القوانين الديناميكية والإحصائية في المنهج العلمي

القوانين الديناميكية والإحصائية في المنهج العلمي

في الاجتماع الدولي حول تاريخ العلم والتكنولوجيا المنعقد في لندن من 29 حزيران إلى 3 تموز عام 1931 تقدم مندوبو الاتحاد السوفييتي بأوراق عمل هامة دافعوا فيها عن المنهج المادي الديالكتيكي من خلال مناقشة العلاقة بين القوانين الديناميكية والإحصائية. نلخص في هذه المادة أهم ما ورد في تلك الأوراق.

تلعب مسألة طبيعة القوننة دوراً حاسماً في تاريخ الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية. ورغم استنفاد القوننة الديناميكية والإحصائية لجميع أصناف القوانين في العالم المادي، وفي الوعي الذي يصوره (لأنها قوانين ديالكتيكية) مثلما تستنفد السببية جميع أنواع العلاقات، إلا أن المشكلة برمتها ترتبط ارتباطا وثيقا مع أسئلة أخرى من المقولات الفلسفية الرئيسية، مثل الضرورة والحرية، السببية والمصادفة، الاستمرارية والانقطاع، الخ.


دون فهم القوننة من وجهة نظر المادية الديالكتيكية، لا تستطيع العلوم أن تشق طريقهما بين مطرقة القدرية الميكانيكية وسندان اللاحتمية. ولكن أهمية خاصة تعلق على هذه المسألة، لأنه ومع تفاقم الأزمة الرأسمالية، يزداد العلم البرجوازي رجعية، منحطاً إلى درك الإيمان الأعمى.


في أوقات الأزمات يزداد الضغط الأيديولوجي للطبقة الحاكمة على الإبداع العلمي بقوة أكبر مما في أي وقت آخر. وفي العلوم الاجتماعية، يحمل تحديد طبيعة القوانين وقدرتها الاستعرافية - أي نطاق مضمونها وقدرتها على خدمة التنبؤات العلمية - وحدودها، أهمية نظيراتها نفسها في مجال العلوم الطبيعية.


برز في الاتجاهات الفلسفية المعاصرة في العلوم الطبيعية حول مسألة القوننة الديناميكية والإحصائية اتجاهان متطرفان أولهما يتمثل بالمذهب الميكانيكي، الذي لا يميز سوى دور القوانين الديناميكية، الذي يفسرها بطريقة ميكانيكية ضيقة على أنها الانتقال المكاني - الكمي - للجسيمات بغض النظر عن النوع. والاتجاه الثاني يتمثل بمذهب اللاديتيرمينية (عدم التحديد)، الذي يخفي إنكاره للضرورة والشرطية عبر اعترافه فقط بالقوانين الإحصائية، زاعماً بأنها التعبير الحر، واللامحدد للمصادفة.


المذهب الميكانيكي


نجد الصياغة الأوضح للمفهوم الميكانيكي للقوننة، الذي وسم بطابعه المرحلة الميتافيزيقية للعلوم الطبيعية في القرن 19، في الكلمات التالية للعالم هيلمهولتز (حول هدف العلوم الطبيعية وتطورها 1869):


«إذا كانت الحركة هي التغير الرئيسي الكامن خلف جميع التغيرات الأخرى في العالم، فإن جميع القوى العنصرية هي قوى حركية، وهدف العلوم الطبيعية هو إيجاد الحركات الكامنة خلف جميع التغيرات الأخرى وإيجاد المحرك لها، أي إرجاعها إلى الميكانيك.»
ما يرتبط بموضوعنا الرئيسي أكثر من المطابقة اللاعلمية بين المفهوم الأوسع لحركة المادة والانزياح المكاني الميكانيكي البسيط هو الخطأ المنهجي الأكثر أهمية الذي ارتكبه هيلمهولتز: إنه لا يفهم الفرق بين العام والخاص.


