الاقتصاد سيطوّع السياسة
يصبح هناك مشكلة عندما تنازع السياسة الاقتصاد وتقود إلى إبطائه
بيوتر إسكندروف بيوتر إسكندروف

الاقتصاد سيطوّع السياسة

بات هنالك مساران واضحان بخصوص العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوربي. المسار الأول: الإبقاء على مواقف مجلس الاتحاد الأوربي والمفوضية الأوربية، والتمديد التلقائي للعقوبات ضدّ روسيا دون تحليل نوعي لفاعليتها السياسيّة ولتأثيراتها السلبيّة على الاقتصاد في البلدان الأوربيّة.

تعريب: عروة درويش

هناك مسار ثانٍ يبدو فيه كلّ شيء مختلفاً: أثناء المحادثات الثنائية مع الممثلين الروس، استطلعت الدول الأعضاء، أثناء اجتماع الاتحاد الأوربي للتصويت على تمديد العقوبات على روسيا، عن تأثير «حرب العقوبات»، التي أطلقت بروكسل عنانها، على مصالح بلادهم. لم يكن هناك إلّا قلّة من هذا النوع من التصريحات قبل عدّة أعوام، أمّا اليوم فقد بدأت أوروبا تدرك بأنّ انعدام الثقة بين روسيا والاتحاد الأوربي لا يعود بالنفع على كلا الجانبين.
تلعب النمسا، وهي أحد المحركات الرئيسيّة في التكامل الأوربي، والتي حافظت في الوقت ذاته على علاقاتها التاريخية المتميزة مع بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، ناهيك عن ألمانيا، دوراً هاماً في إعادة تقدير القيم هذه. ولهذا يمكن للمزاج في فيينا أن يظهر بشجاعة في العمليات الجارية حالياً عبر السياسات الألمانيّة وعبر المعسكر الشرقي السابق ومنطقة البلقان.
يعبّر وزير الخارجة النمساوي الطموح وذو الشخصية الجذابة، سيباستيان كورز البالغ من العمر 30 عاماً، عن هذا المزاج إلى حدّ ما. لقد زار موسكو في كانون الثاني/يناير 2017، وأعلى عقب محادثاته مع نظيره الروسي سيرغي لافروف بأنّ العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا «يُمكن أن ترفع في أيّ وقت بقرار جماعي من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي الثمانية والعشرين». وأيّاً كانت النيّة وراء هذه الكلمات، فإنّها تعكس ردّ فعل على الأضرار التي تلحقها «حرب العقوبات» بالعلاقات بين النمسا وروسيا. لا يمكن اختصار احتماليات التعاون بين هاتين الدولتين في الاقتصاد وفي القطّاع الاستثماري. يشمل هذا التعاون أولاً وقبل كلّ شيء قطاع الغاز وتطوير البنية التحتيّة للنقل وقطّاع الهندسة المدنية المتطور.
إنّ إمكانية تحويل محور الغاز الأوربي الأوسط في بومغارتن في النمسا، ليصبح أكبر محور غاز قادر على تولي إمدادات خطوط أنابيب الغاز الواصلة إلى وسط وشرق وشمال أوروبا، هو بالتأكيد أولوية مطلقة وفي صميم العلاقات بين شركة النفط والغاز (OMV AG) النمساوية وشركة الغاز العامّة (غازبروم Gazprom) الروسيّة. لقد أصبحت الشركة النمساوية عام 1968 هي أوّل شركة أوربية غربية توقّع عقد توريد غاز طويل الأمد من الاتحاد السوفييتي إلى أوروبا، وهي شريكة غازبروم الرئيسيّة اليوم في النمسا وأحد حاملي الأسهم الرئيسيين في مشروع إنشاء أنابيب (السيل الشمالي 2 – Nord Stream 2).
