التاج والحذاء
نيفين مسعد نيفين مسعد

التاج والحذاء

اتخذت إليزابيث الثانية أو ليليبت كما كانوا يدللونها طريقها للمدرسة لأول مرة ــ إيتون كوليدج ــ التى ترسل إليها العائلة المالكة وكبار العائلات البريطانية بأولادها ليتلقوا أفضل تعليم ممكن. وفى الفناء وجدت ليليبت أن كل الأطفال كانوا يعاملونها بوصفها الملكة المقبلة فيرفعون القبعة لتحيتها، المدرس الخاص استقبلها بدوره محييا وعاملها معاملة مختلفة وكلمها من الحصة الأولى عن الدستور. كان الدرس الذى تعلمته إليزابيث فى هذه الحصة أن الجلالة صفة تخص الملوك وحدهم فلا يُساءلون إلا أمام الله، أما الكفاءة فإنها صفة الحكومة التى تُمارس السلطة وتخضع لمساءلة الشعب، فما يمس الآخرين يحاسِب عليه الآخرون، ومن التفاعل بين صاحب (أو صاحبة) الجلالة وبين ذوى الكفاءة يتكون النظام الملكى البريطانى.

بدا الدرس الأول ثقيلا على أسماع طفلة دون العاشرة، وفهمت أن عليها أن تحفظ نصوص الدستور عن ظهر قلب، وعندما سألت مدرسها هل يعلم باقى التلاميذ ما يعلمه لها رد بالنفى، فأقرانها يتعلمون الحساب والجغرافيا وغيرها أما هى فتتعلم الدستور ولا شىء إلا الدستور. عندما كبرت إليزابيث وجلست على عرش بريطانيا أدركت أنها تعرف كل شىء عن الدستور لكنها تجهل كل شىء آخر، وكان هذا داعيا لإحراجها كلما جالست كبار رجال الدولة، فلم تكن قادرة دائما على أن تنحرف بالحديث لأمور تتعلق بالكلاب والخيول فأحيانا كانت تضطر لأن تخوض غمار السياسة وهنا كان يبدو جهلها تاما. يحدثها رئيس وزرائها ونستون تشرشل عن القنبلة الهيدروجينية السوفيتية والحاجة إلى التواصل مع أيزنهاور لاحتواء السلوك السوفيتى فتحدثه عن صحة وزير خارجيتها أنطونى إيدن وعن أن السياسة الجيدة تحتاج مسئولين أصحاء. وفى لحظة معينة تقرر إليزابيث أن تواجه نفسها وتستدرك ما فاتها فتطلب من مارتن سكرتيرها الخاص أن يبحث لها عن مدرس ليعلمها ما لم تعلم وقد كان. جلست أمام المدرس كمن على رأسه الطير وهو يسألها عن شهاداتها: الثانوية؟ فلا تحر جوابا، الإعدادية؟ فلا تحر جوابا، ما دون ذلك؟ فلا تحر جوابا.. فهم الرجل حقيقة الأمر وبدأ مهمته الصعبة.
***
هذا الملمح من المسلسل البريطانى» التاج» عن تاريخ العائلة المالكة والذى عرضت منه حتى الآن عشر حلقات، يحمل رسالة بالغة الإيجابية عن النظام السياسى البريطانى، فنحن إزاء نظام يختزل معارف الملوك فى الدستور حتى وإن كان هؤلاء الملوك يملكون ولا يحكمون، هنا يتحول الدستور من كونه أبا للقوانين إلى كونه أبا لكل العلوم أو إلى كونه التاج الحقيقى الذى تتلألأ أحجاره ــ نصوصهــ فوق رؤوس الملوك.
***

لكن الملمح السابق الذى يقدمه لنا مسلسل» التاج « ليس هو الوحيد فثمة ملمح آخر يبسطه لنا بكل وضوح عن علاقة بريطانيا العظمى بمستعمراتها.. كانت ليليبت فى جولة لتفقد مستعمرات بريطانيا الأفريقية حين حط بها الرحال فى كينيا، استبد بها الشوق لوالدها الذى تركته مريضا فى قصر باكينجهام فجلست إلى مكتبها وراحت تخط له رسالة وهى محاطة بأجواء الرقى والفخامة التى أبدع المسلسل فى تصويرها. وحين فرغت من رسالتها كانت عيون فيليب الزوج ومارتن السكرتير تشى بأن حدثا عظيما قد وقع، نظرت مليا إلى زوجها وتحولت حدقتاها الزرقاوان إلى علامتى استفهام وتعجب كبيرتين تلقت بهما الخبر: مات الملك چورچ السادس. الملوك لا يبكون وها هى إليزابيث قد صارت ملكة فحزنها إذن للداخل. حزمت لها الوصيفة حقائبها استعدادا للعودة إلى بريطانيا وأطلت هى على جموع الكينيين الذين اصطفوا على الجانبين لوداعها، وفى غمرة مشاعر التأثر التى غلفت المكان انحنى رجل كينى طويل القامة وقبل فردتى حذائها، كان للحذاء لون بين الأصفر والأخضر فقد نست الوصيفة أن تضع ثوبا أسود وحذاء من نفس اللون فى حقائب مخدومتها، لم يتوقع أحد أن يموت چورچ فالملوك لا يموتون بسهولة. فى موقف الوداع تصرفت إليزابيث مثلما هو متوقع من الملكة أن تتصرف مع أحد رعاياها خارج حدود البلاد، تركت الرجل الكينى النبيل يلثم حذاءها باكيا وشمخت برأسها إلى أعلى وتوجهت لسيارتها.
***
هذا المشهد العبقرى يجسد لنا قمة التناقض بين الديمقراطية والاستعمار، بين احترام الدستور فى الداخل وانتهاك حقوق الإنسان فى الخارج، بين المواطنة والعبودية، وبين التاج والحذاء. لم تجد إليزابيث بأسا أبدا من أن تطئ بقدميها كرامة أحد أبناء مستعمراتها فيما هى تتزين بتاج الدستور، ومن قبل وعندما كانت فى التاسعة من عمرها تبرع آرثر بلفور وزير الخارجية فى عهد والدها بأرض فلسطين وطنا قوميا لليهود دون غضاضة، فأراض الشعوب مستباحة تماما ككرامتهم، واليوم ها هى إليزابيث تعاصر احتفال بريطانيا بمائة عام على وعد بلفور فيما الاستيطان الإسرائيلى يتوسع والشتات الفلسطينى تام الأركان والقرارات الدولية على الرف.
***
فى مسلسل» التاج» البريطانى الذى بدأ عرضه قبل عام بالتمام والكمال الكثير مما يبهر فى تقاليد العائلة المالكة لكن فيه أيضا الكثير مما يقهر لأن مصائر شعوب العالم الثالث رسمتها قفازات.. وأحيانا جيوش ملكية.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني