ماركس ضد سبنسر | النبي - العالم الذي يعود دوماً
غسان ديبة غسان ديبة

ماركس ضد سبنسر | النبي - العالم الذي يعود دوماً

«ألا تتعجب من أنَّ عليهم أن يعلنوا موتي دائماً وتكراراً؟»

ماركس في سوهو

«قبل 150 عاماً حلّل ماركس وإنجلز الرأسمالية بشكل جيد جداً، وأستطيع القول إنه في كثير من الأحيان بشكل أفضل من الاقتصاديين الكلاسيكيين»

جورج سوروس

 

في عام 1999 كتب المؤرخ الأميركي هوارد زن مسرحية "ماركس في سوهو".

تحكي المسرحية عودة كارل ماركس، ليس إلى سوهو لندن حيث عاش وكتب "رأس المال"، بل إلى سوهو نيويورك. يقول ماركس في البداية: "شكراً لله، إن هناك جمهوراً! جيد أنكم أتيتم وأنكم لم تتأثروا بكل هؤلاء البلهاء الذين قالوا إنَّ ماركس قد مات". وأضاف: "حسناً، إنني ميت كما أنني لست كذلك... هذا هو الديالكتيك إذا أردتم!". في تلك الأيام، كانت الحرب الباردة قد انتهت للتو، واعتقد أكثر العالم أنَّ ماركس فعلاً لن يعود لأنَّ الرأسمالية قد انتصرت إلى غير رجعة. لكن على الرغم من ذلك، وحتى في تلك الفترة، ظهرت كتابات لغير الماركسيين تنبّه العالم إلى أنَّ توديع ماركس نهائياً قد يكون مبكراً، وحتى مبكراً جداً.

في شباط 1991، في مجلة العلوم الأميركية (Scientific American) الرصينة جداً، وفي عمودها آنذاك "الاقتصادي التحليلي"، كتب مقالاً بعنوان "لا تستبعدوا ماركس"، وفي عام 1997 في مجلة النيويوركرNew) Yorker) الشهيرة كتب مقالاً بعنوان "عودة ماركس"، ذكر فيه المؤلف أنَّ صديقاً له يعمل في شركة استثمارية كبرى قال له: "كلما قضيت وقتاً أطول في العمل في وال ستريت، اقتنعتُ أكثر فأكثر بأنَّ ماركس كان محقاً... أنا مقتنع بأنَّ مقاربة ماركس هي الأفضل لدراسة الرأسمالية." في تلك الفترة أيضاً، انتخب ماركس في عام 1999، على أبواب القرن الواحد والعشرين، كأعظم مفكري الألفية، متقدماً على جميع المفكرين والعلماء الذين شملهم الاستطلاع الذي أجرته الـ "بي بي سي"، ومنهم ألبرت أينشتاين. وفي عام 2005 في استطلاع آخر للـ "بي بي سي"، احتل ماركس المرتبة الأولى كأهم فيلسوف، متقدماً على فلاسفة كأرسطو وسقراط وأفلاطون وديكارت وغيرهم.

لقد كانت عودة ماركس إلى نيويورك، وليس إلى لندن، تأكيداً من هوارد زن أنه لا يكتب مسرحية تاريخية، بل يريد أن يقول، ويستشرف في آن واحد، إنَّ أفكار ماركس لا تزال مفاهيم أساسية لفهم ما يحدث في الرأسمالية اليوم، وفي عقر دار الرأسمالية الأميركية، حيث كانت في تلك الفترة تعتمل وتتهيّأ الظروف الاقتصادية والمالية للانفجار الكبير في 2008. وعندما انفجرت الأزمة انكشفت هشاشة "النصر الرأسمالي" في الحرب الباردة، وهرول الرأسماليون إلى كينز لإنقاذهم مرة أخرى بعد أن صلبوه، لربما أكثر من ماركس في بعض الأحيان. ولكن بعضهم عرف أنَّ الأمر أعمق من ذلك بكثير، وشعروا بأنَّ الناس يذهبون إلى ماركس لفهم ما يحدث، حتى بين بعض الرأسماليين منهم. بعد ذلك توالت إشارات عودة ماركس: أصبح كتاب رأس المال مطلوباً بكثرة، وصُوِّر ساركوزي وهو يقرأه، وقال وزير المالية الألمانية بيير ستاينبروك إنَّ بعض أفكار ماركس "ليست بسيئة". وأصدر تلفزيون الـ BBC ثلاثية وثائقية "أسياد المال" لكل من ماركس وكينز وهايك.

