صعود وهبوط «دولة الرفاه» في أميركا
تعريب: جيهان الدياب تعريب: جيهان الدياب

صعود وهبوط «دولة الرفاه» في أميركا

ظهر مفهوم دولة الرفاهية منذ نشوء الدول بأن تلعب الدولة الدور الرئيسي في حماية وتوفير الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها وعليه أنشئت دولة الرفاهية الأمريكية كغيرها في عام 1935 واستمرت في التطور حتى عام 1973. إلا أن الطبقة الرأسمالية هناك عملت على تفكيك دولة الرفاهية بأكملها على مدى عقود طويلة.

بقلم: جيمس بتراس

وفي الفترة ما بين منتصف السبعينات وحتى الوقت الحاضر (2017)، تم إبطال قوانين العمل وحقوق الرفاه والاستحقاقات والإعانات وبناء المساكن بأسعار معقولة. (في عهد الرئيس بيل كلينتون) أنهت " برامج التشغيل المؤقتة الحكومية " الرعاية الاجتماعية للفقراء والعمال المسرحين. وفي الوقت ذاته، أدى التحول إلى الضرائب التنازلية والأجور الحقيقية المتدهورة باطراد إلى زيادة أرباح الشركات إلى درجة فلكية. وبالتالي ظهور انعكاسات شديدة لسياسة التفكيك هذه, التي تضاعفت تدريجيا خلال التسعينات في ظل حكومة كلينتون على مدى عقدين وأدى ذلك في النهاية إلى إهمال تشريعات ومؤسسات الرعاية الاجتماعية.

كما ترافقت في حينها "إصلاحات" الرفاهية السابقة تلك والتشريع لمكافحة الرفاه والممارسات التقشفية مع سلسلة من الحروب الإمبريالية التي لا نهاية لها، وخاصة في الشرق الأوسط.

ففي الأربعينيات وخلال الستينيات، حدثت الحروب العالمية والإقليمية (كوريا والهند الصينية) جنبا إلى جنب مع برنامج الرعاية الاجتماعية الكبير – وهو شكل من أشكال "الامبريالية الاجتماعية"، التي "تشتري" الطبقة العاملة بينما تقوم بتوسيع امبراطوريتها. على كل حال، تتسم العقود الأخيرة بحروب إقليمية متعددة مترافقة مع خفض برامج الرعاية الاجتماعية أو إزالتها بالإضافة إلى ازدياد هائل في معدلات الفقر وانعدام الأمن المحلي وسوء الصحة.

الصفقات الجديدة والحروب الكبيرة

شهدت الثلاثينيات ظهور التشريع الاجتماعي والعمل، الذي وضع أسس ما يسمى "دولة الرفاهية الحديثة". وتم تنظيم نقابات العمال من خلال إضرابات الطبقة العاملة، وقد يسر التشريع التدريجي عمل التنظيم النقابي العمالي، والانتخابات، وحقوق المفاوضات الجماعية، والزيادة المطردة في عضوية النقابات. وأدى تحسن ظروف العمل، وارتفاع الأجور، وخطط المعاشات التقاعدية والفوائد، والرعاية الصحية المقدمة من أرباب العمل أو من النقابات، والتشريعات الوقائية، إلى تحسين مستوى معيشة الطبقة العاملة، وأنتجت جيلين من أجيال الحراك التصاعدي.
وتمت الموافقة على تشريع الضمان الاجتماعي مع تعويض العمال وتعيين أسبوع العمل بمدة أربعين ساعة. وتم إنشاء وظائف من خلال البرامج الاتحادية. ويسر التشريع الوقائي نمو الأسواق المحلية للمصنعين الأمريكيين. ونظمت مجالس رقابة نقابية في مكان العمل "فورية" لتوفير ظروف العمل الآمنة.

أدت الحرب العالمية الثانية إلى توظيف الجميع وزيادة عضوية النقابات، فضلا عن التشريعات التي تقيد حقوق المفاوضة الجماعية للعمال وفرض تجميد الأجور. وقد وجد مئات الالاف من الامريكيين وظائف فى اقتصاد الحرب، إلا أن عددا كبيرا منهم لقوا مصرعهم أو أصيبوا فى الحرب.

