الأحمر والأسود
سيث آكرمان سيث آكرمان

الأحمر والأسود

لدى الراديكاليين عادة التحدّث عن الأشياء المشروطة. يتمحور كامل حديثهم عن التغييرات التي يرغبون برؤيتها في العالم وعن الحقيقة الصعبة بأنّ نظامنا الاجتماعي يضع حدوداً صارمة أمام مدى التغيير الذي يمكن تحقيقه. تلعب عبارة "بعد الثورة ..." دور التمهيد التوّاق والمثير للتهكم الذي يعبّر عن الكثير من الرغبات الودودة لليسار.

تعريب: عروة درويش

 

لماذا يتردد الراديكاليون بشدّة في الحديث عن كيف سيبدو النظام المختلف؟ لقد أتت إحدى أقدم وأكثر الاعتراضات تأثيراً على مثل هذا الكلام من ماركس، في اقتباس له وهو يتحدث عن "وصفات" طوباويّة من أجل "مطابخ المستقبل". يُفترض بأنّ العبرة من هذه المقولة هو أنّ المجتمع في المستقبل يجب أن ينشأ من الديناميات العفوية للتاريخ، وليس من خيالات منعزلة لبعض الكتّاب. لكنّ هذا الأمر لا يخلو من السخرية، حيث أنّه بعد عامين من هذه المقولة قام ماركس الكاتب نفسه بتدوين وصفته للمطبخ الصغير في "نقد برنامج غوتا". لقد تضمن عمله بطاقات شراء عماليّة ومخازن للبضائع ونظاماً محاسبياً لتحديد مقدار أجور العمّال.

في الواقع، كانت تعليقات ماركس عبارة عن ردّ فعل على التقييمات السلبية التي تلقاها في صحيفة "باريس" التي يديرها الفيلسوف المتحمّس أوغست كومته، والذي انتقد ماركس على عدم تقديم أيّ بديل متماسك للنظام الاجتماعي الذي يدينه. (ولهذا السبب فقد سأل بشكل ساخر في الاقتباس الأصلي إن كانت الوصفات، التي أمل المقيّمون أن يروها، هي وصفات من جنس "كومته"). وكي نفهم السياق علينا أن نفهم بأنّ كومته، مثله في ذلك مثل العديد من الكتّاب الطوباويين في تلك الحقبة، قدّم سيناريوهات للمجتمع المستقبلي متميزة بفخامتها المشوشة، وبتعليماتها الدقيقة والمتوافقة بشكل خيالي حول كامل جوانب الحياة اليومية تقريباً. كان هذا النوع الوسواسي برسم المستقبل هو الذي انتقده ماركس.

يعود التحفّظ لسبب آخر هو الشعور بأنّ الإفصاح عن الأفكار المتعلقة بالمؤسسات الاجتماعية المستقبليّة، يوازي قيام نوع من النخبوية التكنوقراطية بخنق المتحمسين الطوباويين في الحركة. لا تحدث التغييرات الاجتماعية العظيمة على الإطلاق دون أن تستلهم أعمالها البطولية من الحماسة، ونادراً ما تكون المحاولات المتأنية للتعامل مع المشاكل المادية للمجتمع بشكل واقعي مصدراً للإلهام. هذا ليس مانعاً تافهاً بأيّ حال من الأحوال، فإحدى أقدم المغالطات لدى بعض اليسار هي أنّ التغيير يحدث عندما يخرج شخصٌ ما بخطّة رائعة ذات بنود واضحة ويتدبّر أمر إقناع الجميع بعبقريتها.

ويبقى، رغم ذلك، أنّ على المشروع الراديكالي-الجذري الناجح مناشدة كلّ جزء عاطفي: ليس فقط تلك اللحظات الحماسية التي يُفتح فيها التاريخ ويبدو كلّ شيء ممكناً، بل أيضاً أثناء سريان تلك الأمزجة التأمليّة والناقدة التي تحوّل حتّى مدمني التفاؤل إلى متشككين ومتأنين. حتّى الكفاح من أجل تحديد العمل بثماني ساعات في اليوم، وهو الأمر الذي "بدا كأكبر الأفكار الطوباوية إثارة لاهتمام الثوريين الاشتراكيين في حينه" على حدّ تعبير إيلي هاليفي، قد دار في النهاية حول الإجراءات البيروقراطية، وتمّ تنفيذه من قبل الموجهين القانونيين ومفتشي المصانع.

ربّما كان السبب الجوهري في شكّ اليسار في هذه الرؤى هو أنّها غالباً ما قُدمت على أنّها نقطة نهاية التاريخ، والنقطة النهائية ستكون دوماً مخيبة للآمال. لطالما كانت الفكرة القائلة بأنّ التاريخ سيصل إلى مقصده النهائي حيث تختفي النزاعات الاجتماعية وتنتهي السياسة، خيالاً مضللاً لدى اليسار منذ نشأته. لا ينبغي أبداً النظر إلى سيناريوهات المستقبل على أنّها نهائية أو حتّى لا رجعة فيها. فبدلاً من اعتبارها مخططات لبعض الوجهات المستقبلية، من الأفضل أن نراها ببساطة على أنّها خرائط للطرق الممكنة، من أجل الخروج من المتاهة. ويقع على عاتقنا أن نقرر التالي فور خروجنا من المتاهة.

سأبدأ في هذه المقالة من الافتراض الاشتراكي بأنّ عيوب الرأسمالية الرئيسية تنشأ عن التناقض بين السعي لتحقيق الربح الخاص وبين السعي لإرضاء الاحتياجات البشرية. ثمّ سأتطرّق إلى بعض الاعتبارات التي يجب أخذها في الحسبان عند محاولة معالجة تلك العيوب.

الأمر الذي لا يثير اهتمامي هنا هو تحقيق التناغم النهائي والكامل بين مصالح الأفراد ومصالح المجموعة، أو تطهير الإنسانية من الصراع والأنانية. أسعى لأقصر خطوة تفصل المجتمع الذي نحن فيه الآن عن المجتمع الذي تكون فيه الملكية الأكثر إنتاجية عامّة. وليس هذا بهدف استبعاد تحقيق تغيير راديكالي-جذري، بل تماماً من أجل تحقيق ذلك.

ليس من الخطأ أن نفكّر بطريقة متماسكة وعمليّة بالكيفيّة التي يمكننا بها أن نحرر أنفسنا من المؤسسات الاجتماعية التي تسنّ حدوداً للمجتمع الذي يمكننا أن نحققه. نحن على يقين من شيء واحد فقط: إمّا أنّه سيتم استبدال النظام الحالي أو أنّه سيستمر للأبد.

 

- لا دول ولا أسواق:

ردّ الراديكاليون على نهاية "الاشتراكية القائمة" بشكل رئيسي بطريقتين: توقّف معظمهم عن الحديث عن عالم ما بعد الرأسمالية تماماً، وتراجعوا إلى سياسة متواضعة من الإصلاح الجزئي أو إلى المحلية أو إلى النمو الشخصي.

وكانت الاستجابة الأخرى معاكسة لذلك تماماً، وقد تجلّت في الهروب إلى الأمام إلى أنقى وأشدّ رؤى إعادة بناء المجتمع. لقد ازداد نفوذ هذه النزعة في بعض دوائر الراديكاليين في الآونة الأخيرة، أتكلم عن نزعة القفز إلى عالمٍ لا دول فيه ولا أسواق، وبالتالي لا نقود ولا أجور ولا أسعار. إلى نظام يتمّ فيه إنتاج البضائع بالمجان وتوزيعها بالمجان، حيث يُحكم الاقتصاد كليّة بالقول المأثور: "من كلّ واحد بحسب ما يستطيع، ولكلّ واحد بحسب ما يحتاج".

كلما أخذت هذه الأفكار بعين الاعتبار، كلّما تحوّل النقاش إلى الأسئلة الفلسفية الكبرى حول الطبيعة البشرية. يهزأ المشككون من الأمر لكون الناس بنظرهم أنانيون جداً كي ينجح مثل هذا النظام. ويجادل المتفائلون بأنّ البشر جنسٌ متعاون بطبيعته. يقدّم كلّ جانب أدلته لدعم حجاجه، ولكن من الأفضل ترك هذا النقاش جانباً. يبدو من الأفضل أن نفترض بأنّ البشر يظهرون مزيجاً من التعاون والأنانية، بنسب تتغيّر وفقاً لتغيّر الظروف.

تواجه الرؤية السامية لعالم لا دول فيه ولا أسواق عقبات، ليست أخلاقية بل فنيّة، ومن المهم أن ندرك بالضبط ما هي هذه العقبات.