أخيراً، في وال ستريت، حيث كان انفجار الأزمة مدوياً، كتب جورج ماغنوس، وهو مستشار رفيع في بنك UBS، مقالاً على موقع بلومبرغ في عام 2011 بعنوان "أعطوا كارل ماركس فرصة لينقذ الاقتصاد العالمي". قال في مقدمته: "إنَّ صانعي السياسات الذين يحاولون بصعوبة فهم السيل الكبير من الرعب المالي والاعتراضات الشعبية وغيرها من العلل التي تصيب العالم الآن، سيؤدون لأنفسهم خدمة إذا درسوا أعمال اقتصادي مات منذ زمن بعيد، أي كارل ماركس".

لقد كانت عودة ماركس إذاً بعد 2008 مدوية، وهي عودة العالم لشرح ماذا يحدث في العالم. يقول جوزيف شومبيتر الاقتصادي النمساوي الشهير، في فصل "ماركس النبي" في كتابه الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، إنه "لو كان ماركس فقط من يزود العالم بلغة مميزة، لكان في عداد الأموات الآن. إنَّ الإنسانية لا تقدِّر هذه الخدمة، وتنسى بسرعة أسماء الذين يكتبون النصوص الكلامية لأوبراها السياسية". وكما في السابق كذلك اليوم، فالماركسيون لا يعملون لتزويد الناس كلاماً مميزاً. وللمناسبة، الشيوعيون اللبنانيون لم يخترعوا ولا يؤيدون الشعار الشعبوي "كلهم"، بل هم يسعون اليوم إلى أوسع تحالف يضم قوى المجتمع اللبناني وأطرافه ضد النظام الراسمالي-الطائفي من أجل التقدم والتطور وضد الرجعية والتخلف الذي أغرقت الطبقة الحاكمة البلاد في غياهبها.

 

عودة ماركس ليس فقط إلى عالم الأفكار والعلوم، بل إلى الحقل السياسي أيضاً

أيضاً هناك من علم أنَّ عودة ماركس هي ليست فقط إلى عالم الأفكار والعلوم، بل إلى الحقل السياسي أيضاً، وفي ظل الأزمة تطورت شعبوية يمينية كحركة جنينية لفاشية جديدة، على الرغم من أنَّ ظاهرها عنصري وديني ضد المهاجرين، لكن جوهرها كجوهر الفاشية دوماً، وهو العداء للاشتراكيين والشيوعيين. يقول جون جوديس في كتابه "الانفجار الشعبوي" حول الظهور الأول للفاشية: "إنَّ هدف الفاشيين كان الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، لا لهزيمتهم انتخابياً فقط، بل لتدميرهم عبر العنف المسلح".