وشهدت فترة ما بعد الحرب عملية مناقضة لسابقتها حيث ارتفعت الأجور والرواتب في حين خفضت التشريعات حقوق النقابات عن طريق قانون تارت هارتلي والتطهير الماكارثي* للنشطاء النقابيين اليساريين. وحظرت معظم النقابات العمالية في الولايات الجنوبية حسب قوانين ما يسمى "الحق في العمل" ، الأمر الذي دفع الصناعات للانتقال إلى الولايات المناهضة للنقابات.

أدت الإصلاحات المتعلقة بالرفاه، الى تشكيل مشروع قانون المساواة بين الجنسين، وأتاحت فرصا تعليمية للطبقة العاملة والمحاربين القدامى في المناطق الريفية، في حين شجعت القروض العقارية ذات الفائدة المنخفضة المدعومة من الحكومة الاتحادية على شراء المنازل، ولا سيما بالنسبة للمحاربين القدامى.

وقد حققت الصفقة الجديدة تحسنا ملموسا ولكنها لم توطد نفوذ العمال على أي مستوى. ولا يزال الرأسماليون والإدارة يحتفظون بالسيطرة على رأس المال ومكان العمل وموقع إنتاج المصنع.

ووقع مسؤولو نقابات العمال اتفاقيات مع رأس المال: ارتفاع أجور العمال مع زيادة سيطرة رؤساء العمل على مكان العمل. وانضم مسؤولو النقابات إلى الإدارة في قمع حركات الرتب والملفات التي تسعى للسيطرة على التغييرات التكنولوجية عن طريق تقليل ساعات العمل ("ثلاثون ساعة عمل بأجر أربعين ساعة عمل"). وقد استولى زعماء النقابات العمالية على النقابات المحلية، عن طريق العنف في بعض الأحيان.
مما أفقد النشطاء النقابيون ومنظمو تجمعات ضبط الإيجارات وغيرها من الحركات الشعبية القدرة والإرادة على التقدم نحو تغييرات هيكلية واسعة النطاق في الرأسمالية الأمريكية. وقد تحسنت مستويات المعيشة لعدة عقود، إلا أن الطبقة الرأسمالية عززت السيطرة الاستراتيجية على علاقات العمل. وفي حين ازداد دخل العمال النقابيين، بدأت أوجه عدم المساواة، ولا سيما في القطاعات غير النقابية، بالازدياد. ومع انتهاء مشروع قانون المساواة بين الجنسين، انخفضت نسبة وصول المحاربين القدامى إلى التعليم المدعوم عالي الجودة.

وفي حين بدأت موجة جديدة من تشريعات وبرامج الرعاية الاجتماعية في الستينيات وأوائل السبعينيات، إلا أنها لم تعد هناك نتيجة لـنضال اتحاد نقابي جماعي أو "صراع طبقي" للعمال. وعلاوة على ذلك، أدى التعاون النقابي مع سياسات الحرب الإقليمية الرأسمالية إلى قتل وتشويه مئات الآلاف من العمال في حربين - الحرب الكورية والحرب الفيتنامية.

وقد نتجت الكثير من التشريعات الاجتماعية عن الحركات المدنية وحركات الرعاية الاجتماعية. ورغم أن هناك برامج حملت مشاريع خاصة، إلا أن أيا منها لم يتناول العنصرية البنيوية والفقر.
الموجة الأخيرة من الرعاية الاجتماعية
شهد عام 1960 م أعظم حرب عرقية في تاريخ الولايات المتحدة الحديث إذ هزت الحركات الجماهيرية في الجنوب والشمال الدولة والحكومات الاتحادية، في ذات الوقت الذي تقدمت فيه قضايا الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية. حيث قام الملايين من المواطنين السود، الذين انضم إليهم النشطاء البيض، بقيادة المحاربين القدامى في حرب فيتنام, وكذلك الملايين من الطلاب والعمال الشباب، الذين هددهم التجنيد العسكري بمواجهة الدولة، وتحدوا النظام العسكري والاجتماعي.
وقد أطلقت الحكومة الفدرالية موجة جديدة من تشريعات الرفاهية الاجتماعية مدفوعة بنشاط الحركات الجماهيرية لتهدئة المعارضة الجماهيرية التي انتشرت بين السود والطلاب ومنظمي المجتمع والطبقة الوسطى من الأمريكيين. ورغم هذه الحركة الشعبية الجماهيرية، فقد كان زعماء النقابة في الاتحاد الأمريكي للعمل والهيئة التشريعية للمنظمات الصناعية(AFL-CIO) يؤيدون علناً الحرب، وقمع الشرطة والجيش، أو في أحسن الأحوال كانوا يقفون موقف المتفرجين السلبيين على الأحداث التي تتكشف في شوارع البلاد. أما أعضاء النقابات المنشقين والناشطين فقد كانوا استثناءً، فقد كان لدى العديد منهم هويات متعددة لتمثيلهم: الأمريكيون من أصل أفريقي، واسبانيون، ومعارضين، وما إلى ذلك.
وفي ظل رئاسة ليندون جونسون وريتشارد نيكسون، تم تنفيذ برامج ميديكير، ومديكيد، و أوشا، ووكالة حماية البيئة، وبرامج متعددة للفقر. وقدم الرئيس نيكسون برنامجا وطنيا للصحة، قام بتوسيع برنامج الرعاية الطبية لجميع الأمريكيين، ولكن ديمقراطيو كينيدي و (AFL-CIO) قاموا بتخريبه. وعموما تضاءلت أوجه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية خلال هذه الفترة.
انتهت حرب فيتنام بهزيمة الإمبراطورية العسكرية الأمريكية. وتزامن ذلك مع بداية نهاية الرعاية الاجتماعية كما عرفناها- حيث أن مشروع قانون العسكرية أثر بشكل أكبرعلى الخزانة العامة.
ومع انتخاب الرئيس كارتر، بدأت الرعاية الاجتماعية في الولايات المتحدة بالانخفاض. وترافقت سلسلة الحروب الإقليمية التالية مع هجمات أكبر على الرعاية الاجتماعية من خلال "خطة فولكر" - أي تجميد أجور العمال كوسيلة لمكافحة التضخم.
هذا ما انتهجته السياسة التشريعية لإدارات كارتر وريغان. وبالتالي استندت برامج الرعاية الاجتماعية إلى أسس هشة سياسيا.
هزيمة الرعاية الاجتماعية
انخفضت عضوية النقابات العمالية في القطاع الخاص من الذروة ما بعد الحرب العالمية من نسبة 30٪ إلى 12٪ في التسعينيات، واليوم وصلت إلى 7٪.
وشرع الرأسماليون بتنفيذ برنامج ضخم لإغلاق الآلاف من المصانع في الشمال المليء بالنقابات، ونقلها إلى الولايات الجنوبية غير النقابية ذات الأجور المنخفضة ومن ثم إلى الخارج إلى المكسيك وآسيا. وقد تم فصل الملايين من الوظائف المستقرة.
بعد انتخاب "جيمي كارتر"، لم يشعر أي من الديمقراطيين أو الجمهوريين بأي حاجة لدعم منظمات العمل. بل على العكس من ذلك، قدمت التسهيلات للعقود التي تمليها الإدارة، والتي خفضت الأجور والأمن الوظيفي والفوائد والرعاية الاجتماعية.
وتكثف الهجوم المناهض للعمال من "المكتب البيضاوي" تحت قيادة الرئيس ريغان بتدخله المباشر بإطلاق عشرات الآلاف من المراقبين واعتقال قادة النقابات. وتحت رئاسة كل من كارتر وريغان وجورج بوش وويليام كلينتون، فشلت تعديلات تكاليف المعيشة بمواكبة أسعار السلع والخدمات الحيوية. وأصبح التضخم في الرعاية الصحية فلكيا. كما أدى إلغاء الضوابط المالية إلى تبعية الصناعة الأمريكية للتمويل وبنك وول ستريت. وأدى إلغاء التصنيع وهروب رؤوس الأموال والتهرب الضريبي الضخم إلى تخفيض حصة العمال من الدخل القومي.
وتابعت الطبقة الرأسمالية مسار الانحدار والانتعاش والصعود. وعلاوة على ذلك، خلال فترة الكساد الاقتصادي السابق في العالم، وفي ذروة تعبئة وتنظيم العمل، لم تواجه الطبقة الرأسمالية أبدا أي تهديد سياسي خطير على سيطرتها على مواقع قيادة الاقتصاد.
وكانت "الصفقة الجديدة" في أحسن الأحوال "تسوية تاريخية" بين الطبقة الرأسمالية ونقابات العمال، بوساطة نخبة الحزب الديمقراطي. وهو اتفاق مؤقت حصلت فيه النقابات على الاعتراف القانوني بينما احتفظ الرأسماليون بصلاحياتهم التنفيذية.

وأمنت الحرب العالمية الثانية الانتعاش الاقتصادي لرأس المال من خلال اتفاقية عدم الإضراب بتكليف من قبل الاتحاد. كانت هناك استثناءات ملحوظة قليلة: قام اتحاد عمال مناجم الفحم بتنظيم الإضرابات في القطاعات الاستراتيجية، وعندما كان أصحاب العمل يديرون أعمالا وحشية خاصة على العمال، قام بعض القادة والمنظمين اليساريين بتشجيع بعض الآليات مثل التباطؤ في الانتاج، والعمل على السيطرة على المصنع، وغير ذلك من الإجراءات داخل المصنع. وكان انتعاش رأس المال تمهيدا لهجوم ما بعد الحرب على منظمات عمالية سياسية مستقلة. وانخفضت نوعية تنظيم العمل حتى مع زيادة عدد أعضاء النقابات العمالية.
وقام مسؤولو نقابات العمال بتعزيز الرقابة الداخلية بالتعاون مع النخبة الرأسمالية. وتم توسيع نطاق التعاون الرسمي بين الطبقة العاملة والرأسماليين في الخارج ولكن بعواقب استراتيجية.
أدى تحالف الشركات بعد الحرب بين الدولة ورأس المال إلى هجوم عالمي – أي الاستغلال من قبل رجال الأعمال والمصرفيين في الولايات المتحدة واستبدال السيطرة الاستعمارية الأوروبية اليابانية. وقد أعيد توصيف الإمبريالية في وقت لاحق بأنها "العولمة" التي وفرت أسواقا مفتوحة، وحصلت على عمالة رخيصة الثمن، ونهبت الموارد لصالح المصنعين والمستوردين الأمريكيين.
لعبت نقابات العمال في الولايات المتحدة دورا رئيسيا في تخريب النقابات المسلحة في الخارج بالتعاون مع جهاز الأمن الأمريكي: عملوا على اقتناص ورشوة قادة العمال الوطنيين واليساريين ودعموا القمع الذي يمارسه نظام الدولة البوليسية واغتيال المقاتلين المتمردين.
لقد زرعت النقابات العمالية الأمريكية بذور تدمير نفسها بنفسها في موطنها. وقام الرأسماليون المحليون في الدول الناشئة المستقلة حديثا بإنشاء الصناعات وسلاسل التوريد بالتعاون مع المصنعين الأمريكيين. ونقل الرأسماليون الأميركيون مصانعهم إلى الخارج بعد أن جذبتهم الأجور المنخفضة للعاملين وسهولة استخدام القمع العنيف معهم هناك، وبعد ذلك أداروا ظهورهم للعمل في وطنهم.
وقد أرسى مسؤولو نقابات العمال الأساس لانهيار الوظائف المستقرة والمزايا الاجتماعية للعمال الأمريكيين. وأدى تعاونهم مع الرأسماليين إلى زيادة معدل الربح الرأسمالي وساهم في تقوية النظام السياسي عموما. إن تواطؤهم في عمليات التطهير الوحشية للمسلحين والناشطين وأعضاء النقابات اليسارية والقادة في الداخل والخارج وضع حدا لقدرة النقابات العمالية على الحفاظ على دولة الرفاهية وتوسيعها.