علينا أن نفترض بأننا لا نرغب بالتراجع إلى مستوى أدنى من التطور الاقتصادي في المستقبل. نريد أن نتمتّع على الأقل بذات وسائل الراحة المادية التي لدينا في ظلّ الرأسمالية. يجب أن تتغيّر جميع الأشياء على المستوى النوعي بكل تأكيد بحيث يفي الإنتاج بالاحتياجات البشرية والبيئية الحقيقية بشكل أفضل، لكننا لا نريد أن نشهد انخفاضاً عامّاً في قوتنا الإنتاجيّة.

لكنّ نوع الإنتاج الذي نقدر عليه الآن يتطلب تقسيماً هائلاً ومعقداً للعمل، وهذا يضعنا أمام مشكلة مخاتلة. لكي نحصل على معنى ملموس لما يعنيه هذا الكلام، فكروا بالطريقة التي كان يعيش فيها الأميركيون في زمن "الثورة الأميركية": كان المواطن النموذجي يعمل في مزرعة عائلية صغيرة ومعزولة نسبياً. لقد أنتجت مثل هذه المزارع ما تستهلكه الأسرة إلى حدّ كبير، واستهلكت الأسرة ما تنتجه هذه المزارع. عندما كانوا يحظون بفائض صغير من المنتجات الزراعيّة، كانوا يبيعونه بالأرجاء ويشترون بالمال بعض الكماليات. إذاً لم يكونوا يعتمدون في غالب الأحيان على أشخاص آخرين كي يزودوهم بما يحتاجونه من أجل معيشتهم. 

قارن هذه الحال مع حالنا. ليس فقط باعتمادنا على الآخرين من أجل الحصول على بضائعنا، بل عن العدد الهائل للآخرين الذين نعتمد عليهم والذين ازدادت نسبتهم بشكل هائل.

انظر في الغرفة حولك وفكّر في الأشياء التي تملكها. فكّر الآن في عدد الأشخاص الذين اشتركوا في عملية إنتاجها. لنأخذ الكمبيوتر المحمول أمامي كمثال: يحتوي على شاشة وعلى هيكل وعلى مشغل أقراص وعلى معالج صغير الحجم. لقد تمّت صناعة هذه القطع في مصانع مختلفة على الغالب، ويحتمل أنّ ذلك تمّ في دول متعددة، وعن طريق شركات مختلفة تستخدم المئات أو الآلاف من العمّال. ثمّ فكّر في البلاستيك الخام والمعدن والمطاط الذي دخل في أجزاء الكمبيوتر، وفي جميع الناس الذين شاركوا في إنتاجهم. أضف إليهم صانعي الوقود الذي شغّل المصانع وأطقم سفن النقل وأسطول الشاحنات التي أوصلت الكمبيوتر إلى وجهته. ليس صعباً تخيّل ملايين الناس الذين شاركوا في إنتاج هذه القطعة الموجودة على مكتبي، حيث يؤدي كلّ فرد جزءاً صغيراً جداً من الخطوات المنفصلة، التي تشكل في مجموعها المليون مهمّة اللازمة لإتمام كامل عملية الإنتاج.

كيف عرف كلّ هؤلاء ما عليهم فعله؟ بالتأكيد معظم هؤلاء هم عمّال أبلغهم رؤسائهم بما يجب القيام به. لكن كيف عرف رؤسائهم كميّة البلاستيك اللازمة لينتجوها؟ كيف عرفوا بأنّ من النافع إنتاج البلاستيك الهشّ والليّن من أجل شركة الكمبيوتر، رغم أنّهم سيكونون سعداء لو أرسلوا البلاستيك المتين عالي الجودة المخصص لصانعي معدات المستشفى؟ وكيف قرّر هؤلاء الصانعون بأنّه من الأفضل استخدام موارد إضافية من أجل تزويد أجهزة الكمبيوتر المحمولة بشاشات من الكريستال المذوّب بدلاً من الاقتصاد والاستمرار في صناعة شاشات أشعة الكاثود القديمة والأبسط؟

إنّ العدد الكلي لمثل هذه المعضلات هو لا نهائي من الناحية العملية في الاقتصاد الحديث لوجود ملايين المنتجات المختلفة ومليارات العاملين والمستهلكين. ويجب حلّها جميعها بطريقة متسقة على الصعيد العالمي، لأنّه في أيّ لحظة قد يكون هناك عددٌ كبيرٌ جدّاً من العمّال والآلات في الأرجاء، لتعني صناعة المزيد من شيء ما صناعة الأقل من شيء آخر. يمكن جمع الموارد لتشكل عدداً لا متناهياً من الأشياء الخاضعة للتحويل: قد يلبي بعضها احتياجات المجتمع المادية ويصبح مرغوباً بشكل جيّد، بينما يصبح بعضها كارثياً ويحتوي على كمية هائلة من عمليات الإنتاج غير المرغوبة، فيتم إهمال إنتاج الكثير من الأشياء المرغوبة. من الناحية النظرية: يمكن الوصول إلى أيّ درجة من النجاح.

هذه هي مشكلة الحساب الاقتصادي. تؤدي الأسعار في ظل اقتصاد السوق هذه الوظيفة. وسبب قدرة الأسعار على الاضطلاع بهذه المهمة هي أنّها تنقل معلومات منهجية متعلقة بكمّ الأشياء التي يكون الناس على استعداد للتخلي عنها من أجل الحصول على أشياء أخرى محلّها، وذلك في ظلّ مجموعة معينة من الظروف. عندما يطلب إلى الناس أن يتخلوا عن شيء واحد في سبيل الحصول على شيء آخر، تتولّد عن ذلك معلومات كميّة حول القيمة النسبية التي يقدّر فيها الناس ذلك الشيء. يمكن للمنتجين الذين يشكلون جزءاً من شبكة الإنتاج الكبرى، أن يتخذوا قرارات عقلانية متعلقة بالمدى الذي يجب لمساهمتهم الدقيقة أن تشكّله في النظام الكلي، وذلك فقط عبر معرفة القيمة النسبية التي يضعها الناس لملايين الأشياء المختلفة.

لا يعني أيّ من هذا بأنّه يمكن للحساب أن يتمّ عبر الأسعار وحدها، أو أنّ الأسعار المتولدة في السوق هي مثالية أو نموذجية بأيّ شكل. ولكن ليس هناك من طريقة يمكن فيها للنظام اللا مركزي أن يولّد وينشر باستمرار كلّ هذه المعلومات الكميّة دون استخدام الأسعار بطريقة ما. ليس علينا بكل تأكيد أن نرضى بنظام لا مركزي. يمكننا أن نحظى باقتصاد مخطط بشكل مركزي، حيث يناط اتخاذ جميع أو معظم قرارات الإنتاج في المجتمع بمخططين محترفين يجلسون إلى أجهزة كمبيوتر. ستكون مهمتهم بالغة التعقيد وأداؤهم غير مؤكد. لكن على الأقل سيزودنا مثل هذا النظام ببعض أساليب الحساب الاقتصادي: سيحاول المخططون أن يجمعوا كامل المعلومات الضرورية في قسم مركزي، ثمّ يوزعون ما يجب على الجميع أن يقوموا به.

إذاً على شيء ما أن يؤدي وظيفة الحساب الاقتصادي التي تقوم بها الأسعار في النظام السوقي ويقوم بها المخططون في نظام التخطيط المركزي. لقد أجريت في واقع الأمر محاولة لإظهار ما سيكون المطلوب للحساب الاقتصادي في عالم دون دول أو أسواق. قام الناشط الأناركي-الفوضوي مايكل ألبرت والاقتصادي روبن هاهنيل بابتكار نظام سمياه "الاقتصاد التشاركي"، يتمّ فيه تنسيق القرارات التي يتخذها كلّ فرد بحريّة بشأن الإنتاج والاستهلاك عن طريق خطّة واسعة على نطاق المجتمع، تتمّ صياغتها من خلال عملية "تشاركية" ليس فيها بيروقراطية مركزية.

تشكّل باريكون، وهذا هو اسمها، ممارسة مثيرة للاهتمام لتحقيق أغراضنا، لأنّها تفعّل بدقّة ما يحتاجه بالضبط تشغيل مثل هذا الاقتصاد "الأناركي". والحلّ هو تقريباً كما يلي: يجب على الجميع في بداية كلّ عام أن يكتبوا لائحة تحوي المواد التي يخطط لاستهلاكها خلال العام، ومعها كمية كلّ مادة. بكتابة هذه اللائحة، يساهم الجميع بوضع سعر مبدئي لكلّ مادة في الاقتصاد (تذكروا بأنّ فئة "المطبخ والعشاء" في موقع أمازون تحوي مليوني منتج)، ولا يجوز أن تتجاوز القيمة الكليّة لطلبات الشخص "الميزانية الشخصية" التي تحددها كمية العمل الذي يعد بإنجازه في ذلك العام.