كذلك إنَّ الصراع الاجتماعي يكمن في بعض الأحيان على دور الدين فيه. يقول كارل ماركس: "إنَّ الدين هو تأوُّه الإنسان المظلوم وقلب لعالم بلا قلب وروح لعالم بلا روح. إنه أفيون للناس. "إذاً رأى ماركس أنَّ الدين يعطي الأمل ويخفف من الوجع في عالم الظلم. ويمكننا أن نقارن رؤية ماركس للدين هذه مع الذين يدعون تمثيل المسيحيين ويريدون للدين أن يؤجج التطرف واللامساواة وإدخال المسيحية في أتون العنف في خدمة الرأسمال. هؤلاء لا يقولون لأتباعهم إنَّ أعداداً من الكهنة الكاثوليكيين في أميركا اللاتينية قتلتهم "فرق الموت اليمينية" لأنهم وقفوا مع فقرائها ومهمشيها ورفضوا حكم الطغم الأوليغارشية فاتهموا بالماركسية والشيوعية، ومنهم مطران سان سلفادور أوسكار روميرو والكهنة كاميلو توريس ولويس اسبينال. الأول طوبه البابا فرنسيس في عام 2015، والأخير أوقف موكبه في مكان اكتشاف جثته في بوليفيا، وقال: "تذكروا أحد إخوتنا الذي سقط ضحية على يد المصالح التي أرادت منعه من القتال من أجل حرية بوليفيا". في هذا الإطار، إنَّ أحد مؤشرات أنَّ فكر ماركس لا يموت، هو الاتهام المتكرر لليمين المتطرف للبابا فرنسيس بأنه ماركسي. بالطبع، هو نفى ذلك، وقال إنه على العكس، إذ "إنَّ الشيوعيين هم الذين يفكرون كالمسيحيين". اتُّهم البابا بالماركسية لأنه كهؤلاء الكهنة الشهداء وقف مع فقراء العالم ومهمَّشيه، ولأنه في الإرشاد الرسولي الأول في عام 2013 أطلق أربع لاءات: لا لاقتصاد الإقصاء؛ لا لعبادة المال؛ لا لنظام مالي يحكم ولا يخدم؛ ولا لعدم المساواة التي تنتج العنف. هذه اللاءات الأربع كانت في الصميم ضد الرأسمالية النيوليبرالية التي نظامها مبني على ما رفضه هذا الإرشاد في هذه اللاءات الأربع.

إنَّ الشيوعيين والماركسيين فخورون بتاريخ حركتهم العالمية الأممية كما بحاضرها، أما الفاشيون فيخفون تاريخهم ويتلونون بأشكال مختلفة في حاضرهم. يقول شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية والأمين العام لأكبر حزب شيوعي في العالم يضم 89 مليون عضو، إنَّ "الماركسية يجب أن تكون الموجِّه الأساسي... وعلينا أن نتذكر أنه منذ نشوء حزبنا، كان التوجه الأساسي دوماً هو النضال من أجل الاشتراكية ومن أجل الشيوعية".

في 1 أيار عام 1945 رفع جنود سوفيات راية الكتيبة 150 من الجبهة البيلوروسية للجيش الأحمر على قمة البرلمان الألماني أو الرايشتاغ ليعلنوا انتصار الشيوعية على الفاشية، بعد حرب استعرت بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية لمدة أربعة أعوام وسبقتها سنوات عديدة من الصراعات والحروب بين الشيوعية كإيديولوجية التحرر الإنساني والتقدم التكنولوجي والعلمي والمساواة والإخاء والسلام بين الشعوب، وبين الفاشية كإيديولوجية الكراهية والعنف العقلاني والإبادة والعنصرية والرأسمالية المنظمة المؤسساتية الديكتاتورية. ولا يزال إلى اليوم يسير علم النصر هذا مع العلم الروسي رمزَين لروسيا الاتحادية في عرض النصر في موسكو على وقع أنغام "الحرب المقدسة" لألكسندر الكسندروف التي تقول في أحد مقاطعها: "انهضي أيتها البلاد الكبيرة... انهضي إنها حرب حتى الموت... ضد القوة الفاشية السوداء".

نعم، لقد كانت حرباً حتى الموت، وفي نهاية الحرب انتحر هتلر وقُتل موسوليني، واليوم لا يجرؤ حتى الفاشيون الجدد على أن يذكروهما. وهنا العبرة للذين قالوا إنَّ ماركس مات: صحيح أنَّ الشيوعيين يموتون، لكنّ الفاشيين الذين يرددون أنَّ ماركس مات يموتون هم وأفكارهم.

 

المصدر: جريدة "الأخبار" اللبنانية