الموصل - الرقة: تحرير أم تحريك؟

الموصل - الرقة: تحرير أم تحريك؟

لا يمكن فهم أبعاد معركة الموصل، ومآلاتها المفترضة دون الوقوف على جملة وقائع وأحداث سبقت المعركة في الميدان العراقي والإقليمي، والدولي.

 

مع العجز المزمن لنظام المحاصصة الطائفية، عن حل المشاكل المنتصبة أمام بلاد الرافدين، وإفلاس خيارات النخب الطائفية والقومية، ووصولها إلى طريق مسدود، عَبّر الشارع العراقي عن نفسه، وتفجرت قواه الكامنة بأشكال مختلفة، أخذت طابعاً مطلبياً اقتصاديا تراكمياً، انعكس في المظاهرات المليونية بعد افتضاح فساد تلك النخب، وجاءت سلسلة الفظائع التي ارتكبها تنظيم داعش في العراق منذ 2014 بمثابة صدمة في الوعي الجمعي العراقي، لتفرض أيضاً على الشارع العراقي، جملة أسئلة ذات طابع وطني ..وكرد فعل على ممارسات التنظيم الإرهابي، باتت ضرورة مواجهة داعش موقفاً شعبياً عراقياً عاماً، واستطاع أن يفرض نفسه على النخب العراقية، مستفيداً من تهتك وفضائح المنظومة الحاكمة، وتنازعها على السلطة والامتيازات، وفي ظل استمرار تدفق شلال الدم العراقي، وبعد الهزائم المذلة والملتبسة للجيش العراقي أمام داعش، التي أطاحت بحكومة المالكي سيئة الذكر...صحيح أن هذا الموقف الشعبي العراقي الناهض لم يعبر عن نفسه في إطار سياسي له برنامج متكامل، ولكنه استطاع أن يلزم النخب العراقية  على تجميع القوى ضد داعش، بمعنى آخر إن الحراك الشعبي العراقي، سواء كان في شقه الاقتصادي – الاجتماعي، أو في شقه الأمني أنتج حالة وطنية عراقية، انعكست بالملموس في تحرير مناطق واسعة من سيطرة الفاشية - الداعشية حتى بات انكفاء داعش المستمر، السمة الأبرز في الميدان العراقي خلال العام الفائت، وتقلصت المساحات التي يسيطر عليها من الأراضي العراقية، وذلك بمشاركة القوى العراقية كلها، بغض النظر عن انتمائها الطائفي.

تجاذبات وتناقضات

واضح أن هناك قوى عديدة دولية، وإقليمية، وعراقية تحاول توظيف هذه المعركة لصالح أجندتها الخاصة، بعيداً عن المصالح الوطنية العراقية الجامعة، وتحويلها إلى معركة تفجير الألغام المزروعة في الأرض العراقية، منذ بريمر ومجلس حكمه الانتقالي، حيث تتخلل العملية المزيد من التعقيدات المقصودة، المتعلقة بطريقة إدارة الموصل بعد التحرير، ونمط علاقتها مع الحكومة المركزية، ودور حكومة الإقليم الكردي، في مسألة المناطق المتنازع عليها، والحديث التركي الوقح، عن عائدية الموصل تاريخياً، ووجود قواته في بعشيقة، والأهم الدور الأمريكي، الذي يحاول تفعيل هذه التناقضات الثانوية كلها والاستثمار فيها، وابتزاز الأطراف المختلفة، إما لمنع استكمال عملية التحرير، أو تحويلها إلى صاعق تفجير جديد، إقليمي أو داخلي عراقي، ما يعزز هذه القناعة، هو الدفق الإعلامي الأمريكي مجدداً، عن التقسيم كأحد الخيارات المطروحة على جدول الأعمال. 

غضت واشنطن الطرف عن تمدد داعش على الأرض العراقية والسورية في المرحلة السابقة، واكتفت بعمليات عسكرية جوية زادت فعلياً من نفوذ قوى الإرهاب، ولكنها لم تعد تستطيع تجاهل الحالة الوطنية العراقية الناشئة، التي تكونت خلال عمليات تحرير المدن والبلدات العراقية، والتي وصلت إلى ذروتها  في  التحضير لمعركة الموصل وخلالها، وتحاول الآن تلقف هذه الحالة، والتحكم بها، وصولاً إلى إمكانية تمييعها، وتحويلها إلى معركة تحريك، بدل أن تكون معركة تحرير حقيقية، كما يريد العراقيين، الذين فرضوا على نخبهم تأجيل خلافاتهم المزمنة على السلطة والثروة لصالح الاتحاد ضد داعش.

واشنطن العاجزة

باتت  واشنطن عاجزة عن منع محاربة الإرهاب، والاستثمار في وجوده، وايقائه كأداة ابتزاز، بعد الدخول العسكري الروسي المباشر على خط مواجهة الارهاب، فاضطرت إلى الانخراط في هذه العملية، مع محاولة تلغيمها من الداخل، بعد تقديم الطرف الروسي نموذجاً جديداً وملموساً في محاربة الإرهاب، ليس من خلال الأعمال الحربية الفعالة والمجدية ضد الإرهاب فحسب، بل أيضاً من خلال ربط محاربة الإرهاب مع الحلول السياسية التي لحل القضايا المزمنة  والمستجدة في بلدان المنطقة، وتعيد الاعتبار إلى شعوبها في تقرير مصائر هذه البلدان، بعيداً عن مشاريع الهيمنة الدولية، وتوابعها من النخب البرجوازية المحلية.  

ممّا لا شك فيه، أن داعش ستطرد من الموصل، وأيضاً لاشك بأن تحرير هذه المدينة الاستراتيجية الهامة، سيكون نقطة تحول في العراق والمنطقة، كما كان احتلالها أو تسليمها لداعش عام 2014نقطة تحول في مصير العراق وسورية، ولكن القوى الوطنية العراقية، والحراك الشعبي العراقي، مدعوان إلى الحذر الدائم من المحاولات الرامية إلى توظيف الوضع الراهن، لصالح سيناريوهات بالضد من مصالح الشعب العراقي. 

الرقة أيضاً!

بالتزامن مع بدء معركة «تحرير» الموصل بدأ الحديث عن معركة «تحرير» الرقة، وعلى الفور بدأ التجاذب الدولي والإقليمي، حول القوى التي ستشارك في العملية، لتظهر مرة أخرى تناقضات جديدة..

وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، أرسل رسالة واضحة بالقول: «قد يتمكن المسلحون من الهروب إلى سورية إلا أننا سنقضي عليهم هناك» الأمر الذي يبرر ترك الكوريدور العسكري ما بين الأراضي السورية والعراقية مفتوحاً.   

أما تركيا التي تعلن ضرورة مشاركتها في أية عمليات عسكرية وسياسية في العراق، وتطلق يومياً تصريحات حول تقدمها في شمال سورية، وتصريحاتها المتتالية عن مناطق آمنة، وعن مدن ومناطق سورية يجب أن تقوم القوات التركية «بتحريرها».

اللافت في هذا السياق، ما قاله البنتاغون: «نحن لا نعمل في الوقت الحالي مع تركيا على إقامة منطقة آمنة على الحدود.. ولا نعتقد بأن منطقة آمنة من شأنها أن تحل القضايا الأساسية على الأرض، لأن القتال على الأرض مستمر». أي أن وزارة الدفاع الأمريكية تنفض يدها من خطط تركيا بشأن إقامة مناطق عازلة، وفي الوقت نفسه تغمض عينيها عن تنفيذ أنقرة هذا السيناريو، الذي قد يحدث شرخاً  بين تركيا وروسيا في أية مرحلة من مراحل الصراع المقبلة.  

وعلى الرغم من إنكار البنتاغون التعاون مع القوات التركية بشأن «المناطق الآمنة»، إلا أن وزير الدفاع الأمريكي أكد: أن خطة تطويق الرقة والسيطرة عليها ستتم قريباً، وأن المحادثات مستمرة مع تركيا بشأن الدور الذي يمكن أن تلعبه، و«لكننا نمضي قُدماً الآن في العملية وفقا لخطتنا». وفي الواقع فالدور الذي يتحدث عنه كارتر، هو دور محتمل، ويعتمد بالدرجة الأولى على شروط قاسية متبادلة بين الولايات المتحدة وتركيا، الأمر الذي  يعني بقاء قوات سورية الديمقراطية تحت الابتزاز الدائم، من خلال إمكانية التلويح بالتنسيق مع تركيا، وفي الوقت نفسه ابتزاز تركيا بهذه القوات في ظل التأكيد الأمريكي على دور أساسي لهذه القوات في معركة تحرير الرقة، بمعنى آخر تحاول واشنطن أن تجعل معركة الرقة هي الأخرى معركة تحريك ملفات، وخلط الأوراق.

موسكو الهادئة كعادتها، تتعاطى مع الشغب الأمريكي بأعصاب باردة، طالما أن خيارتها بالحرب على الإرهاب تمضي قدماً إلى الأمام، وهي المدركة على ما يبدو بأن العربدة الإعلامية الأمريكية، لن تتمخض في النهاية، إلا عن الجلوس على طاولة المفاوضات، وراحت تعلن الهدنة تلو الأخرى في حلب، لتخوض معركة مركبة، عسكرية تقلم من خلالها أظافر القوى الفاشية من جهة، وسياسية تحشر واشنطن في الزاوية الضيقة من جهة أخرى، مستندة على تقدم الوزن السياسي والعسكري لها ولحلفائها.