وبما أنّ الأسعار المبدئية ليست سوى تقديرات أوليّة، فإنّ على شبكة من المجالس الديمقراطية المباشرة أن تُدخل قوائم الاستهلاك وتعهدات العمل للجميع على الكمبيوتر، من أجل توليد مجموعة محسّنة من الأسعار التي من شأنها أن تحقق مستويات مخططة من الإنتاج والاستهلاك (عرض وطلب) تكون أقرب للتوازن. يتمّ الآن نشر قائمة بالأسعار المحسنة الناتجة، ويبدأ تكرار العملية من جديد. يجب الآن على الجميع إعادة كتابة قوائم الاستهلاك وتعهدات العمل من جديد، وذلك وفقاً لقائمة الأسعار الجديدة. يتم إعادة كامل الإجراء عدّة مرّات حتّى يتمّ موازنة العرض والطلب في النهاية. يصوّت الجميع بعد ذلك من أجل الاختيار بين عدّة خطط محتملة.

يقوم ألبرت وهاهنيل بسرد هذه العملية بشكل روائي بغية إظهار مدى جاذبية وملائمة نظامهم. لكن بالنسبة لكثير من الناس، وأشمل نفسي بينهم، فإنّ أثرها معاكس تماماً. فهي تظهر لماذا لا يمكن للحساب الاقتصادي أن يعمل في غياب الأسواق أو تخطيط الدولة من الناحية العملية، بغض النظر عن عدم استحالته من الناحية النظرية. وتشكّل "باريكون" نفسها حلاً مساوماً من وجهة النظر الأكثر نقاءً، حيث أنّها تنتهك مبدأ "من كلّ واحد بحسب قدرته، ولكلّ واحد بحسب حاجته" عندما لا تسمح للأفراد أن يتجاوزوا في طلبات استهلاكهم تعهدات عملهم. لكنّها إن لم تعتمد هذا الحل فلن يكون وجودها منطقياً.

لا تكمن القضية في أنّ اقتصاداً واسعاً دون دولة أو سوق "لن يعمل". بل بأنّه في غياب بعض آليات التنسيق مثل آلية ألبرت وهاهنيل، فلن يوجد هذا الاقتصاد بالأساس. وبالتالي فإنّ مشكلة الحساب الاقتصادي هي أمر علينا أن نأخذه بشكل جدّي إن أردنا تدبّر شيء أفضل من الوضع الراهن.

 

- الاقتصاد المركزي المخطط:

لكن ماذا عن البديل الآخر؟ ما المانع من اقتصاد مخطط مركزياً يتم فيه تسليم مهمة الحساب الاقتصادي لخبراء جمع المعلومات؟ أولئك الذين يخضعون للمساءلة ديمقراطياً كما نأمل. لدينا بالفعل أمثلة تاريخية على هذا النوع من النظام برغم بعيده عن الديمقراطية. سجّلت الاقتصادات المخططة مركزياً بعض الإنجازات: عندما جاءت الشيوعية إلى البلدان الفقيرة الزراعية مثل بلغاريا ورومانيا، تحوّلت هذه البلدان إلى التصنيع بسرعة وقضت على الأميّة ورفعت مستويات التعليم وعصرنت أدوار الجنسين وضمنت في النهاية حصول معظم السكان على السكن الأساسي والرعاية الصحية. ويمكن للنظام أن يرفع حصّة الفرد من الإنتاج بسرعة كبيرة، لنقل من مستوى لاوس إلى البوسنة اليوم، أو من مستوى اليمن إلى مستوى مصر.

لكن وقع هذا النظام في مشكلة أبعد من ذلك. يجب تثبيت ملاحظة هنا: لأنّ اليمين النيوليبرالي لديه عادة قياس نجاح مجتمعٍ ما عبر وفرة البضائع الاستهلاكية فيه، فإنّ اليسار الراديكالي عرضة للانزلاق في موقف إنكار هذا الشيء بأنّه غير ذي صلة سياسياً على الإطلاق. هذا خطأ. المشكلة في رفوف السوبرماركت الممتلئة أنّها معيار غير كافي وليس أنّها أمر تافه أو غير مرحب به. لم تكن ندرة ورداءة وتماثل البضائع التي شهدها مواطنو الدول الشيوعية مجرّد إزعاجات بسيطة، بل هي خرقٌ لحقوقهم الأساسيّة. فكما كتب اختصاصي في علم الإنسان من المجر الشيوعية: "لقد كان يُنظر إلى السلع المنتجة في الدول الاشتراكية... كدليل على فشل الحداثة العصرية في الدولة الاشتراكية. ولكن الأهم من ذلك هو النظر إليها كدليل على إهمال النظام ومعاملته (غير الإنسانية) لمواطنيه".

في الواقع، لطالما نُظر إلى رثاثة إمدادات المستهلكين على أنّها خيانة للرسالة الإنسانية التي تحملها الاشتراكية نفسها. يقتبس مؤرخٌ من ألمانيا الشرقية الالتماسات التي قدّمها المستهلكون العاديون للدولة: "إنّ الأمر لا يحمل روح الإنسان بوصفه أساساً للمجتمع الاشتراكي، عندما يكون عليّ أن أدّخر لسنوات من أجل الحصول على سيارة ترابانت، ثم لا أتمكن من استخدامها بسبب النقص في قطع الغيار". وكتب آخر: "عندما نقرأ في الصحافة الاشتراكية: (التلبية القصوى لاحتياجات الشعب... الخ) ... و(كلّ شيء لمنفعة الشعب)، يجعلني هذا الأمر أشعر بالإعياء". استخدم المواطنون في مختلف أنحاء أوروبا الشرقية، وبمختلف اللغات، تعبيرات متطابقة تقريباً لوصف السلع المتدنية التي تمّ "رميها" إليهم.   

من المواد التي أصبحت غير متوفرة في المجر في أوقات مختلفة بسبب الفشل في التخطيط: "أدوات المطبخ المستخدمة من أجل صنع الشعيرية المجرية" و"مقابس الحمام التي تلائم أنابيب الخزانات ورفوف مستحضرات التجميل وصندوق التوصيلات الكهربائية اللازمة لشقق الأبنية الجديدة". وكما اشتكى أحد محرري الصحف المحلية في الستينيات بأنّ هذه الأشياء: "لا تبدو مهمة حتّى اللحظة التي نحتاجها، وفجأة تصبح مهمة جداً".

أمّا على المستوى التراكمي، فتُظهر أفضل التقديرات بأنّ البلدان الشيوعية قد تراجعت بشكل مطّرد عن أوروبا الغربية: فحصّة الفرد من الدخل في شرق ألمانيا، والذي كان أعلى بقليل من الدخل في أقاليم ألمانيا الغربية قبل الحرب العالمية الثانية، لم تتعافى مطلقاً بشكل نسبي في السنوات التي تلت الحرب، وفقدت قاعدتها ابتداء من عام 1960. لقد بقيت في أواخر الثمانينيات أقلّ من مستوى ألمانيا الغربية بنسبة 40%.

خلافاً للاقتصاد الخيالي حيث لا دول ولا أسواق، فقد حظيت الاقتصادات الشيوعية بآلية حساب اقتصادي. لكن لم ينجح الأمر كما تمّ الإعلان عنه، فما هي المشكلة؟

كانت الإجابة بسيطة بالنسبة لمعظم الاقتصاديين الغربيين: كانت الآلية خرقاء جداً. لقد كانت المشكلة في هذا السياق متّصلة بما يدعى "باليد الخفية"، وهي العبارة التي استخدمها آدم سميث بشكل عرضي، والتي أعاد الكتّاب في وقت لاحق استخدامها لإعادة تفسير رؤيته بخصوص دور الأسعار والعرض والطلب في تخصيص السلع. استعان سميث في الأصل بنظام الأسعار لشرح سبب إظهار اقتصادات السوق لشكل من النظام عوضاً عن الفوضى. كمثال: إمكانية العثور عادة على أيّ سلعة مطلوبة بشكل ملائم للبيع حتّى عند عدم وجود سلطة مركزية تشرف على إنتاجها.