وقد أصبحت اجتماعات العمل والمحادثات بين رئيس لجنة إدارة الشركة الروسيّة والمدير التنفيذي للشركة النمساوية منتظمة إلى حدّ ما في السنوات الأخيرة. وقد أعلن الطرفان بعد معالجة اللقاء الأخير للمسائل المتعلقة بتطوير التعاون الثنائي، بأنّ النمسا ستواصل زيادة وارداتها من الغاز من روسيا في ظلّ الطلب المتزايد على الغاز الروسي بسبب انخفاض الإنتاج المحلي في المنطقة. لقد كانت صادرات غازبروم للنمسا في الفترة ما بين 1 و19 نيسان/أبريل 2017 أكبر بنسبة 69.9% ممّا كانت عليه في ذات الفترة من عام 2016. وقد أكّد الطرفان كذلك على أهميّة «السيل الشمالي 2» لضمان إمدادات غاز يعتمد عليها من قبل المستهلكين الأوربيين.
وبشكل أكثر عمومية، صدّرت شركة غازبروم عام 2016 ما مقداره 6.1 مليار متر مكعب من الغاز إلى النمسا، وهو أكثر بنسبة 37.9% من 2015. كما عززت ديناميكيّة الأسعار هذا الاتجاه. توقّع ماريو ميرن، المدير التنفيذي لشركة (Wintershall) الألمانيّة للنفط والغاز: «ستنخفض أسعار الغاز الروسي عمّا قريب لتصبح أزهد من ثمن الغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة أو من قطر» وبأنّ: «ستبقى أنابيب الغاز حجر زاوية في إمدادات الغاز إلى أوروبا لوقت طويل جدّاً».
يتم تنظيم التعاون في الوقت الراهن بين الشركتين الروسية والنمساوية من قبل اتفاق «مبادلة الأصول Asset Swap» في 14 كانون الأول/ديسمبر 2016. وتبعاً لهذا الاتفاق، ستحصل شركة غازبروم على حصّة بنسبة 38.5% في شركة (OMV Norge As)، وهي الشركة التي تركّز على الاستكشاف الجيولوجي والإنتاج في النرويج. وستحصل شركة (OMV) النمساويّة على حصّة بنسبة 24.98% في مشروع تطوير الكتلة الرابعة والخامسة من إنشاء (أكيموف Achimov) في حقل (أورينغوي Urengoy) للنفط والغاز ومكثفات الغاز.
ومن المجالات الواعدة الأخرى للتعاون الثنائي، الاستثمار والنشاط المشترك الروسي النمساوي لبناء خط سكّة حديد عريضة بين كوسيتش وفيينا. ويمكن أن يتحول مشروع نظام الشحن الواصل بين آسيا وأوروبا عبر آسيا إلى مركز لوجستي رئيسي بالنسبة لوسط وشرق وشمال أوروبا.
وقد أقرّ القادة السياسيين في روسيا وسلوفاكيا والنمسا عام 2010 مشروعاً تقدمت به المؤسسة العامّة الروسيّة لسكك الحديد، ويتضمن المشروع إنشاء سكّة حديد بعرض 1520 ملم تصل بين كوسيتش وفيينا عبر براتيسلافا في سلوفاكيا. يمكن أن يصل حجم حركة النقل في عام 2025 على خطّ كوسيتش-براتيسلافا إلى 23.7 مليون طن، وسيسمح بشحن 18.5 مليون طن بين براتيسلافا وفيينا. سيصل طول سكّة الحديد الإجمالي إلى 500 كلم.
ويهدف المشروع إلى وصل نظام سكك حديد وسط أوروبا بسكّة الحديد العابرة لسيبيريا من أجل تشجيع حركة الشحن بين آسيا وروسيا ووسط أوروبا. سيحول المشروع حين انتهائه بينه وبين الازدحام في المحطات الواصلة بين خطوط سكك الحديد الأوروبيّة وبين مسار السكّة العريضة. وفقاً للحسابات الروسية، سيقلل المشروع وقت التسليم من آسيا إلى أوروبا إلى النصف مقارنة بالطريق البحري (من 30 يوماً إلى 14 يوماً).
