيّة بوصفها عملاً تخريبياً شيوعياً. وباتت أنشطة الراهبات، وخصوصاً مورا كلارك، خطرة أكثر فأكثر، وأكثر سريّة، لكنّها بقيت متأنية.

وكراهبة، اعتبرت مورا أنّ التضامن مع كفاح الفقراء من أجل الحياة الكريمة والفاعلة هي رسالتها الإيمانيّة الأعلى. وكانت دوماً تردد كلمة تحبها من إنجيل يوحنا: «ليس هناك حبّ أعظم من منح حياتك من أجل صديق». التحق الكثير من طلابها وزملائهم بجبهة سانديستا للتحرير الوطني «FSLN»، التي ضمّت في صفوفها كهنة بارزين وضعوا لاهوت التحرير موضع التطبيق. بالنسبة لمورا، اندمج السياسي مع الديني.

وعندما اشتدّ تحدّي السانديستا لنظام سوموزا، عادت مورا إلى الولايات المتحدة عام 1976. وبدأت بتعريف الكاثوليكيين الأمريكيين بنضال جبهة السانديستا، وبتواطؤ الحكومة الأمريكيّة مع جرائم نظام سوموزا. حتّى أنّها شاركت في قنصليّة نيكاراغوا في الأمم المتحدة. وقد أتاحت نشاطاتها، هي ومن معها من الكهنة العائدين إلى الولايات المتحدة، بناء القاعدة لحركة التضامن التي ستنشأ عام 1980.

  • متابعة النضال حتّى النهاية:

بعد أن أطاحت السانديستا بنظام سوموزا عام 1979، كان أمام مورا إمّا أن تعود إليها من أجل الانخراط في عمليّة بناء مجتمع جديد أكثر مساواة، أو أن تذهب إلى السلفادور حيث العنف قد وصل إلى مرحلة لم تشهدها حتّى نيكاراغوا. فاختارت السلفادور. وأطلقت هناك أثناء الاحتفال بانتصار السانديستا صرخة وجدت صداها في جميع أنحاء أمريكا اللاتينيّة: Si Nicaragua venció, El Salvador vencerá: طالما أنّ نيكاراغوا قد انتصرت، فلابدّ للسلفادور أن تنتصر.

بدأت التهديدات بالقتل تصل إلى الراهبات من قوّات النظام المدعوم أمريكياً ومن المجموعات العسكرية المساندة له. وأطلق اليمينيون الذين حكموا البلاد صيحتهم الشهيرة: «كن وطنياً واقتل الكهنة». وبعد وقت قصير تمّ اغتيال رئيس الأساقفة السلفادوري المحبوب أوسكار روميرو في 24 آذار 1980، بعد حضّه للمزيد من الرهبان والراهبات على مواكبة الكفاحات المشددة من أجل حقوق الإنسان. لكنّ مورا ذهبت إلى السلفادور رغم كلّ هذا.

عملت مورا في السلفادور على الخطوط الأمامية للحرب، في الجبال الشماليّة لتشالتينانغو، وهي معقل المقاومة التي حاصرها إرهاب الدولة في المراحل الأولى من الحرب بين الجيش الديكتاتوري اليميني ومتمردي جبهة فاربوندو مارتي للتحرير الوطنيّة FMLN.

ثمّ بعد عدم امتثال مورا ورفيقاتها للتهديدات المتكررة التي وصلت إلى أبرشيتهم في تشالتينانغو التي تؤوي جميع المحتاجين وتزودهم بالملابس والطعام وبالمستلزمات الطبيّة، تمّ اختطافهم من المطار وهنّ مسافرات إلى الولايات المتحدة، وكانت تلك آخر مرّة يتمّ فيها رؤيتهن أحياء. تمّ في عام 1984 إدانة أربعة من الحرس الوطني في اغتيال الراهبات، ولكنّ تطبيق القانون لم يطلهم حينها. وبعد أن أصبح اثنان من القتلة عسكريين برتب عالية، عاشوا بارتياح لمدّة ثلاثين عاماً في الولايات المتحدة، تمّ في عام 2015 ترحيلهم إلى السلفادور من أجل إعادة فتح القضيّة أمام المحاكم السلفادورية.

وكما علّق ريكاردو ريبيرا سالا، البروفسور السلفادوري من الجامعة اليسوعيّة: «لقد كان الدين أفيوناً للشعوب، حتّى ذلك الوقت فقط»، وذلك في إشارة إلى أنّ رجال الدين اللاتينيين قد طوعوا الإيمان ليلعب دوراً بارزاً في مساندة الحركات الشعبيّة.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني