سمير أمين: ربما يكون ترامب من "الحمائم"..! 
سمير أمين سمير أمين

سمير أمين: ربما يكون ترامب من "الحمائم"..! 

 

فيما يلي نقدم ترجمة لمقالٍ مطول للباحث الاقتصادي، والمفكر الماركسي المصري سمير أمين، نشر بتاريخ 25\11. يحاول المقال المعروض في أربع نقاط أساسية، وضع انتخاب ترامب ضمن صورة بانورامية واسعة تشمل الأحداث المحورية التي عصفت بالعالم خلال الأعوام القليلة الماضية، منتهياً إلى استنتاجات نتفق مع بعضها ونختلف مع بعضها الآخر، ولكن المؤكد أنها قراءة متمايزة تحتاج للدراسة وتدعم طرح أسئلة جديدة. 

 

ترجمة مهند دليقان

1- إنّ كلاً من: (انتخاب دونالد ترامب مؤخراً، وبريكسيت، وتصاعد الأصوات الفاشية في أوروبا)، وكذلك –وبشكل أفضل- فوز سيريزا في الانتخابات، وصعود بوديموس في إسبانيا، هذه كلّها تشكل مظاهر للتعبير عن عمق أزمة نظام الليبرالية الجديدة المعولمة. هذا النظام الذي طالما اعتبرته غير قابل للاستمرار، ينهار الآن أمام أعيننا، وفي صميمه بالذات. وإن جميع محاولات الحفاظ عليه عبر تعديلات طفيفة –تفادياً للأسوأ- محكومة بالفشل.

وانهيار النظام ليس مرادفاً للتقدم على طريق بناء بديل حقيقي أفضل بالنسبة للشعوب: فخريف الرأسمالية لا يتبعه ربيع الشعوب بشكل تلقائي، هنالك فاصل يفصل بينهما؛ ولذلك فإنّ للحقبة التي نعيشها طبيعتها الدرامية المحملة بأشد الأخطار فداحة. رغم ذلك، فالانهيار إذ لا مفر منه، ينبغي التعامل به بالضبط بوصفه فرصة تاريخية للشعوب. إنّه يمهد الطريق أمام التقدم على طريق بناء البديل، وهذا الأخير يتألف من عنصرين لا انفصال بينهما: (1) على المستوى الوطني، التخلي عن الإدارة الليبرالية للاقتصاد لمصلحة مشاريع سيادية تدعم التقدم الاجتماعي. (2) على المستوى الدولي، بناء نظام عولمة متعددة الأقطاب عن طريق التفاوض.

إنّ تحقيق تقدم متوازٍ على المستويين، لن يكون ممكناً إلا في حال استطاعت القوى السياسية لليسار الجذري أن تبني استراتيجيتها وتعبئ الطبقات الشعبية باتجاهها. طبعاً لم يجر هذا حتى الآن كما تبين من فشل تجربة سيريزا، وكذلك من الغموض والتشوش اللذين اكتنفا الانتخابات الأمريكية وانتخابات بريكست، وكذلك في الدرجة المتطرفة من التهيّب وعدم الإقدام التي تسود بين ورثة الشيوعية الأوروبية.

 

2- إن النظام السائد في بلدان الثالوث الإمبريالي التاريخي (الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، واليابان) يستند إلى ممارسة السلطة المطلقة من الأوليغارشيات المالية في هذه البلدان. هذه الأخيرة، تدير منفردة جميع الأنظمة الإنتاجية في بلدانها، وذلك بعد أن نجحت في القضاء على القسم الأكبر من الشركات الصغيرة والمتوسطة سواء في الزراعة أو في الصناعة أو في الخدمات، أو في تحويلها إلى "شركات تعاقد من الباطن" (أي إلى فروع صغيرة ضمن الشركات الكبرى subcontractors)، تخدم الربح الاحتكاري لرأس المال المالي. هذه الأوليغارشيات نفسها، تدير أيضاً الأنظمة السياسية الموروثة عن "البرجوازية الانتخابية" وعن الديمقراطية التمثيلية، وقد نجحت في تدجين الأحزاب السياسية، يمينها ويسارها، مسببة تآكلاً وتهتكاً في شرعية "الممارسة الديمقراطية". كما أنها تتحكم بأجهزة الإعلام والدعاية، بعد أن نجحت في تقليص عدد "بارونات المعلومات" إلى حد يجعل منهم "أكليروس" لخدمتها الحصرية. ولا تواجه أي من جوانب ديكتاتورية القلة (المذكورة آنفاً) أي تحد جديٍ من الحركات الشعبية والسياسية ضمن بلدان الثالوث، وخاصة في الولايات المتحدة.تسعى أوليغارشيات الثالوث هذه لتمديد سلطتها المطلقة إلى الكوكب بأسره عن طريق فرض صيغة محددة من العولمة: عولمة الليبرالية الجديدة. ولكن ها هنا، يواجهون مقاومات أشد من تلك التي يواجهونها في بلدان الثالوث التي تستفيد مجتمعاتها من "ميزات" الهيمنة الإمبريالية. فإذا كانت الويلات الاجتماعية لليبرالية ظاهرة في الغرب، فإنّ شدتها تأتي مضاعفة عشر مرات في بلدان الأطراف، إلى ذلك الحد الذي تغدو فيه قلة قليلة فقط من الأنظمة السياسية الحاكمة في تلك البلدان، شرعية في نظر شعوبها. ولذلك فإنّ الطبقات والحكومات الكومبرادورية في بلدان الأطراف، والتي تشكل سيوراً ناقلة لهيمنة المجمع الإمبريالي للثالوث، هي هشة إلى أقصى الحدود، ولذلك أيضاً فإنّ أوليغارشيات المركز تعتبرها –محقة- في عداد الحلفاء غير الجديرين بالثقة، وغير المؤكدين.