وتجذب خطّة مشروع سكّة الحديد عدداً من الدول الأوربية، من بينها سلوفاكيا والنمسا والتشيك وهنغاريا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا وسلوفينيا وصربيا وكرواتيا. ويظهر تحليل مواقع الموارد الطبيعية وأسواق البضائع المنتهية أنّ جغرافيا سكّة الحديد بعرض 1520 ملم سوف تحقق فوائد هائلة لعمليات النقل بين أوروبا وآسيا. سيوفّر المصنعون والموردون بين مائة وألف دولار على كلّ حاوية نموذجية مفردة. وسيتم نقل كلا الحمولات في حاويات والمواد الخام (الحديد والفلزات الحديدية ...الخ) على طول الخطّ إلى أوروبا، وستكون غالب البضائع في الاتجاه المعاكس محمّلة في حاويات.
كما أنّ هناك مجالاً آخر للتعاون الثنائي بين روسيا والنمسا هو قطّاع تصنيع التكنولوجيا الفائقة للهندسة الثقيلة المرتبطة بالطاقة الكهرومائيّة وبالمواد والمعدات المتصلة بها، والتي يلعب التعاون بين الشركة العامّة الروسيّة (روس-هايدرو RusHydro) والنمساوية (فويث هايدرو Voith Hydro) دورياً محورياً بها. وقد صادقت إدارة شركة روس-هايدرو عام 2010، قبل بداية «حرب العقوبات» على قرضٍ بقيمة مائتي مليون يورو يكفلها بنك (OeKB) النمساوي، من أجل تحديث معمل (ساراتوفسكايا Saratovskaya) الكهرومائي. وقد تمّ ذلك بالتعاون مع فويث هايدرو، وتضمن تحديثاً شاملاً للتوربينات المائية وفقاً للاتفاقات الموقّعة بين الشركتين عامي 2012 و2013. سيتم خلال الأعوام العشرة القادمة استبدال خمسة توربينات مائيّة بوحدات جديدة. وتقدّر الكلفة الإجمالية لتحديث المعمل بحوالي مليار يورو، ويجب إتمامها بحلول عام 2025.
ويعتبر استحواذ شركة (لوك-أويل Lukoil) الروسيّة على معمل تصنيع زيوت التشحيم النمساوي العائد لشركة (OMV) مثالاً آخر على التعاون الثنائي الناجح بين الشركات في روسيا والنمسا. فبالأخذ بالاعتبار الأسعار الزهيدة نسبياً لزيوت التشحيم الروسية، فقد حوّلت الصفقة خسارة المعمل إلى ربح، لتخلق بذلك فرص عمل جديدة، ولتحقق الظروف الملائمة لتعزيز وجود لوك-أويل في الأسواق العالميّة. وقد صنّفت (رابطة مصنعي السيارات الألمان) الزيوت المصنعة في معمل الشركة في النمسا بدرجة أ، وهي الدرجة الأعلى التي تؤكد استعداد صانعي السيارات الألمانية لملء سياراتهم بزيوت شركة لوك-أويل.
وغنيّ عن القول بأنّ كلّ هذا سيعزز مواقف القوى السياسيّة في النمسا التي تعي تماماً مدى انتفاع بلادهم من تطوير فرص التعاون الاقتصادي مع روسيا. وتتجاوز أهمية هذه الفرص العلاقات الثنائية، ويدرك رجال الأعمال هذا الأمر على عكس الديماغوجيين سياسياً. ويمكننا بهذا السياق أن نفهم معنى قول الصحيفة السويسريّة (Neue Zuercher Zeitung) بتسمية فيينا: «وسيطاً محايداً» في إعادة بناء العلاقات بين روسيا والغرب.
ويصبح هناك مشكلة عندما تنازع السياسة الاقتصاد وتقود إلى إبطائه، كما يحدث حتّى هذه اللحظة عندما تحدد المؤسسات المركزية في الاتحاد الأوربي السياسات المضادة لروسيا. لكن هناك على أيّة حال دلائل تشير إلى أنّ النمسا لم تعد ترى أنّ هذا النموذج السياسي العائب هو الخيار الوحيد.

آخر تعديل على الإثنين, 09 تشرين1/أكتوير 2017 11:59