لم تستخدم نقابات العمال في الولايات المتحدة تعاونها مع الامبراطورية في حروبها الإقليمية الدموية من أجل كسب منافع اجتماعية للعمال. وقد انتهى زمن الإمبريالية الاجتماعية، عندما استفاد العمال داخل الإمبراطورية من نهب الإمبريالية. إن المكاسب في مجال الرعاية الاجتماعية من الآن فصاعدا يمكن أن تنتج فقط عن الصراعات الجماعية التي يقودها الفقراء المدنيون ككتلة واحدة، وخاصة الأمريكان من أصل أفريقي، والفقراء العاملون في المجتمع المحلي، والمنظمون الناشطون الشباب.
وقد تم تنفيذ آخر إصلاحات هامة في مجال الرعاية الاجتماعية في أوائل السبعينات - تزامنت مع نهاية حرب فيتنام (وانتصار الشعب الفيتنامي) وانتهت باستيعاب الحركات المدنية والمناهضة للحرب في الحزب الديمقراطي.

ومن ثم، تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال توسع الشركات متعددة الجنسيات في الخارج وعبر الإنتاج الكبير غير النقابي في الداخل.
ولم تقدم التغييرات التكنولوجية في هذه الفترة أي فائدة للعمال. وقد تحطم الاعتقاد الشائع في الخمسينيات، أن العلم والتكنولوجيا سوف يزيدان من أوقات الفراغ، ويقللان من العمل ويحسنان من مستويات معيشة الطبقة العاملة. وعوضاً عن ذلك، أدت التغيرات التكنولوجية إلى تهجير العمالة الصناعية ذات الأجور الجيدة مع زيادة عدد الوظائف الذهنية المرتبطة بالأجور والمهمشة سياسيا في ما يسمى ب "قطاع الخدمات"، وهو قسم سريع النمو من العمال غير المنظمين والضعفاء - ولا سيما النساء والأقليات .
وانخفضت عضوية النقابات بشكل سريع. وكان لانهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وتحول الصين إلى الرأسمالية أثرا مزدوجا: فقد أزال الضغط الجمعي (الاشتراكي) من أجل الرفاه الاجتماعي وفتح أسواق عملهم التي تحوي عمال رخيصي الأجور ومنضبطين لخدمة المصنعين الأجانب. وقد اختفى العمل كقوة سياسية بجميع الحسابات. قام البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي والرئيس بيل كلينتون بتحرير رأس المال المالي مما أدى إلى موجة من المضاربة. ووضع الكونغرس القوانين التي سمحت بالتهرب الضريبي في الخارج - وخاصة في المحميات الضريبية في منطقة البحر الكاريبي. وأدت اتفاقات التجارة الحرة الإقليمية، مثل اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، إلى نقل الوظائف إلى الخارج. ورافقت عملية تراجع التصنيع تراجعا في الأجور ومستويات المعيشة والمكاسب الاجتماعية لملايين العمال الأمريكيين.

المحررون الجدد
كان الاتفاق الجديد، والمجتمع العظيم، والنقابات العمالية، والحركات المناهضة للحرب والمجتمع المدني في تراجع ويستعدون للنهاية.
وقد حلت الحروب التي لا طائل منها محل "الإمبريالية الاجتماعية" في وقت سابق مع ازدياد هائل في نسبة الفقر والتشرد. واستغلت العمالة الوطنية الآن لتمويل الحروب في الخارج . لم يتم تقاسم ثمار النهب الأمبريالي معهم.
وبينما انجرفت الطبقات العاملة والطبقات الوسطى نحو الأسفل، استغلوا، وهجروا وخدعوا من جميع الأطراف - وخاصة من قبل الحزب الديمقراطي. وانتخبوا العسكريين والديماغوجيين كرؤساء جدد لهم.
دمر الرئيس بيل كلينتون روسيا ويوغوسلافيا والعراق والصومال وحرر وول ستريت. وأنتج نظامه نموذجين مطابقين للملياردير النصاب: مايكل ميلكين وبرنارد بيرني مادوف.
وقد حول كلينتون الرعاية الاجتماعية إلى " برامج التشغيل الحكومية المؤقتة " ذات الأجور الرخيصة، التي استغلت أشد الناس فقرا وضعفا، وحوكمت الأجيال القادمة الساعية بسبب طحن الفقر. وفي عهد كلينتون، ازداد عدد السجناء ومعظمهم من الأمريكيين من أصل أفريقي، ودمرت أسر المجتمعات المدنية.
وبحجة أحداث التاسع من أيلول، أطلق بوش الابن الحروب "التي لا نهاية لها" في أفغانستان والعراق وعزز من سيطرة ولاية الشرطة (قانون باتريوت). وذهبت أجور العمال الأمريكيين في مقابل أرباح الرأسماليين الأميركيين في اتجاهين متعاكسين.
هزت الأزمة المالية الكبرى للفترة 2008-2011 الاقتصاد الورقي إلى جذوره وأدت إلى خلخلة أعظم مخزون في تاريخ الخزينة الوطنية في التاريخ على يد أول رئيس أمريكي أسود. وذهبت تريليونات الثروة العامة إلى المصارف الإجرامية في وول ستريت - التي كانت "أكبر من أن تخسر". ومع ذلك، كان الملايين من العمال الأمريكيين وأصحاب المنازل "لا قيمة لهم".