تمّ إضفاء الصفة الرسمية على أفكار سميث عبر مؤسسي الاقتصاد "الكلاسيكي الجديد" في أواخر القرن التاسع عشر، الاصطلاح الذي كانت طموحاته التفسيرية أكبر بكثير. لقد دونوا معادلات تظهر المشترين والبائعين كقوّة محركة للعرض والطلب: تنخفض الأسعار عندما يتجاوز العرض الطلب في سوق معينة، وترتفع عندما يتخطى الطلب العرض. وعندما يتساوى العرض والطلب تكون السوق في حالة "توازن" ويُقال عن السعر بأنّه: "سعر التوازن".

أمّا بالنسبة للاقتصاد ككل، بأسواقه المتداخلة والمتشابكة، فقد كان عليه الانتظار حتّى عام 1954 حين خرج حائزا جائزة نوبل المستقبليين كينيث آرو وجيرارد ديبرو بما تمّ التهليل له على أنّه اكتشاف هام على مستوى النظرية: "التوازن العام". وهو الاكتشاف الذي يقول عنه جيمس توبين: "يقع في جوهر الأساس العلمي للنظرية الاقتصادية". لقد أثبتا بشكل رياضي بأنّه في ظلّ افتراضات محددة، تضمن الأسواق الحرّة توليد مجموعة من أسعار التوازن المحتملة التي يمكن لها أن توازن العرض والطلب في جميع الأسواق بوقت واحد. وسيكون تخصيص البضائع الناتج عن ذلك هو "الأمثل"، وذلك في حدود معنى مهمّ واحد هو: لا يمكن لأحد أن يكون أفضل حالاً دون أن يجعل شخصاً آخر أسوأ حالاً.

العبرة التي يمكن استخلاصها من هذه النتيجة هي أنّ الأسعار ليست مجرّد أدوات للاقتصاد السوقي، تستخدم من أجل خلق درجة معينة من النظام والعقلانية. بل إنّ الأسعار التي تولدها السوق، إن كانت تلك الأسواق مفتوحة وغير مقيّدة، هي الأمثل، وتؤدي إلى أقصى فاعلية في تخصيص الموارد. إذاً: إن كان النظام الشيوعي غير ناجح، فالسبب بالنسبة لأصحاب هذا المذهب يعود لكون آلية التخطيط الخرقاء وغير المعصومة لم تستطع الوصول إلى الحل الأمثل.

لقد تمّ ترديد هذه الرواية بأعمق غرائز الاقتصاديين المهنية. تتقصّد القصص المصاغة بعناية في كتب الاقتصاد المدرسيّة التي تشرح سبب كون التحكم في الحدّ الأدنى من الأجور أو الاستئجار يجعلان من الجميع أسوأ حالاً، أن تظهر بأنّ العرض والطلب يفرضان الأسعار من خلال منطق أسمى من أن يخاطر البشر الفانون بتحديه. هذه القصص هي تحليلات "توازن مجتزئ"، فهي تظهر فقط ما يحدث في سوق فردية عُزلت بشكل مصطنع عن جميع الأسواق المحيطة بها. لقد أراد آرو وديبريو أن يثبتا بأنّ هذا المنطق يمتدّ إلى الاقتصاد ككل، مع جميع أسواقه المتشابكة. بكلمات أخرى: لقد كانت نظرية التوازن العام محاولة لإثبات أنّ أسعار السوق المفتوحة ستقود الاقتصاد ككل إلى أقصى فاعلية له.   

ولهذا عندما توجّه الاقتصاديون الغربيون إلى الكتلة السوفييتية السابقة بعد عام 1989 للمساعدة في توجيه التحوّل عن الاشتراكية، كان شعارهم الأساسي الذي رددوه بلا نهاية: "الحصول على أسعار صحيحة".

 

- المي بتكذب الغطّاس:

لكنّ كمّاً كبيراً من الأدلة المناقضة لهذا الادعاء قد تراكمت في هذه الأثناء. فقد نشر الاقتصادي بيتر موريل، في الوقت الذي انهار فيه الاتحاد السوفييتي، مقالاً في صحيفة "وجهات نظر اقتصادية" يستعرض فيه الدراسات التجريبية عن الفاعلية في الاقتصادات ذات التخطيط المركزي. فشلت هذه الدراسات بشكل مستمر في دعم التحليل الكلاسيكي الجديد: لقد وصلت جميع هذه الدراسات، وباستخدام المعايير الكلاسيكية الجديدة، إلى أنّ الاقتصادات ذات التخطيط المركزي قد أدّت إمّا بشكل مساوي أو أفضل من اقتصادات السوق.

دعا موريل القرّاء إلى وضع أحكامهم المسبقة جانباً:

«سوف تفاجأ متانة ومضامين النتائج الكثير من القراء، فقد كنت أنا نفسي، ولا زلت، متفاجئاً من طبيعة هذه النتائج. وتبعاً لعدم توافقها مع المذاهب المتعارف عليها، فإنّ هناك ميلاً لعزلها على أسس منهجية. لكن مثل هذا العزل يصبح أصعب بشكل متزايد عندما تواجه تراكماً في النتائج الثابتة من مصادر متنوعة».

لقد استعرض في البدء ثمانية عشرة دراسة عن الفاعلية التقنية: أي الدرجة التي تنتج فيها المؤسسة أقصى طاقتها مقرونة بالمستوى التكنولوجي الخاص بها. لقد قارن دراساتٍ عن المؤسسات ذات التخطيط المركزي مع دراسات عن الشركات الرأسمالية باستخدام ذات المنهجية، ثمّ قارن النتائج. وجدت إحدى الأوراق البحثية على سبيل المثال بأنّ الفاعلية التقنية في الشركات الرأسمالية تصل مستوى 90%، بينما وجدت ورقة بحثية أخرى تستخدم ذات المنهاج بأنّ المؤسسات السوفييتية كانت تصل في فاعليتها التقنية إلى مستوى 93%. وتستمرّ النتائج على ذات المنوال: 84% مقابل 86%، و87% مقابل 95% ...الخ.

ثم قام موريل بفحص دراسات عن فاعلية التخصيص: أي درجة توزيع المدخلات بين المؤسسات بشكل يعظّم الناتج الكلي. وجدت إحدى الأوراق البحثية بأنّ إعادة التوزيع الأمثل للمدخلات كانت لتزيد الناتج الكلي السوفييتي بنسبة 3% إلى 4%. ووجدت دراسة أخرى بأنّ رفع الفاعلية السوفييتية وفقاً للمعايير الأمريكية كان ليزيد الناتج القومي الإجمالي بنسبة 2%. أظهرت دراسة ثالثة بأنّ التقديرات هي 1.5%. إنّ أعلى رقم وجد لدى الدراسات عن المؤسسات السوفييتية كان 10%. لاحظ موريل بأنّ هذه الأرقام: "ما كانت لتشجّع على الإطاحة بكامل النظام الاقتصادي-الاجتماعي". لم يكن موريل هو الاقتصادي الوحيد الذي لاحظ شذوذ ما حدث، فقد ظهرت عدّة مقالات تتناول (لماذا فاعلية التخصيص الاقتصادي السوفييتي عالية؟) من مجمل الدراسات السوفييتية في ذلك الوقت.

اختبر عالما اقتصاد جزئي ألمانيان فرضية "مقبولة على نطاق واسع" تنصّ على أنّ: "الأسعار في الاقتصاد المخطط هي "نسب مجموعة تبادل اعتباطية لا علاقة لها بالندرة النسبية أو بالتقييمات الاقتصادية، في حين أنّ أسعار السوق الرأسمالية قريبة إلى مستويات التوازن". استخدما تقنية لتحليل توزيع مدخلات الاقتصاد بين الصناعات، من أجل قياس مدى اختلاف هذا النمط عن النمط المتوقع أن يسود في ظلّ أسعار الكلاسيكية الجديدة الأمثل. وصلا عند فحصهما لبيانات ألمانيا الشرقية والغربية من عام 1987 إلى "نتائج مذهلة": كان الفارق بين 16.1% في الغربية و16.5% في الشرقية ضئيلاً. كما كتبا: "الفجوة في صالح الغربية التي كانت أعظم في قطّاع التصنيع، حيث أنّ ظروفاً كالتنافسية ربّما لعبت دوراً". لكن في كتلة اقتصاد ألمانيا الغربية، حيث كان التهليل له على نطاق عالمي لتشكيله "النموذج الألماني"، كان هناك احتكارات وضرائب وإعانات ... الخ، تركت هيكل الأسعار أبعد عن "الفاعلية" الأمثل التي كانت سائدة في النظام الشيوعي المحتضر خلف جدار برلين.