فريدريك إنجلز، فهم تماما مثل هيلمهولتز أن كل حركة ترتبط بطريقة أو بأخرى مع حركة ميكانيكية ولكنه على عكس هيلمهولتز، كان ديالكتيكياً، ولم يسع لاستقصاء العام، والوسطي واللامحدد، بل فتّش، على العكس من ذلك، عن الخاصة المميزة لكل نوع من الحركة.


مذهب عدم التحديد


الموقف المناقض المتبنى في هذه الحالة على نطاق واسع من النزعة السائدة في العلوم الطبيعية اليوم، يعبر عنها بما يسمى مبدأ عدم التحديد الموصوف من هايزينبيرغ، وأنصاره. وهذا المبدأ يترجم من لغة الرياضيات إلى اللغة البشرية كما يلي:


من حيث المبدأ فإنه من المستحيل أن تحدد بدقة متساوية موضع وسرعة الإلكترون. كلما كان قياسنا لأحد هذين المقدارين أكثر دقة, يصبح أقل دقة بالنسبة للمقدار الآخر. وهذا ليس نتيجة لعيوب في أدواتنا، بل العكس هو الصحيح؛ أي أن عملية القياس نفسها تمارس تأثيرا على موقع وسرعة الإلكترون. وكلما زادت دقة القياس، يزداد ذلك التأثير. من ثم فإنه يترتب على ذلك أنه إذا عرفنا الحالة الأصلية للإلكترون (الموضع والسرعة)، لا نستطيع تحديد حالته في أي وقت من الأوقات، ومنه يصوغ هايزنبرغ الاستنتاج التالي (مجلة الفيزياء، العدد 43 عام 1927):


«بما أن جميع التجارب تخضع لقوانين ميكانيك الكوانتا، يتم بالتأكيد إثبات بطلان قانون السببية بوساطة ميكانيك الكوانتا.»
من الواضح في هذه الحالة أن جذر الخطأ المنهجي  يكمن في التصور غير الديالكتيكي للعلاقة بين العام والخاص. إنّ هايزنبرغ وميكانيك الكم عموماً، يشدد بشكل صحيح على وجود تأثير متبادل ضمن أي عملية واقعية، لكنه لا يستطيع أن يعالج القضية الذي يثيرها (التأثير المتبادل).


إنّ كارل ماركس أيضاً، وفي إلغائه لتبدّلات العرض والطلب، قام بعملية تجريد، لكنه تجريد يحتفظ بالميزات الجوهرية للرأسمالية، بالقوانين التي تميزها وحدها عن غيرها، في حين أنّ «التجرد» عن قانون القيمة الزائدة مع الاحتفاظ بالعرض والطلب كان سيسلب الشكل المعطى من الإنتاج من نوعيته الخاصة، وسيغيّب الخاص ضمن العام ويقود إلى ذلك القصور والعقامة للمفهوم «النقي» عن التأثير المتبادل.


الحل الديالكتيكي


إنّ حل المسألة يكمن في تركيب شكلَي القوننة، اللذين يشكل كل منهما عاملاً للآخر, في الواقع يتواجد الاثنان في وحدة متناقضة داخلياً، متأصلة في كل عملية، وكل حركة للمادة، إنها بدقة تداخلهما المتبادل وصراعهما الذي يجسد التطور الملازم للمادة، التعبير الرياضي عن هذه القوانين ليس كافياً للواقع، ينتج من ذلك أنّ المعرفة المبنية على القوننة الديناميكية فقط، أو على القوننة الإحصائية فقط، تكون حتماً ناقصة ووحيدة الجانب وتقريبية وإذا ادّعت بأنها تستوعب كلّ الواقع، ستكون إضافة لذلك غير علمية. ولن تجد العلوم الطبيعية مخرجاً من هذا النفق المسدود إلا بمعونة الديالكتيك المادي، الذي ينظر إلى كلّ قانون على أنّه وحدة من التداخل والصراع المتبادل للأضداد.