ماذا تعرف عن حركة «أنتيفا» (2)
لورين بالهورن لورين بالهورن

ماذا تعرف عن حركة «أنتيفا» (2)

(هذا المقال تعريف عن الحركة بلسانها هي، وبالتالي، فإن الأفكار والتحليلات الواردة فيه لا تعبر بالضرورة عن سياسة قاسيون)

لقد قبِل الحزب الشيوعي (KPD) منذ نهاية الحرب موجات من الأعضاء الجدد، حيث ارتفع شأنه في ضوء الانتصار السوفييتي على هتلر والمشاعر العريضة المناهضة للرأسماليّة. سرعان ما أعاد الحزب بناء قواعده الصناعيّة، وسيطر بحلول عام 1946 على لجان المتاجر في منطقة الرور ذات التركيز الصناعي ليصبح نفوذه موازياً للحزب الديمقراطي الاشتراكي (SPD). يقول الباحث الألماني أرنو كلون في دراسته الكلاسيكيّة عن حركة العمّال الألمانيّة، بأنّ عدد أعضاء الحزب الشيوعي في مناطق الاحتلال الغربي الثلاثة كان ثلاثمائة ألف عضو عام 1947، وستمائة ألف في الشرق قبل إنشاء حزب الوحدة الاشتراكيّة (SED) عام 1946.

تعريب: عروة درويش

لكن بعد فترة وجيزة من المشاركة في الحكومات المؤقتة التالية للحرب، همّش الحلفاء الحزب الشيوعي، وعاد الحزب من جديد لخطّه السياسي الراديكالي. ثمّ أنهى التهلهل السياسي في 1951 بتمريره <الأطروحة 37>، وهي ورقة موضعيّة بشأن استراتيجيّة عمل عمّاليّة مليئة بالهجوم على الديمقراطيين الاشتراكيين والنقابيين. تمّ تمرير هذا الاقتراح أثناء مؤتمر الحزب، لتجبر كافّة أعضاء الحزب الشيوعي على إطاعة قرارات الحزب العليا، وعلى العمل ضدّ توجيهات النقابات إن لزم. أدّت هذه الخطوة إلى محو الدعم الشيوعي في المصانع بين عشيّة وضحاها، وأزاحت الحزب إلى هامش المجتمع. ففشل في العودة إلى البرلمان في انتخابات عام 1953، وحظرته حكومة ألمانيا الغربيّة بشكل صريح عام 1956.

أمّا التطورات في المنطقة السوفييتيّة فكانت مختلفة بشكل كلّي، لكنّها وصلت في نهاية المطاف إلى ختام مميت أكثر شراسة: حيث اعتمد حزب الوحدة الاشتراكيّة بزعامة والتر أولبرخت <النهج الستاليني> في جمهوريّة ألمانيا الديمقراطيّة (GDR). لقد كان أولبرخت من الكوادر الشيوعيّة القديمة من أيام الحزب الأولى، وقد نجا من عمليات التطهير الداخليّة ومن القمع الفاشي ليقود <مجموعة أولبرخت>، وهو فريق من عمّال الحزب الشيوعي المنفيين الذين عادوا من موسكو من أجل بناء البلاد تحت الوصاية السوفييتية.

ورغم أنّ جنرالات الجيش الأحمر لم ينظروا بشكل متساوٍ لألمانيا الشرقيّة، فقد رفضوا التعاون مع الرتب النازيّة القديمة لأسبابهم الخاصّة، ولهذا سمحوا لفترة وجيزة للأنتيفات وللمؤسسات المرتبطة بها بالعمل بحريّة نسبيّة. تفيد التقارير من عام 1947 عن المصانع في المراكز الصناعيّة السابقة للحرب في ألمانيا الشرقيّة، مثل هاله (وهي معاقل الشيوعيين التقليديين)، بأنّ مجالس العمّال بقيادة الحزب الشيوعي قد مارست تأثيراً حاسماً على الحياة في المصانع، قويّة بما يكفي لإجراء المفاوضات والاختصام مع السلطات السوفييتيّة في بعض الحالات.