بدا أيضاً بأنّ النموذج الكلاسيكي الجديد قد ارتبط بتجارب فاشلة إلى حدّ كبير بقرنه بنسخ الاشتراكية التي تمّ إدخال السوق إليها في أوروبا الشرقية. كان الاقتصاديون والمثقفون الإصلاحيون في المنطقة يدفعون بدءاً من الخمسينيات تجاه إدخال الآليات السوقية من أجل عقلنة الإنتاج. تمّ تطبيق "الإصلاح" في عدد من البلدان بدرجات مختلفة من الجديّة، ومن بينها ربيع براغ الفاشل. لكنّ الدولة التي مضت أبعد ما يكون في هذا الاتجاه هي هنغاريا، التي دشنت "آليتها الاقتصادية الجديدة" في 1968. كانت لا تزال المؤسسات مملوكة للدولة، لكن كان يتوقع منها الآن أن تبيع وتشتري في السوق المفتوحة وأن تعظّم أرباحها قدر المستطاع. كانت النتائج مخيبة للآمال. فعلى الرغم من أنّ اقتصادها الاستهلاكي المهلهل في السبعينيات قد أكسبها لقب "أسعد ثكنة في الكتلة السوفييتية"، فإنّ نموّها الإنتاجي الضعيف لم يتحسن وبقي نقص الأشياء أمراً شائعاً.

إن كانت كلّ هذه الحقائق والنتائج تعطينا سبباً للشك في الرواية الكلاسيكية الجديدة، فإنّ هناك سبباً أكثر جوهرية: لقد اكتشفت الاقتصاديون فجوات واسعة في النظرية نفسها. ففي السنوات التي تلت صياغة آرو ودبريو لدليلهما الشهير على أنّه يمكن للأسواق المفتوحة في ظلّ ظروف مناسبة أن تولّد أسعاراً مثلى، كشف المنظرون (ومن بينهم دبريو نفسه) بعض السمات المقلقة للنموذج. لقد اتضح بأنّ هذه الاقتصادات الافتراضية قد ولّدت مجموعة متعددة من أسعار التوازن الممكنة، وليس هناك من آلية لضمان أنّ الاقتصاد سوف يستقر على واحدة منها دون المرور بدورات طويلة أو غير منتهية من الأخطاء والمحاكمات الفوضوية. الأسوأ من ذلك أنّ نتائج النموذج غير قادرة على الصمود أمام قدر كبير من الاستكانة لافتراضاتها الأوليّة غير الواقعية بشكل واضح. مثال: ليس هناك من داعٍ لتوقّع أيّ توازن على الإطلاق إن لم يكن هناك وجود لأيّة أسواق تنافسية على الإطلاق، وهو الأمر غير الموجود بشكل افتراضي في العالم الحقيقي.

وحتّى الحجّة الليبرالية التي تنصّ على أنّ "إخفاقات السوق" تبرر التدخل الحكومي، أي المفارقات المحددة التي تخرج عن افتراضات نموذج آرو-دبريو للسوق المثالية، تمّ تقويضها نتيجة اكتشافٍ آخر في خمسينيات القرن العشرين: "النظرية العامّة لأفضل ثانٍ" لريتشارد ليبسي وكيلفين لانكستر. تثبت النظرية أنّه حتّى لو تمّ قبول الافتراضات المثالية للنموذج المعياري، فإنّ محاولات تصحيح "إخفاقات الأسواق" و"التشوهات" (مثل التعرفة الجمركية وضوابط الأسعار والاحتكارات والعوامل الخارجية) ستجعل الأمور أسوأ بدلاً من جعلها أفضل، طالما بقيت إخفاقات السوق الأخرى قائمة غير مصححة – وهي الإخفاقات التي ستكون موجودة دائماً في عالم من المنافسة المختلّة المزمنة والمعلومات المحدودة.

خلُص الخبير الاقتصادي فرانك أكرمان في استعراض واسع النطاق لـ "فشل نظرية التوازن العام":

«تنتشر قصّة عن آدم سميث واليد الخفية وجدارة الأسواق في الكتب المدرسية وفي الفصل الدراسي وفي الخطاب السياسي المعاصر. يعتمد الأساس الفكري لهذه القصّة على التوازن العام... إن بات من الشائع أن يكون أساس قصّة الاقتصاد المفضلة للجميع غير سليم... فإنّ المهنة تدين إذاً للعالم بشيء من التفسير عن هذا».

المغزى: إن كانت القصّة المحتمة عن كون الأسواق المفتوحة تولّد أسعاراً مثلى وتؤدي إلى تحقيق قدرٍ أقصى من الناتج، غير قابلة للتطبيق بعد الآن، فلا يمكن إرجاع سبب فشل الاقتصادات المخططة إلى غياب هذه الميزات. فمع انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بدأ الاقتصاديون الذين فقدوا الثقة في الرواية الكلاسيكية الجديدة يجادلون بالحاجة إلى تفسير بديل. كان جوزيف ستيغليتز هو أبرز منظري هذه المجموعة، والذي أشتهر بعمله في اقتصاد المعلومات. انسجم حجاجه مع حجاج المنشقين عن النهج الكلاسيكي الجديد من أمثال الباحث المجري البارز في الاقتصادات المخططة يانوس كورناي، واقتصاديين تطوريين من أمثال بيتر موريل.

أشاروا جميعاً إلى عدد من الخصائص التي تجاهلتها إلى حدّ كبير المدرسة الكلاسيكية الجديدة، والتي يتم الاعتماد عليها لتبيين قدرة اقتصادات السوق على تجنّب المشاكل التي تعاني منها الأنظمة المخططة مركزياً. كانت الجوانب التي أكدوا عليها متباينة، ولكنهم جميعاً انطلقوا من حقيقة واحدة بسيطة: الشركات مستقلة في أنظمة السوق.

 

- الشركات المستقلّة:

يعني هذا بأنّه يمكن للشركات، في حدود القانون، أن تدخل السوق، وتختار منتجاتها وأساليب إنتاجها، والتفاعل مع الشركات والأفراد الآخرين، ويجب أن يتم إغلاقها إن لم تستطع التعامل مع مواردها الخاصّة. وكما يصاغ الأمر في الكتاب المدرسي عن التخطيط المركزي: يُفترض في أنظمة السوق "أنّه يمكن المباشرة بأيّ نشاط ما لم يكن محظوراً"، بينما في أنظمة التخطيط "فإنّ الافتراض السائد في معظم المجالات الاقتصادية هو أنّه لا يمكن المباشرة بنشاط ما دون الحصول على إذن من السلطة المختصة". إنّ هذا التأكيد الكلاسيكي-الجديد الذي يضمن ممارسة الشركات لاستقلاليتها في بيئة من عدم التدخل، أي التقليل من القيود المفروضة على التبادل الطوعي أو إزالتها، هو أمرٌ غير ذو صلة بالموضوع.

إذاً يعني الوصول الحر والمصادر المستقلّة المتنوعة لرأس المال بأنّه بإمكان أيّ أحد يملك أفكاراً إنتاجيّة جديدة أن يسعى للحصول على الموارد اللازمة لتنفيذ أفكاره دون أن يواجه أيّ اعتراض من داخل جهازٍ للتخطيط. وكنتيجة لذلك فسيصبح لدى المرء فرصة أكبر بكثير للحصول على الموارد لاختبار أفكاره. ومن المحتمل أن يؤدي هذا إلى مزيد من تراكم المحاولات الفاشلة، ولكن أيضاً إلى مجال أكبر لتحسين المنتجات والعمليات، وإلى معدلات أكبر باستمرار للتحسين التكنولوجي والنمو الإنتاجي.

فاستقلالية الشركات في اختيار منتجاتها وأساليب إنتاجها تعني بأنّه يمكنها أن تتواصل مباشرة مع العملاء وأن تخصّص مخرجاتها لتلبية احتياجاتهم، ويمكن للعملاء أن يختاروا بحريّة من بين منتجات عدّة منتجين. لا تحتاج إلى وكالة تعمل كوسيط لتوضّح لك ما ترغب بإنتاجه. يستشهد ستيغليتز من أجل إظهار الكفاءة المعلوماتية النسبية لنظام من هذا النوع بعقد مع وزارة الدفاع على كنزات قطن بيضاء عادية: احتوت لائحة أوصاف المنتج المطلوب عند استدراج عروض الأسعار على وصف للمنتج مدرج في ثلاثين صفحة مطبوعة بخطّ صغيرة جداً. بعبارة أخرى: لا يمكن لوكالة مركزية أن تتعلّم، وبالتالي لا يمكنها تحديد كلّ سمة مطلوبة في كلّ منتج تريده.

في هذه الأثناء، أدرك خبراء الاقتصاد في أوروبا الشرقية بأنّ الشرط المسبق الأساسي لكي تكون المؤسسة مستقلة بحق هو وجود سوقٍ لرأس المال – وهذا ساعد على تفسير سبب فشل هنغاريا في الإصلاحات الموجهة نحو السوق. وقد حدد الخبير الاقتصادي المجري يانوس كورناي، أثناء محاولة الوصول إلى تفسير لاستمرار النقص في ظلّ نظام السوق الجديد، ظاهرة أطلق عليها اسم "قيود الميزانية الناعمة": وهي الحالة التي تحوّل فيها الدولة الموارد باستمرار إلى الشركات الخاسرة من أجل إيقاف فشلها. قال كورناي بأنّ هذه الظاهرة هي التي تكمن وراء مشكلة النقص في هنغاريا: فالمؤسسة تعمل بشكل عملي دون قيود على الميزانية، فهي تتوقّع أن يتمّ إنقاذها من الإفلاس، وعليه فإنّها تمارس طلباً لا حدود له على المواد والبضائع الرأسماليّة، ممّا يسبب معوقات إنتاجية مزمنة.   

لكن لماذا استمرت الدولة بإنقاذ الشركات المتقلقلة؟ فالسلطات الهنغارية لم تكن تعارض فشل الشركات من حيث المبدأ. لقد تعامل القادة الشيوعيون مع حالات الإفلاس في الواقع بوصفها أحداث علاقات عامّة، أظهروا من خلالها التزامهم بنظام العقلنة الاقتصادي.

لقد كان الجواب النهائي هو غياب سوق رأس المال. ففي اقتصاد السوق يمكن للشركة المتقلقلة أن تبيع جزءاً من عملياتها أو كلّها إلى شركة أخرى. أو بإمكانها أن تسعى للحصول على رأس مال من المقرضين أو المستثمرين إن استطاعت إقناعهم بالقدرة على تحسين أدائها. لكن في غياب سوقٍ لرأس المال، كانت الخيارات العملية الوحيدة هي إمّا الإفلاس أو الإنقاذ. وعمليات الإنقاذ المستمرة كانت الثمن التي اضطرت القيادة المجرية إلى دفعه لتجنب نسب إخفاقات مؤسساتي عالية وخطرة. بعبارة أخرى: توفّر أسواق رأس المال طريقة منطقية للتعامل مع الاضطراب الناجم عن قيود الميزانية الصلبة لأنظمة السوق: عندما تحتاج مؤسسة ما إلى إنفاق أكثر من دخلها فبإمكانها أن تتجه نحو المقرضين والمستثمرين. لكنّ هذا الخيار مغلق من دون سوقٍ لرأس المال.

ومع ازدياد المقاومة ضد الشيوعية، استطاع أولئك الذين يودون تجنب التحوّل إلى الرأسمالية أن يستخلصوا الدروس المناسبة. نشر الاقتصاديان الإصلاحيان البولنديان المنشقان وودزيميرز بروس وكازيميرز لاسكي عام 1989، وكلاهما اشتراكيان مؤمنان، كتاباً يدرسان فيه آفاق إصلاح أوروبا الشرقية. لقد كان كلاهما من المصلحين المؤثرين المؤيدين للإصلاحات الديمقراطية وآليات السوق الاشتراكية منذ خمسينيات القرن العشرين.

وقد استنتجا بأنّه وللحصول على اشتراكية سوقية عقلانية، يجب أن تصبح الشركات المملوكة للقطاع العام مستقلة، وهذا يتطلب وجود سوق رأس مال اشتراكي. أوضح واضعا التقرير بأنّ هذا يستلزم إعادة هيكلة جوهرية للاقتصاد السياسي في نظم أوروبا الشرقية، وبالتأكيد للمفاهيم التقليدية للاشتراكية. لقد كتبا محددين رؤيتهما في عشية الاضطرابات التي أسقطت الشيوعية: "يجب فصل دور الدولة المالكة عن دور الدولة المسؤولة عن الإدارة... على الشركات أن تنفصل ليس عن الدولة بمفهومها الأوسع، بل عن بعضها البعض".

لقد كانت رؤية بروس ولاسكي أمراً جديداً: مجموعة من الشركات المستقلة، مموّلة عبر عدد كبير من صناديق الاستثمار أو المصارف المستقلة، وتتنافس وتتفاعل جميعها في السوق. وتبقى مع ذلك جميعها مملوكة بشكل اجتماعي.

 

- العودة إلى الربح:

يمهّد كلّ ما سبق الطريق للسؤال الحرج عن الربح. هناك طريقتان للتفكير في الربح في ظلّ الرأسماليّة. فوفقاً للتفكير الماركسي: يحفّز البحث الرأسمالي الذي لا يكلّ عن الربح وتيرة النمو الاقتصادي ويعطيها شكلها، ممّا يجعله في نهاية المطاف "محرك النظام". لكنّه محرّك ضالّ واعتباطي يجب استبداله بشيء أكثر عقلانية وإنسانية. أمّا اقتصاديو الاتجاه السائد فينظرون إلى الربح ببساطة على أنّه إشارة تنسيق حميدة، ينشر المعلومات للشركات ولرجال الأعمال حول كيفيّة تلبية احتياجات المجتمع بأكبر قدر من الفاعلية.

كلّ واحد من هذين الرأيين يحوي على شيء من الحقيقة. لننظر إلى دعاوى التيّار السائد. منطقه مباشر: تشكّل أرباح الشركة القيمة السوقية للمنتج الذي تبيعه، ناقصاً قيمة المدخلات التي اشترتها. ولذلك فإنّ السعي لتحقيق الربح يقود الشركات إلى إنتاج أكبر قدر ممكن من المنتجات المرغوبة اجتماعياً أثناء التقتير في استخدام المدخلات النادرة. يعدّ الربح وفقاً لهذا المنطق أداة التنسيق المثالية.

لكنّ هذا المنطق يخدم هدفه إلى الحدّ الذي تكون فيه قيمة المادة السوقية هي المقياس الجيّد لقيمتها الاجتماعيّة. هل هذا الافتراض قابل للحياة؟ يعرف اليساريون ما يكفي لنقض هذه الفكرة. إنّ تاريخ الرأسماليّة هو خلاصة للبضائع التي أسيء تقدير قيمتها. يستخدم الرأسماليون مجموعة كبيرة من الحيل والمناورات من أجل تضخيم القيمة السوقية للمنتجات التي يبيعونها (عبر الإعلانات مثلاً) ويخفضون قيمة المدخلات التي يشترونها (عبر العمالة غير الماهرة مثلاً). لكنّ الأمر لا يقتصر على هذا فقط، فالرأسماليّة نفسها تنتج بشكل منهجي أسعار البضائع الأساسية التي لا علاقة منطقية تربطها بقيمتها الاجتماعية الحديّة: فكّر فقط بالتأمين الصحي وبالموارد الطبيعية وبنسب الفائدة وبالأجور.

إذاً إن كان الربح إشارة، فهي تأتي دوماً مختلطة بالكثير من التشويش. ومع ذلك فإنّها تبقى إشارة هامّة. فملايين السلع في الاقتصاد ليست مثل التأمين الصحي أو الموارد الطبيعية. إنّها مجرّد أشياء مملّة: مثل الرباط المطاطيّ أو الصفائح المعدنية أو أجهزة التلفاز ذات الشاشات المسطحة. يبدو بأنّ الأسعار النسبية لهذه السلع تعمل بشكل لائق للدلالة على قيمتها الاجتماعية الحديّة النسبية. عندما يتعلق الأمر بهذا الجزء من مدخلات ومنتجات الشركات – مثال: شركة الصلب التي تشتري الحديد وتبيعه صلباً مصنعاً – فإنّ السعي نحو الربح يجعل الرأسماليين يريدون إنتاج الأشياء التي يرغبها الناس بأكثر طريقة فاعلة ممكنة. إذاً السلع الأساسية التي يساء تقدير قيمتها – مثل العمالة والطبيعة والمعلومات والتمويل والمخاطر ...الخ – هي التي تنتج اللا عقلانية في الربح.