عصر الديماغوجية
حول أوباما 2 تريليون دولار إلى أكبر عشرة مصرفيين ونصابين في وول ستريت ، كما حول تريليونا آخر إلى البنتاغون لمتابعة النسخة الديمقراطية من السياسة الخارجية: من حربي بوش الاثنتين في الخارج إلى سبعة حروب لأوباما.
قام المتبرعون في الانتخابات لأوباما بتخليص ملياري دولار من المحميات الضريبية في الخارج، وتطلعوا إلى اتفاقات التجارة الحرة العالمية - التي شجعها ودفع بها الرئيس الأمريكي الأفريقي.
انتخب أوباما لفترتين. وقد صدق مؤيدو الحزب الديمقراطى الليبرالى خطابه للسلام والعدالة ولكنهم ابتلعوا طعم تصعيده العسكرى فى سبع حروب خارجية ، فضلا عن احتجاز مليونين من الامريكيين. فشل أوباما تماما في الوفاء بوعد حملته للحد من التفاوت في أجور العاملين بالأجر بين البيض والسود، بينما واصل وعظ الأسر السوداء حول "القيم والأخلاق".
أدت حرب أوباما ضد ليبيا إلى قتل وتشريد الملايين من الليبيين السود والعمال من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ولدت جائزة نوبل للسلام للرئيس المبتسم الأمل لدى اللاجئين اليائسين من رؤساء الولايات المتحدة السابقين- بما في ذلك الملايين من الأفارقة الذين تدفقوا إلى أوروبا.
خطة "أوباما كير"، وهي محاولة تقليده لخطة حاكم جمهوري في وقت سابق، قد وضعت من قبل شركات الصحة في القطاع الخاص (التأمين الخاص، بيغ فارما والمشافي الربحية)، لضمان أرباح ثلاثية الأرقام . وبحلول الانتخابات الرئاسية لعام 2016، عارض الشعب الأمريكي بنسبة 43٪ - 45٪ "أوباماكير". لم يتمكن دعاة أوباما من تقديم أي تحسن في متوسط العمر المتوقع أو انخفاض في وفيات الرضع والأمهات نتيجة "إصلاح الرعاية الصحية". في الواقع، حدث العكس بين الطبقة العاملة المهمشة في "حزام الصدأ" القديم وفي المناطق الريفية. هذا الفشل بتقديم أي تحسن كبير في الصحة العامة لدى الأمريكيين هو تناقض صارخ مع برنامج ليندون جونسون للرعاية الطبية في الستينيات، الذي لا يزال يتلقى دعما شعبيا هائلا.
وقد مهدت أربعون عاما من تشريعات مكافحة الرفاه والأنظمة المؤيدة لرجال الأعمال الطريق الذهبي لانتخاب دونالد ترامب
يركز ترامب والجمهوريين على بقايا نظام الرعاية الاجتماعية الممزقة: ميديكير وميديكيد والضمان الاجتماعي. وبدأ العمل على بقايا الصفقة الجديدة للفلسفة الديمقراطية الجديدة وجمعية ليندون جونسون الكبرى.
وكانت غياب قيادة العمال المحتضرة (ولكن ذات الأجور العالية) ملحوظاً خلال انهيار دولة الرفاه الاجتماعي الذي أعقب ذلك. وتبنى اليسار الليبرالي الديمقراطي مقولة أن فريق أوباما / كلينتون التافه هو "حفار قبور" المجتمع العظيم، بينما كان حلفاء ترامب يدفعون جثة دولة الرفاهية إلى قبرها.
استنتاج
على مدى السنوات الأربعين الماضية، ساهمت الطبقة العاملة ومجموع ما كان يشار إليه آنفا باسم "الحركة العمالية" في تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي، والتصويت على قانون الإضراب لريغان، وقانون العمل لكلينتون، ولسياسات بوش في وول ستريت، وقانون إنقاذ وول ستريت لأوباما وقانون (Trickle-down) لترامب