يخبرنا الناشط المخضرم ثيودور بيرغمان، وقد كان عضواً في حزب (KPO) قبل الحرب، وميكانيكيّاً في مصنع زايس للبصريات في مدينة جينا، والذي انضمّ إلى حزب الوحدة الاشتراكيّة، عن النقابي والعضو الناشط في أنتيفا هنريش آدم. نظّم آدم الكثير من الاحتجاجات ضدّ القرارات السوفييتيّة بأخذ معمل زايس بوصفه تعويض حرب، واقترح بناء مصنع جديد في روسيا عوضاً عن ذلك. تمّ طرد آدم من الحزب عام 1952 بسبب وجهات نظره المستقلّة، رغمّ عدم توجيه أيّ تهم له. وعاش آخر أيامه في مدينة جينا على معاش يقبضه من الدولة بوصفه من المحاربين القدامى ضدّ الفاشيّة.

وفي درسدن، قامت مجموعة من حوالي ثمانين شيوعيّاً وديمقراطياً اشتراكياً، بتشكيل لجنة في أيّار/مايو 1945 لإعلان استسلام المدينة للجيش الأحمر. وقامت هذه المجموعة بالتعاون مع السلطات السوفييتيّة، بمداهمة مخازن الأغذية والأسلحة التابعة <لجبهة العمّال الألمان> وغيرها من المنظمات النازيّة، ووضعت نظاماً لتوزيعها على سكّان المدينة منذ الأسبوع الأول بعد الحرب.

تصف التقارير الواردة من المسؤولين السوفييت ومن مجموعة <أولبرخت>، الجماعات المناهضة للفاشيّة، والتي تسامحت معها القوّات السوفييتيّة عموماً. قامت هذه المجموعة، بالإضافة إلى تسليح السكان وتنظيم تدريبات على الرماية، باعتقال النازيين وفتح مطابخ للحساء من أجل اللاجئين من المقاطعات الشرقيّة. وتظهر الاتصالات الداخليّة بأنّ قيادات الشيوعيين لم يعجبوا كثيراً بأنتيفا، وبأنّ أولبرخت قد رفضها، ووصفها بأنّها <قطّاعات مستقلّة مناهضة للفاشيّة> في بيان مرسل إلى جورجي ديمتروف في منتصف عام 1945.

كان الهدف الأولي لمجموعة أولبرخت هو دمج أكبر عدد ممكن من مناهضي الفاشيّة هؤلاء في الحزب الشيوعي، مع الخوف من أنّ قمعهم سوف يجعلهم يتمردون بدلاً من صدّهم. وقد ادعى ولفغانغ ليونهارد، العضو السابق في مجموعة أولبرخت، في مذكراته (طفل الثورة) بأنّ أولبرخت قد شرح لزملائه من الموظفين الشيوعيين: <يجب أن يبدو كلّ شيء ديمقراطياً، لكن علينا أن نسيطر على كلّ شيء>.

انتهت هذه الفترة عندما بدأت جمهوريّة ألمانيا الديمقراطيّة في تأسيس نفسها كدولة ذات حزب واحد على غرار الاتحاد السوفييتي، خاصّة بعد أن أفضت الانتخابات الحرّة التي أقيمت عام 1946 إلى نتائج مخيبة للآمال بالنسبة للأنتيفات. تمّ التحقيق مع أعضاء الحزب الشيوعي المعارض (KPO) وغيره من المعارضين الذين سمح لهم بالانتساب إليه في فترة ما بعد الحرب بجرائم سياسيّة سابقة، وتمّ عزلهم، وحبسهم في معظم الأحيان. وفي أماكن العمل، سيطر الحزب الاشتراكي الموحد (SED) على المصانع واتبع نهج عقلنة الإنتاج، وحيّد أيّ تمثيل ديمقراطي يعارضه.

وقد أسس إنشاء (اتحاد التجارة الألماني الحر FDGB) عام 1946 لبداية محاولة الحزب الاشتراكي الموحد السيطرة على المصانع.  لقد قامت هذه النقابات في الواقع بتنظيم عمّال ألمانيا الشرقيين بما يتماشى مع مصلحة رئيسهم العملي: الدولة الألمانيّة الشرقيّة. وعملت على كسب ولائهم من خلال برامج <المنافسة الاشتراكيّة>، والعمل بالقطعة، وحزم العطلات الممولة نقابياً.