إنّ منطق النظام، يقوم تالياً، وبشكل منطقي، على فرض العسكرة وحق الإمبريالية في التدخل –بما في ذلك حرباً- في بلدان الجنوب والشرق. وأوليغارشيات الثالوث جميعهم "صقور"؛ ولهذا فإنّ الناتو، أداة عدوانهم الدائم، تحوّل إلى أهم مؤسسة من مؤسسات الإمبريالية المعاصرة.

ولهجة أوباما في تصريحاته التي أطلقها خلال جولته الأوروبية الأخيرة، والتي طمأن بها أتباع الولايات المتحدة الأوربيين إلى استمرار ضلوع بلاده بدورها في الناتو، هي دليل على الخيار العدواني هذا. بطبيعة الحال فإنّ المنظمة لا تُقدم بوصفها أداة عدوان –كما هي حقاً- وإنما كأداة لضمان "الدفاع" عن أوروبا. ولكن من يهدد أوروبا؟

أولاً وقبل كل شيء، مهددة من روسيا، كذلك يخبرنا الأكليروس الإعلامي السائد. الحقيقة ليست كذلك؛ فبوتين يجري انتقاده لأنه لم يقبل بالانقلاب الأوربي-النازي في كييف، ولم يقبل سلطة مافيا قطاع الطرق في جورجيا. وهو مجبر على عدم القبول، ليس لمواجهة العقوبات الاقتصادية فحسب، بل ومخاطر الحرب التي هددت بها هيلاري كلينتون بصريح القول.

من ثم، فإنّه يجري تلقيننا أنّ هنالك الخطر الإرهابي للجهادية الإسلامية. ومرة أخرى، فإنّ الرأي العام قد تم التلاعب به بالكامل حول هذا الموضوع؛ فالجهادية ليست أكثر من "نتيجة لا مفر منها" للدعم المستمر الذي يقدمه الثالوث لإسلام سياسي رجعي يستلهم الوهابية الخليجية ويتمول منها. إنّ ممارسة هذا المسمى "سلطة إسلامية"، هي الضمانة الأفضل لتدمير شامل لقدرات مجتمعات المنطقة على مقاومة إملاءات العولمة الليبرالية. وفي هذا الصدد، فقد اعترفت الصحافة الأمريكية بأنّ اتهام دونالد ترامب لهيلاري كلينتون بأنها دعمت بفعالية إنشاء داعش، هو اتهام له أساسته القوية.

ولنضف إلى ذلك أنّ الخطاب المصاحب لتدخلات الناتو ودفاعه عن الديمقراطية، هو مهزلة مقارنة بواقع الأمور.

 

3- ولذلك، فإنّ هزيمة هيلاري كلينتون –أكثر منها انتصارُ ترامب- هي خبر جيد. وربما تكون بذلك قد هزمت عشيرة الصقور الأكثر عدوانية التي يقودها أوباما وهيلاري كلينتون.

أقول "ربما"، لأنّه ليس من المؤكد أن يقود ترامب بلاده في مسار مختلف.

وفي المقام الأول، فإنّه لا الأغلبية التي صوتت لترامب، قد دعت لـ"مسار مختلف"، ولا الأقلية التي صوتت ضده أيضاً. فالنقاش قد تركز على بضع من مشكلات المجتمع في الولايات المتحدة (العنصرية ومعاداة الحركة النسوية بالتحديد). وهذا النوع من الاهتمامات والنقاشات، لا يشكك في الأساسات الاقتصادية للنظام، تلك الأساسات التي سببت التدهور في الظروف الاجتماعية لقطاعات مهمة من المجتمع. فقدسية الملكية الخاصة، بما في ذلك للاحتكارات، لا تزال قائمة، وحقيقة أن ترامب نفسه هو ملياردير، شكلت عاملاً مساعداً لا معيقاً في انتخابه. غير أنّ الجدال (ضمن الأغلبية والأكثرية) لم يهتم مطلقاً بسياسات واشنطن الخارجية العدوانية. كنا نود لو رأينا المتظاهرين ضد ترامب اليوم، يقومون بتظاهرات ضد تصريحات هيلاري العدوانية في الأمس. ولكن هذا لم يحدث كما هو واضح؛ فمواطنو الولايات المتحدة لم يدينوا مطلقاً التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، وما قامت به من جرائم موصوفة ضد الإنسانية.

رفعت حملة ساندرز الانتخابية آمالاً كثيرة بطرحها منظوراً اشتراكياً ضمن النقاش العام، وقد شرعت في تسييس الرأي العام، وهو الأمر المستحيل في الولايات المتحدة أكثر منه في أي مكان آخر. نستطيع فقط أن نستنكر استسلام ساندرز واستنفاره لتحويل الدعم باتجاه كلينتون.

إنّ ما هو أكثر أهمية بكثير من "الرأي العام"، حقيقة أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، لا تتصور أي سياسة دولية أخرى غير تلك التي هي موضع التطبيق منذ إنشاء الناتو قبل 70 عاماً، والتي تضمن من خلالها سيطرتها على الكوكب بأسره.

لطالما قيل لنا أنّ المعسكرين الديمقراطي والجمهوري، المسيطرين على مجلسي الكونغرس والشيوخ، هما "حمائم" و"صقور". والحقيقة أنّ "الحمائم" ليست إلا صقوراً تفكر أكثر قليلاً من "الصقور" قبل شروعها في مغامرة عدوانية جديدة. دونالد ترامب، وبطانته، ربما يكونون بين هذه "الحمائم"، وعلينا أن نعلم أنّه ليس أفضل كثيراً، ولكن أن نتجنب أيضاً الوقوع في الأوهام المنسوجة ضده. كل ذلك لكي نستغل هذا "العيب الصغير" في الصرح الأمريكي، لتعزيز التقدم في عملية بناء عولمة جديدة، تحترم أكثر بقليل حقوق الشعوب ومطالبتها بالسلام. هذا بالذات، هو ما يثير خوف أتباع واشنطن من الأوربيين، أكثر من أي أحد آخر.

علاوة على ذلك، فإنّ تصريحات ترامب المتعلقة بتصوراته حول السياسة الخارجية، هي تصريحات متناقضة. فمن ناحية أولى، يبدو أنّه على استعداد لتفهم مخاوف روسيا المشروعة من مشاريع الناتو العدوانية في أوكرانيا وجورجيا، وأنّ موسكو تدعم سورية في مواجهة إرهاب جهادي. ولكن من ناحية ثانية، فهو يقول أنّه سينسحب من الاتفاق النووي الإيراني. إضافة إلى أنّه لم يتضح حتى الآن فيما إذا كان عاقداً العزم على مواصلة سياسية أوباما في الدعم غير المشروط لـ"إسرائيل"، أم أنّه سيخفض هذا الدعم.

4- إنّ علينا، وانطلاقاً مما سبق، أن نضع فوز ترامب ضمن سياق أوسع كأحد مظاهر انهيار النظام. هذه المظاهر لا تزال غامضة حتى اليوم، وإذ تحمل أفضل الإمكانيات، لكنها تحمل أيضاً مخاطر مقيتة.

بعض التطورات المرتبطة بهذه الأحداث، لا تنحو -بأي شكل من الأشكال- نحو التشكيك بسلطة طبقة الأوليغارشيا الحاكمة. هذه هي الحال مع بريكسيت، وانتخاب ترامب، ومشاريع الفاشيين الأوروبيين.

من المؤكد أنّ الحملة المناصرة لـ"بريكسيت" قد استخدمت حججاً تدعو للغثيان، ولكن ما هو أهم من ذلك، أنّ هذا المشروع لا يشكك ولا يناقش الخيار الرأسمالي-الإمبريالي لبريطانيا العظمى. إنّه فقط يقترح أنّ لندن –وفي إدارتها لسياستها الخارجية- ينبغي أن يكون لديها هامش مناورة أوسع يسمح لها بالتعامل مباشرة مع شركائها، وواشنطن في مقدمتهم. ولكن وراء هذا الخيار ما ينبغي معرفته أيضاً: بريطانيا العظمى لا تقبل بأوروبا ألمانية، وهذا الوجه من أوجه بريكسيت هو إيجابي بكل تأكيد.