لقد ولت الأيام التي أدت فيها الرفاه الاجتماعي والحروب المربحة إلى رفع مستويات المعيشة في الولايات المتحدة وتحويل نقابات العمال الأمريكية إلى ملحق للحزب الديمقراطي وخادماً للسلطة. أنقذ الحزب الديمقراطي الرأسمالية من الانهيار في الكساد الكبير، وأدخل العمال في اقتصاد الحرب والامبريالية العالمية ما بعد الاستعمارية، وأنقذ وول ستريت من "الانهيار المالي الكبير" في القرن الحادي والعشرين.

ولم يعد اقتصاد الحرب يغذي الرفاهية الاجتماعية. وقد وجد المجمع العسكري الصناعي شركاء جددا في وول ستريت ومن الشركات العالمية المتعددة الجنسيات. ترتفع الأرباح في حين تنخفض الأجور. انخفاض أجور العمل في برامج التشغيل الحكومية المؤقتة شذب نقل الاموال من الدولة إلى الفقراء.
وقد خلقت التكنولوجيا وتكنولوجيا المعلومات، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي والأدوات الإلكترونية – أكبر استقطاب طبقي في النظام الاجتماعي في التاريخ. وارتفعت ثروات التريليونير الأول والمليونيرات المتهربون من الضرائب بملايين الدولارات على حساب جيش بائس قائم من عشرات الملايين من العمال ذوي الأجور المنخفضة، الذين جردوا من حقوقهم ومن تمثيلهم. ويلغي الدعم الحكومي في الدولة تقريبا جميع المخاطر التي يتعرض لها رأس المال. إن نهاية الرعاية الاجتماعي (بما في ذلك الرعاية المقدمة للأمهات الشابات) يجبر المواطنين على البحث عن فرص عمل غير آمنة ومنخفضة الدخل مع انخفاض مستوى التعليم والصحة – اللذين يدعمان أجيال الفقراء. وقد استنزفت الحروب الإقليمية في الخارج الخزينة وسلبت استثمارات الدولة الانتاجية. وتصادر الامبريالية الاقتصادية الأرباح، مما يعكس العلاقة التاريخية بالماضي.
بقي العمل دون بوصلة أو اتجاه، وفشل في كل الاتجاهات وسقط بشكل أعمق في شبكة من الخداع و الديماغوجية. للهروب من ريغان ومخربي الإضرابات، واعتماد العمالة الرخيصة في عهد كلينتون؛ اتحد العمال البيض والسود لانتخاب أوباما الذي طرد الملايين من العمال المهاجرين، واكمل حروبه السبع، وأهمل العمال السود، وزاد الأغنياء القذرين غنى. خداع وديماغوجيا ليبراليي العمل ولدت الديماغوجي القبيح المتنفذ بسبب ثروته الذي صوت العمال لصالحه: ترامب.
أسفر زوال الرعاية وارتفاع مستوى الأوبئة والمخدرات عن مقتل ما يقرب من مليون شخص (معظمهم من الطبقة العاملة) وكان أغلبها تحت حكم الديمقراطيين . وقد فتح التعاون بين الليبراليين والنقابات في تعزيز الحروب التي لا نهاية لها الباب أمام السراب الذي بشر به ترامب لطبقة حاكمة عديمة الجنسية، غير خاضعة للضرائب.
من الذي سيختاره الديمقراطيون كبطلهم الديماغوجى القادم لتحدي "دونالد" - هل يكون أحد الذين يتحدثون إلى "البائسين" الذين يعملون لصالح مالكي التريليونات؟

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الأحد, 24 كانون1/ديسمبر 2017 12:27