ومع ذلك لم تستطع النقابات أن تتخلّص من المنافسة الانتخابيّة بين عشيّة وضحاها. ففي العديد من الحالات، انتُخب نشطاء أنتيفا لعضويّة لجان (FDGB) لعاملي المتاجر في السنوات الأولى، وعليه فقد استمروا بممارسة تأثيرهم على أماكن العمل لوقت أطول. تمّ إدماج بعضهم في الإدارات متوسطة المستوى، بينما رفض آخرون التنازل عن مبادئهم فتخلوا عن مواقعهم أو تمّت تصفيتهم سياسيّاً.

وقد سرّع الانقسام العام بين الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا تيتو عام 1948 من إغلاق المساحات المحدودة للتنظيم الذاتي بالكامل. وفي وقت لاحق، سيتمّ تحريف وتشويه التقاليد الأنتيفيّة في جمهوريّة ألمانيا الديمقراطيّة، وسيعاد تشكيلها وتأطيرها في أسطورة وطنيّة تاريخيّة يُعلن فيها بشكل رسمي بأنّ مواطني ألمانيا الشرقيّة هم <منتصرو التاريخ>. لكن سيتم التضييق على التاريخ الحقيقي والمتناقض للحركة، ناهيك عن ذكر دور الشيوعيّة الموالية للاتحاد السوفييتي الستاليني فيها.

  • الجرأة على الحلم:

بعد انهيارها في أواخر 1945 وبدايات 1946، ستختفي الأنتيفات عن المسرح السياسي الألماني لقرابة الأربعة عقود. ليس هناك جذور تاريخيّة عمليّة تربط الأنتيفا الحديثة التي يستخدم معظم الناس اسمها، بالحركة التي أخذت عنها اسمها، بل هي نتاج لمشهد احتلال ألمانيا الغربيّة وحركة الاستقلال في الثمانينيات – وهي ذاتها نموّ فريد من نوعه عن أحداث 1968 التي توجهت إلى الطبقة العاملة بشكل أقلّ بكثير من نظيرتها الإيطاليّة. لقد عملت الأنتيفات الجديدة الأولى بمثابة منابر ضدّ الجماعات اليمينيّة المتطرفة، مثل الحزب الديمقراطي الوطني (NPD)، في حركة مستقلّة كانت أعدادها تفوق مئات الآلاف من الناشطين القادرين على احتلال كتل أبنية بأكملها في المدن الكبرى في ألمانيا الغربيّة.

فبينما شرع اليمين المتطرّف بإعادة بناء نفسه في أعقاب الوحدة الألمانيّة، والذي عبّرت عنه الهجمات الغوغائيّة ضدّ طالبي اللجوء في عدّة مقاطعات شرقيّة في أوائل التسعينيات، أصبحت أنتيفا بشكل متزايد حركة في حدّ ذاتها: شبكة وطنيّة من مجموعات مناهضة الفاشيّة المتفانين الأعضاء في منظمتي: <Antifaschistische Aktion/Bundesweite Organisation (AA/BO)>.

وفي بعض المناحي، كانت هذه المجموعات عكس أسلافها: فبدلاً من أن تشكّل تحالفاً واسعاً من الاشتراكيين والتقدميين من التيارات والأحزاب المختلفة والمتمايزة، كانت جماعة بقضيّة منفردة، تعبّر بالقول عن راديكاليتها، لكنّها غامضة وغير متجانسة في تفاصيلها. وبدلاً من أن تكون نقطة انطلاق بالنسبة للناشطين من الشباب إلى يسار سياسي واجتماعي أكثر اتساعاً، فإنّ الأنتيفات خارج المدن الكبرى هي في الغالب جهة سياسيّة الوحيدة، تعمل بمثابة فضاء ثقافي مضاد له أزياء وموسيقى وألفاظ خاصّين به، وذلك بدلاً من أن تكون أحد عناصر حركة جماهيريّة متجذرة داخل المجتمع الأوسع.

بعد الانفصال بين (AA) و(BO) عام 2001، واصلت الأنتيفات العمل محليّاً وإقليميّاً بوصفها شبكات متفانيّة من مناهضي الفاشيّة الذين يقفون في وجه التجمعات والمظاهرات اليمينيّة المتطرفة، رغم أنّ الكثير منها قد تبنّى قضايا ومسائل يساريّة. لقد استمرّت المكاتب العشوائيّة والبنى التحتيّة التي بنيت بين السبعينيات والتسعينيات بالعمل كمساحات تنظيم واجتماع هامّة بالنسبة لليسار الراديكالي. وستستمرّ أنتيفا، بوصفها حركة وحبل جامعاً ومراقباً سياسياً عامّاً، في الوجود لبعض الوقت بلا شك. لكن يبدو بأنّ هذا التكرار لمناهضة الفاشيّة قد استنزف ذخيرتها السياسيّة. 

تراجعت الحركة بشكل مستمر منذ أواخر التسعينيات، وتشظّت إلى خطوط إيديولوجيّة غير قادرة على تكييف استراتيجياتها الأصليّة الخاصّة، من أجل تغيير أنماط التمدّن ونهوض اليمين الشعبوي. إنّ تجمعاتها الجماهيريّة ضدّ مسيرات النازيين الجدد في مدن، وكذلك تشكيل تيار جديد متمايزاً مثل <اليسار التدخلي>، يمثّل خروجاً عن الهدف بدلاً من كونه إحياءً لاستراتيجيّة الأنتيفا الكلاسيكيّة.

لقد ظهرت مناهضة الفاشيّة في نقاشات اليسار الأمريكي في ظلّ رئاسة ترامب، ويمكن رؤية الكثير من التكتيكات والأساليب البصريّة للأنتيفا الألمانية اليوم في أماكن مثل بيركلي. يجادل البعض بأنّه مع وصول حركة النازيين الجدد على النمط الأوربي إلى السواحل الأمريكيّة، فقد آن الأوان لاستيراد تكتيكات أنتيفا بالمقابل.

ومع ذلك، فإنّ أنتيفا اليوم ليست نتاجاً لانتصار سياسيّ يمكننا استخلاص قوته منه، بل هي نتاج هزيمة للاشتراكيّة على يد النازيّة والرأسماليّة العالميّة، والتي تحولت لاحقاً إلى حركة ذاتيّة تمّ استنزافها في أعقاب النقلة إلى النيوليبراليّة، واجتياح الأثرياء (gentrification) لكثير من المدن الألمانيّة، على حساب الفقراء.

ورغم أنّ أنتيفا لا تزال تعمل كقطب مهم لجذب الشباب إلى الراديكاليّة، وضمان بقاء اليمين المتطرّف دون مقارعة في الكثير من المدن الأوربيّة، فإنّ لشكلها السياسي طبيعة حصريّة، مصوغ بأسلوبه الجمالي والبلاغي الخاصّ بها التي لا تسمح للجماهير غير المنخرطة فيها أن تشاركها نشاطاتها. فالثقافة-الفرعيّة للجناح اليساري مع فضاءاته الاجتماعيّة وحياته الثقافيّة ليس هو نفسه الحركة الجماهيريّة الاشتراكيّة، ولا يمكننا أن نتحمّل الخلط بين الاثنين.

واجهت الأنتيفات في شتوتغارت وبراونشفيغ وفي كلّ مكان آخر ظروف مستحيلة، لكنّهم لم يستسلموا وحاولوا صياغة سلسلة من المطالب السياسيّة والرؤى التنظيميّة للعمّال الراديكاليين الراغبين بالتغيير. لا يدور النظر إلى الوراء، إلى تاريخ اليسار الاشتراكي، حول استنساخ تجربة القرن الحادي والعشرين، بل حول فهم كيفيّة إدراك الأجيال السابقة للحظاتهم التاريخيّة الخاصّة، وبناء منظمات سياسيّة متكيفة معها، من أجل تطوير منظماتنا العصريّة، والخروج بنماذج أكثر نجاحاً.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الخميس, 28 كانون1/ديسمبر 2017 03:34