فاشيو أوروبا، الذين تنفخ الرياح في أشرعتهم، هم في أقصى اليمين؛ وهذا يعني أنهم لا يشككون بسلطة أوليغارشيات بلدانهم. إنهم يريدون فقط أن يتم اختيارهم من جانب هذه الأوليغارشيا، ليمارسوا السلطة في خدمتها. وهم في الوقت نفسه، وبكل تأكيد، يستخدمون عنصرية مقرفة، تمنعهم من مواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه شعوبهم.

سلطة دونالد ترامب، تقع هي الأخرى ضمن هذه الفئة من "الانتقادات الخاطئة" للعولمة الليبرالية. النغمة "الوطنية" تهدف لتقوية تحكم واشنطن بحلفائها التابعين، وليس لمنحهم استقلالاً هم أنفسهم لا يطالبون به. ودونالد ترامب، من وجهة النظر هذه، قد يتخذ بعض التدابير الحمائية الخجولة؛ وهي إجراءات طالما اتخذتها الإدارات الأمريكية، دون أن تعلن عنها، فارضة إياها على حلفائها التابعين اللذين من المحظور عليهم الرد. وهنا يظهر تشابه جزئي مع بريكسيت بريطانيا، وما أرادت تحقيقه من خلاله.

أشار ترامب أنّ التدابير الحمائية التي يفكر فيها، موجهة في المقام الأول ضد الصين. وفعلياً، فإنّ أوباما وهيلاري قاموا بذلك قبل ترامب، عبر قرارهم نقل مركز ثقل قواتهم المسلحة من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، جاعلين من الصين العدو الأساسي؛ إنّ هذه الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية العدوانية، والتي تتناقض بشكل صارخ مع مبادئ الليبرالية التي تعد واشنطن بطلتها، ستقود هذه البطلة نحو الهزيمة عبر دفعها الصين للمضي قدماً في تقوية سوقها الشعبي الداخلي، وفي البحث عن شركاء آخرين في دول الجنوب.

هل سيمضي ترامب حد إلغاء اتفاقية نافتا (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية: الولايات المتحدة-كندا-المكسيك)؟ إنّ فعل ذلك حقاً، فسيكون قدّم خدمة عظيمة لشعبي المكسيك وكندا، عبر تحريرهما من وضعهما الراهن كتابعين عاجزين، وتشجيعهما على الانخراط في اتجاهات جديدة مأسسة على الاستقلال الذاتي للمشاريع الشعبية ذات السيادة. من سوء الحظ أنّه من غير المحتمل أن تسمح الغالبية العظمى من الممثلين الديمقراطيين والجمهوريين في مجلسي الشيوخ والكونغرس، لترامب بالمضي إلى هذا الحد. وهؤلاء وصلوا مقاعدهم أساساً عبر دعمهم غير المشروط لمصالح الأليغارشيا الأمريكية.

إنّ العواقب المحتملة لعداء ترامب لـ COP 21 هي أقل أهمية مما يروج له أنصار الاتفاقية من الأوروبيين، ذلك أنّه لسوء الحظ –أو أنه ينبغي أن يكون معروفاً- أنّ الاتفاقية ستبقى حبراً على ورق طالما أنه لا نية لدى الدول الغنية لتنفيذ تعهداتها المالية الخاصة بهذه الاتفاقية.

رغم النصر الانتخابي لـ"سيريزا"، وتقدم بوديموس، إلى أن مشاريع هذه القوى الجديدة بقيت حمّالة لتناقض كبير: فهي ترفض التقشف من جهة، ومن الجهة الأخرى فإنّ لديها أوهاماً حول إصلاح الصيغة الأوروبية. وقد أثبت التاريخ خطأ هذا التقدير حول إمكانية الإصلاح: إنّه مستحيل في الواقع.

 

في أميركا اللاتينية، فإنّ التقدم الذي تم إحرازه خلال العقد الأول من القرن، يخضع الآن للمساءلة؛ الحركات التي قادت هذا التقدم قد قللت بلا شك من تقديراتها حول الطابع الرجعي للطبقات الوسطى في بلدانها، وخاصة في البرازيل وفنزويلا، حيث رفضت تلك الطبقات مشاركة الطبقة العاملة فوائد التقدم والتنمية الحاصلين.

المشاريع الناشئة – خاصة في روسيا والصين- لا تزال غامضة بالقدر نفسه: فهل الهدف هو "الالتحاق" باستخدام أدوات الرأسمالية وضمن سياق العولمة؟ وهو طريق رأسمالي أيضاً، ولكن هل هي مجبرة عليه؟ وإن كانت على دراية بأن مشروعاً كهذا هو أمر مستحيل، هل ستتجه القوى في هذه البلدان بشكل أكبر نحو مشاريع سيادية شعبية؟