بعبارة أخرى: يمكن للشركات في ظلّ الرأسمالية أن تزيد أرباحها عبر إنتاج الأشياء التي يريدها الناس بفاعلية، ولكن يمكن أن تزيد أرباحها أيضاً عن طريق إفقار عمّالها أو إفساد البيئة أو الاحتيال على المستهلكين أو إغراق السكان بالدين. كيف يمكننا الحصول على واحدة دون الاضطرار للتعرض للأخرى؟

 

- الديمقراطية الاجتماعية والتناقض:

الإجابة النموذجية على هذه المعضلة هي ما يمكن أن نسميه بالحل الديمقراطي الاجتماعي: فليسمح للشركات بتحقيق أرباحها الخاصة، ولكن على الدولة أن تتدخل في كل حالة على حدة لمنعها من تحقيق ذلك بطرق ضارّة اجتماعياً. عبر حظر التلويث وإعطاء العمّال حقوقهم ومنع الاحتيال على المستهلكين وقمع المضاربة. يجب إيلاء جدول الأعمال هذا أهمية استثنائية. لقد رآه المنظر الاجتماعي كارل بولاني كجزء ممّا أسماه "الحركة المزدوجة" الطويلة التي كانت جارية منذ الثورة الصناعية. وقد جادل بولاني بأنّ الرأسمالية الليبرالية كانت دوماً تدفع باتجاه تحويل كلّ شيء إلى سلعة. ولأنّ الأمر يتطلّب أن يكون الإنتاج "منظماً عبر آلية للتنظيم الذاتي للمقايضة والتبادل" فقد سعت "لإدخال الإنسان والطبيعة في مدار الإنتاج. يجب أن يخضعا للعرض والطلب، وأن يتمّ التعامل معهما كسلعة، وكبضائع معدّة للبيع".

لكن لطالما أنتجت حركة التسليع هذه نقيضها الجدلي، وهي التحركات المضادّة من المجتمع من الأسفل، والتي تسعى إلى مناهضة التسليع. وهكذا فإنّ حركة بولاني المزدوجة كانت "أفعال اعتقادين تنظيميين في المجتمع، يضع كلّ منهما لنفسه أهدافاً مؤسساتيّة محددة، ويحظى بدعم قوى اجتماعية معينة، ويستخدم أساليبه المميّزة":

«المعُتقد الأول كان الليبراليّة الاقتصاديّة الذي يهدف لإنشاء سوق ذاتي التنظيم، معتمداً على دعم الطبقات التجاريّة، ومستخدماً أساليب عدم التدخل والتجارة الحرّة إلى حدّ كبير. المعُتقد الثاني كان الحماية الاجتماعيّة الذي يهدف للحفاظ على الإنسان والطبيعة بالإضافة إلى التنظيم الإنتاجي، معتمداً على الدعم المتفاوت من أولئك الذين تأثروا على الفور بالفعل الضار للسوق، أي بشكل رئيسي ولكن ليس حصري على طبقات العمّال وملّاك الأراضي الصغار، ومستخدماً أساليب التشريعات الحمائية والتنظيمات التقييدية وغيرها من أدوات التدخل».

أدّى ضغط الحركة المضادة للتسليع بعد الحرب العالمية الثانية إلى جعل "عدم التسليع" محرّكاً للسياسات المحليّة في جميع أنحاء العالم الصناعي. لقد وصلت أطراف من الطبقة العاملة المعرضة بشدّة لضغط قاعدتها إلى الحكومة أكثر من 40% من الوقت في العقود التي تلت الحرب، وذلك مقارنة مع 10% من الوقت في سنوات ما بين الحربين، ومقارنة مع عدم وصولهم على الإطلاق قبل ذلك. وقد أجبرت "عدوى اليسار" الأطراف اليمينيّة على الإذعان الدفاعي. التعليم والعلاج الطبي والإسكان والتقاعد والترفيه ورعاية الطفولة والعيش في حدّ ذاته والأهم من ذلك هو أجور العمالة: لقد تمّت إزالة هذه الأشياء بالتدريج من مجال ضغط الأسواق. لتتحول من بضائع تتطلّب المال أو مواد يتم شراؤها وبيعها على أساس العرض والطلب، إلى حقوق اجتماعية ومواضيع للقرارات الديمقراطية.

كان هذا على الأقل هو أكبر برنامج ديمقراطي اجتماعي، وكانت إنجازاته في بعض أوقات وأماكن حقبة ما بعد الحرب مفاجئة.

لكنّ الحلّ الديمقراطي الاجتماعي غير مستقر، وهذا هو مكان مجيء المفهوم الماركسي مع تشديده على أنّ السعي لتحقيق الربح هو محرّك للنظام الرأسمالي. هناك تناقض جوهري بين قبول كون السعي الرأسمالي لتحقيق الربح هو محرك النظام، وبين الاعتقاد بإمكانيّة ترويضه وقمعه بشكل ممنهج عبر السياسات والقوانين. إنّ التناقض بالنسبة للفكر الماركسي الكلاسيكي هو تناقض اقتصادي مباشر: فالسياسات التي تقلّل من معدلات الربح كثيراً ستؤدي إلى نقص بالاستثمار وإلى أزمة اقتصاديّة. لكن يمكن للتناقض أن يكون سياسياً أيضاً: سوف يستخدم الرأسماليون الشرهون للربح سطوتهم الاجتماعيّة لعرقلة السياسات المضادّة. كيف يمكنك أن تحظى بنظام يسيّره أفراد يعظمون تدفقاتهم النقدية الربحية وتبقى على توقعك بإمكانية الحفاظ على معايير وقوانين وقواعد وتشريعات قمعية ضروريّة لدعم الرفاه العام؟

المطلوب هو هيكل يسمح للشركات المستقلّة بإنتاج السلع والإتجار بها في السوق بهدف توليد فائض إنتاج مقارنة بالمدخلات، مع إبقاء تلك الشركات عامّة ومنع فئة ضيقة من الرأسماليين من السيطرة على فائضها. يمكن للعمّال في ظلّ هذا النوع من النظام أن يمارسوا أيّ درجة من السيطرة التي يرغبون بها على إدارة شركاتهم، ويمكن تحويل أيّ "ربح" ليصبح مشتركاً. هنا يمكن للربح أن يؤدي دور الإشارة الفاعلة عوضاً عن كونه قوّة محركة. لكنّ الشرط المسبق لمثل هذا النظام هو تأميم وسائل الإنتاج، وهيكلتها بطريقة تحافظ على وجود سوق رأس المال. كيف يمكن القيام بكلّ ذلك؟

 

- سوق اشتراكية لرأس المال:

لنبدأ بالأساسيّات. إنّ السيطرة الخاصّة على البنى التحتيّة الإنتاجية للمجتمع هي في نهاية الأمر ظاهرة ماليّة. يمارس الرأسماليون السيطرة على وسائل الإنتاج عبر تمويلها، سواء كطبقة أو كأفراد. ما نحتاجه إذاً هو تأميم التمويل: أي إنشاء نظام تمويل جماعي مشترك لوسائل الإنتاج والائتمان. لكن ما الذي يعنيه ذلك من الناحية العملية؟

يمكن القول بأنّ الشعب يمتلك نوعين من الأصول: الأصول "الشخصيّة" وتشمل المنازل أو السيارات أو الحواسيب. لكنّ الأصول المالية: أي الأحقيّة بالتدفقات النقدية كالأسهم والسندات والصناديق الاستثمارية، هي ما يموّل البنية التحتيّة الإنتاجيّة. لنفترض بأنّه تمّ إنشاء صندوق نقد مشترك عام للاضطلاع بما يسمّى عن سوء فهم "بالشراء الإلزامي" لجميع الأصول الماليّة المملوكة للقطّاع الخاص. مثال: سيقوم الصندوق "بشراء" أسهم الشخص بسعرها السوقي، ويودع المال المملوك للشخص في حسابه المصرفي. في نهاية هذه العملية سيكون الصندوق مالكاً لجميع الأصول الماليّة المملوكة ملكية خاصّة في السابق، في حين أنّ جميع الثروات الماليّة للأفراد ستتحوّل إلى ودائع مصرفيّة (مع الانتباه بأنّ ملكية المصارف المعنية الآن باتت مشتركة، حيث قام الصندوق المشترك بامتلاك جميع أسهمها).

لم يفقد أحدٌ أيّ ثروة؛ فقد قاموا ببساطة بتحويل أسهمهم وسنداتهم إلى ودائع. لكن هناك نتائج مهمّة بعيدة المدى. تشكّل وسائل الإنتاج والائتمان في المجتمع الآن أصول صندوق عام، في حين أنّ أرصدة ثروات الأفراد الماليّة أصبحت الآن ديوناً عليها. بعبارة أخرى: لقد تمّ تأميم وظيفة الوساطة بين المدخرات الماليّة للأفراد وبين الأصول الماديّة المنتجة للمجتمع التي كانت تقوم بها المصارف الرأسمالية والصناديق المشتركة وما إلى ذلك. يمكن للصندوق المشترك الآن أن يعيد إنشاء سوق رأس المال "المروّض" على أساس اشتراكي، مع وجود عدد كبير من المصارف المؤممة وصناديق الاستثمار التي تملك وتخصص رأس المال بين وسائل الإنتاج.

