«باسل الأعرج» الشهيد والوصية

«باسل الأعرج» الشهيد والوصية

«إننا إذا اتحدنا جميعاً فإننا سنصبح أقوى من (الغزاة) البيض.. وهل كتب على بني جنسنا ألا يتخلصوا من ثالوث الحماقة والاستكانة والجبن؟».

من خطبة زعيم المقاومة الهندية «تِكومْسِه» في أوائل القرن التاسع عشر.

 

في ساعات الفجر الأولى من يوم الاثنين 6 آذار الحالي. دارت اشتباكات عنيفة بين إحدى مجموعات النخبة في جيش الاحتلال الصهيوني ومقاوم متحصن في «سقيفة / سدة» منزل في مدينة البيرة بالقرب من مسجدها الكبير في الضفة الفلسطينية المحتلة. ساعتان من الزمن، خاض فيها المناضل المطارد «باسل الأعرج» مواجهة عنيفة مع الغزاة، بإرادة صلبة وواعية لم تنكسر، وببندقية ورصاص استنفد حتى الطلقة الأخيرة، ليرتقي بعدها شهيداً.

لم يكن «الباسل» اسماً مجهولاً، لا للعدو المحتل، ولا للسلطة، ولا لقوى الحراك الشبابي، ولا لكوادر وأعضاء القوى والحركات والهيئات الوطنية. كان ناشطاً سياسياً وجماهيرياً معروفاً لدى الجميع، لكنه كان متفرداً بين رفاقه وزملائه، من خلال إصراره على المزج الكامل مابين البحث والمتابعة لكل مجالات المعرفة للارتقاء بالوعي النظري، وربط ذلك بالممارسة/ التطبيق. ترك عمله واختصاصه الأكاديمي «الصيدلة» وانطلق في جبال ووديان الضفة، باحثاً في أحوال الناس وتاريخهم الشفوي، ومنقباً في الأرض عن كل ما من شأنه أن يربط تاريخ شعبه بوطنه. طَوَّع الكلمات والنظريات لتتطابق مع الممارسة العملية ضد المشروع الصهيوني وأداته المباشرة «الغزاة المحتلين». قاوم مع رفيقاته ورفاقه كل إفرازات «اتفاق أوسلو» على الأرض وفي العقل الجمعي/المجتمعي. وقاد مع مجموعة من الشباب والصبايا في عام 2012 مظاهرات الرفض لدعوة مجرم الحرب «موفاز» لزيارة رام الله، واستطاعوا، بفرض صوابية موقفهم وصلابة إرادتهم واتساع التضامن الشعبي معهم، منع القاتل من القدوم، بعد أن تعرضوا للضرب والسحل على يد أجهزة أمن السلطة. تلك الأجهزة التي أعادت اعتقاله مع مجموعة من رفاقه في آذار 2016 في إحدى تنقلاتهم الميدانية في الريف الفلسطيني تحت دعاوى «التحضير والتخطيط لتنفيذ عملية مسلحة ضد العدو المحتل». تعرضوا جميعاً للتعذيب الوحشي خلال الأشهر الخمسة التي أمضوها بالمعتقل الرهيب. لكن الصلابة والتحدي قادا الجميع لإعلان الإضراب عن الطعام، ما اضطر قيادة السلطة لإطلاق سراحهم، استجابةً لحملات شعبية واسعة، ولعدم ثبوت التهمة الموجهة لهم.

توارى باسل بعد إطلاق سراحه عن الأنظار، بعد أن اعتقل العدو بعضاً من رفاقه. وتنقل متخفياً تحت اسم مستعار من مكان لآخر، في نشاط دؤوب لتعميم أسلوب ونهج المقاومة، بالفكرة والممارسة. حاصرته وحدة «يمام» الخاصة من قوات الاحتلال، وطالبته بالاستسلام. لكنه أعاد التأكيد بما كتبه وهو رهن الاعتقال في سجون السلطة «هيهات منا الذلة». رفض رفع الراية البيضاء. هذا ما قاله شقيقه في نعيه: «لم تسلم لهم، ومثلك لا يعرف التسليم. اخترت أن تكون مقاوماً وأن تموت شهيداً مقبلاً مشتبكاً لا خانعاً» وهكذا ارتقى شهيداً، تاركاً لنا بندقية مع مخازنها الخالية من الرصاص، ومئات الطلقات الفارغة وكتباً ووصية وجسداً اخترقته نيران المحتل الغادر، وكوفية مضمخة بدمائه.

لم يكن باسل شهيد الانتفاضة الشبابية الراهنة، التي تجاوزت العام والنصف، هو الأول ولن يكون الأخير. سبقته صبايا وشباب بعمر الورود، يواجهون جنود المستعمرين وقطعان مستوطنيه، بالطلقة والسكين والدهس في عمليات بطولية، فردية، تعبر عن حالة ثورية تعكس درجة التضحية الاستثنائية لدى الفرد، الذي يتعرض في كل ساعة لاضطهاد المحتلين، الذين يعملون على استباحة أرضه وبيته ومقدساته.

أضاءت وصية الشهيد باسل النور على شخصية مثقفة ومناضلة، تمتلك وعياً ثورياً، لم يتوقف عند الماضي والحاضر، بل استشرف المستقبل، بلغةٍ، عكست ثقافةً لمثقفٍ مقاتل يقف في طليعة المدافعين عن قضية تحرر شعبه ووطنه. وضع شهيدنا كل الوعي المختزن في خدمة البندقية المقاتلة من أجل التحرر الوطني. وهنا، يتماهى المقاتل المثقف «الباسل» مع شهيد الكلمة/ الموقف، الكاتب المبدع «غسان كنفاني» حين كتب: «كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه»، ولهذا كان الباسل من إشراقة أولئك الرجال الحقيقيين الذين مزجوا الكلمات/ الأفكار مع السلاح، من أجل حرية وطنهم وكرامة شعبهم. وهو ما كان يقوله في كل الندوات واللقاءات عن الثقافة والمثقف «بدك تصير مثقف، بدك تصير مُشتبك، ما بدك مُشتبك، بلا منك وبلا من ثقافتك : من كلماته في ندوة بمدينة جنين في العام المنصرم». 

في الوصية التي تركها، تكثيف للقناعات المبدئية، وللأفكار وللنهج. في البدء يلقي «تحية العروبة والوطن والتحرير» في تأكيد على الماضي والحاضر: الانتماء القومي والوطني وكيف يفهم ذلك في إطار عملية التحرير. أما صوابية الاختيار فيؤكدها بقناعة راسخة وثابتة «أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي. يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟». أما عن استشراف المستقبل فقد خاطب بكلمات كحد السيف كل من يقرأ الوصية «كان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم. أما نحن -أهل القبور- فلا نبحث إلا عن رحمة الله».بوصية ترقى إلى برنامج العمل، أكد الباسل على دور المثقف والثقافة، واستحق صفة «المثقف المشتبك» كحالة تؤسس لـ«المواطن المشتبك» مع الغزاة والتخلف والاستسلام.

آخر تعديل على الأربعاء, 22 آذار/مارس 2017 20:20