الدرس المستخلص هنا هو أن التحوّل إلى نظام مختلف ليس أمراً كارثياً. وبطبيعة الحال، فإنّ الوضع الذي أصفه سيكون ثورياً، ولكنّه لن ينطوي بالضرورة على الانهيار التام للمجتمع القديم وابتداع شيء غريبٍ كليّة ومن عالم آخر ليحلّ محله.

ولن يعود في نهاية العملية للشركات مالكون أفراد يسعون إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح. بل عوضاً عن ذلك ستكون جميعها مملوكة للمجتمع، جنباً إلى جنب مع فائض "الربح" الذي قد يتحقق. وكون الشركات ستبقى تبيع وتشتري في السوق، فبإمكانها أن تستمر في توليد الفائض (أو العجز) الذي يمكن النظر إليه من أجل الحكم على فاعليتها. لكن لن يكون هناك أيّ مالك فرد ليضع هذا الفائض في جيبه، ممّا يعني بأنّ لا مصلحة لأحد أن يديم أو يستغل التقييم المشوّه للسلع بهدف الربح كما هو الأمر في ظلّ الرأسماليّة. ويمكن الآن موائمة "الحل الديمقراطي الاجتماعي" الذي كان متناقضاً في يومٍ ما، بسبب انتقائيته المحبطة لاعتماد دافع الربح من أجل الصالح العام، بينما يعتمد عليه بشكل منهجي كمحرّك للنظام.

ولتحقيق الهدف المنشود، يمكن وضع حدّ معيّن لتراكم الثروة الناجم عن استحقاقات فوائد الودائع المصرفية، ويمكن أن يكون كلّ ما يزيد عن هذا الحد عبارة عن تعويض عن التضخم. (أو يمكن تقسيم الفائض الاجتماعي بشكل متساوٍ بين الجميع، وصرفه فقط كعائدات اجتماعيّة). هذا لن يكون بمثابة القتل الرحيم للدخل الريعي، بل "لفوائد" الربح الريعي في المجتمع. وفي حين يبقى الأفراد أحرار في بدء أعمالهم الخاصّة، فما أن تصبح هذه الأعمال بحجم أو سنّ أو أهمية محددة، سيكون عليها أن تصبح "عامّة": يصبح على مالكيها أن يبيعوها في سوق رأس المال المؤمم.

إنّ ما أصفه بشكل محدد هنا هو تتويج للمسيرة التي تمضي في ظلّ الرأسمالية منذ قرون: الفصل المتزايد للملكية عن السيطرة. لقد أعجب ماركس بالفعل في منتصف القرن التاسع عشر بانتشار ما بتنا ندعوه الآن بالشركات: "إنّ شركات الأسهم عموماً – التي تطورت مع نظام الائتمان – لديها ميل متزايد لفصل عمل الإدارة هذا كوظيفة مستقلّة عن ملكية رأس المال، سواء أكان مملوكاً بشكل ذاتي أو مستعاراً، تماماً كما شهد المجتمع البرجوازي فصل وظائف القضاة والإداريين عن ملكية الأرض التي كانوا ملتصقين بها في العهد الإقطاعي".

بحلول الثلاثينيات من القرن العشرين، أصبحت هذه "الملكية الخاصة المؤممة" هي الشكل الإنتاجي المهيمن في الرأسمالية الأمريكية، كما أشار أدولف بيرل وغاردينر مينز في كتاب "المؤسسة الحديثة والملكيّة الخاصة". بدا بأنّ النموذج الإداري للشركات يواجه تحدياً في الثمانينيات عندما شنّ أصحاب رؤوس الأموال، غير راضين عن معدلات الربح الواهنة، هجوماً على ما اعتبروه بأنّه تراخٍ وغرور من مدراء الشركات. شجر هنا نزاع داخلي هائل للسيطرة على الشركات دام أكثر من عقد. لكن بحلول نهاية التسعينيات كانت النتيجة تسوية داخلية تخدم مصالح الطرفين: فقد احتفظ المدراء التنفيذيون باستقلالهم عن سوق رأس المال، لكنهم تبنوا أيديولوجيا "قيمة المساهمين". فقد أصبحت حزم الأسهم أكثر حساسية لأرباح الشركة والأداء في سوق الأوراق الماليّة، لكنّها تضخمت أيضاً بشكل كبير. والواقع أنّ أيّاً من ذلك لم يحلّ من الناحية الفنية مشكلة الفصل بين الملكية والسيطرة، لأنّ خطط الدفع الجديدة لم تقترب أبداً من التوفيق بين المصالح الماليّة للمدراء والمالكين. وقد وجدت دراسة شاملة أجراها معهد ماساشوستس للتكنولوجيا واقتصاديون من الاحتياطي الفدرالي عن أجور المدراء التنفيذيين من 1936 إلى 2005 بأنّ التلازم بين أداء الشركات ومجموع الأجور الكليّة للمدراء التنفيذيين زهيد جدّاً ولا يذكر، وليس ذلك في حقبة منتصف القرن الإداري، بل طوال الفترة.

بعبارة أخرى: لقد أجرى مختبر الرأسمالية تجربة امتدت بطول قرون لاختبار ما إذا كان بإمكان النظام الاقتصادي أن يؤدي بشكل جيّد عندما نقوم بفصل العلاقة المباشرة بين أرباح الشركة وبين الجائزة التي ينالها المسيطرون عليها. لقد أثبتت التجربة نجاحها، تملأ الرأسمالية المعاصرة، هي وفصلها الجذري للملكيّة عن السيطرة، العلل والعيوب. لكنّ إهمال الربح لم يكن أبداً أحدها.

كيف ينبغي أن تُحكم هذه الشركات المؤممة بشكل واقعي؟ إنّ الجواب الكامل على هذا السؤال أبعد بكثير من نطاق مقالٍ مثل هذا. إنّ وصفاً دقيقاً لأنظمة ولوائح شركات تخيليّة هو بالضبط نوع "مطابخ كومته" التي سخر منها ماركس بشكل محق. لكنّ النقطة الرئيسيّة واضحة بشكل كافٍ: بما أنّه يمكن لهذه الشركات أن تبيع وتشتري في السوق، فيمكن الحكم على أدائها بشكل منطقي. شركة يمكن لعمّالها أن يسيطروا عليها بالكامل، وفي هذه الحالة يمكنهم ببساطة جمع صافي دخلها بعد الدفع مقابل رأس المال المستخدم. أو يمكن أن تكون مملوكة لكيان داخل سوق رأس المال المؤمم، وأن يختار هذا الكيان إدارتها مع نظام قوي يجمع عمّالها من أجل إيجاد التوازن داخل الشركة. يمكن أن يتم تقييم هؤلاء المدراء و"المالكين" بناء على العائدات النسبية التي تولدها الشركة، دون أن يكون لهم أن حق ملكية خاصة على كتلة الأرباح الكاملة. إن احتجنا للحكم على توقعات الأداء المستقبلي بطريقة "موضوعية" ما، فهذه المهمة منوطة بأسواق رأس المال المؤممة.

لا يعدّ مثل هذا البرنامج طوباوياً: فهو لا يعلن "العام صفر" ولا يعامل المجتمع على أنّه سجل فارغ. إنّ ما يحاول القيام به هو رسم آلية اقتصادية عقلانية تحرّم السعي لتحقيق الربح بوصفه أولوية على حساب تلبية احتياجات الإنسان. ولا يستبعد حدوث تغييرات أساسيّة في الطريقة التي يتفاعل فيها البشر مع بعضهم البعض ومع محيطهم. بل على العكس من ذلك، فإنّه يقلل العوائق أمام المزيد من التغييرات.

وللثناء على إسحق ديوتشر، فقد أشادت المؤرخة إيلين ميكسينز-وود "برؤيته المدروسة للاشتراكية" التي أدركت الوعد بتحرير الإنسان دون إضمار الأوهام الرومانسيّة التي من شأنها أن تعالج جميع العلل البشرية، والتي تجعل الناس حرّة بمعجزة. لقد كتب دويتشر بأنّ الاشتراكية لم تكن "آخر نتاج التطوّر وأكثره كمالاً أو نهاية التاريخ، بل هي بالتأكيد بداية التاريخ". طالما استطاع اليسار الحفاظ على هذا الأساس العناصري من الأمل، فسوف يبقى أفق ما بعد الرأسمالية حاضراً.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الجمعة, 15 كانون1/ديسمبر 2017 11:07