عن الاختراق والتمويل الأجنبي ..  شرطة العولمة المحلية ..!!
أحمد عز الدين أحمد عز الدين

عن الاختراق والتمويل الأجنبي .. شرطة العولمة المحلية ..!!

"1" وجدتني هذه المرة أكتب تلقائيا,تحت عنوان "الاختراق" الذي اخترته لسلسلة مقالات مطولة, قبل أكثر من أثنتي عشر عاماً في مواجهة هذه القضية ذاتها, بغض النظر عن الصور, والوجوه والأسماء .

ذلك أنني اشعر الآن, أن أولئك الذين سلقوني بألسنة حداد, وصوبوا أمضى أسلحتهم من افتتاحيات كبريات الصحف القومية, ومن زواياها ومراكزها, ثم عمقوا هجومهم المضاد عبر بعض صحف المعارضة وشاشات التليفزيون إنما كان أستأسادهم ضعفاً واستقواؤهم خوفا وإيمانهم زيفا

وأنه رغم كل ما تدفق عليهم من أموال, وما تسلقوه من مواقع تأثير ونفوذ وما بذل لهم من فرص حضور ولمعان فقد حرثوا في البحر لا في الأرض وإن بضاعتهم قد أصابها البوار وحل بها الكساد

بل إنني أتصور أن عصبة فكرية وسياسية في تاريخ الوطن كله لم يقدر لها أن تسقط في لحظة عري وانكشاف في هذا العمر القصير وبهذا الوضوح الساطع  كما إنني أتصور أننا لم نواجه من قبل عصبة فكرية  قابلة لأن يستأجرها الأجنبي. فتلك حالة فريدة يصعب حتى قياسها على تلك المجموعات متعددة الجنسيات التي أراد محمد على أن يطعم بها مشروعه

ولقد بدا الأمر لي في أحيان كثيرة وكأنه ينطوي على مفارقة كبيرة  إذ أن عناصر بارزة من هذه العصبة الفكرية والسياسية ظلت تلعب دورا يشبه أبطال مسرحية الكاتب السويسري "ماكس فريش" حيث مضوا يشعلون الحرائق في أنحاء المدينة معتمدين على غفلة سكانها بينما كانت عناصر مؤثرة في بنية الحكومة تبدو وكأنها قد تقمصت شخصية السيد "باندمين" في المسرحية ذاتها، والذي يتطوع بتقديم أعواد الثقاب لهؤلاء المخربين, عندما يطرقون باب بيته ثم يجلس مطمئنا وهم يضرمون النار في أثاثه وثيابه.

غير أن هذه المفارقة لم تصمد أمام نظرة أعمق فالحقيقة أننا أمام جناح فكرى قد نبت ونما في وعاء خاص مع قرينه الاقتصادي, أي انه طبعة فكرية خاصة لنمط اقتصادي خاص بينها وشائج قربى لا تخطئها العين.

إننا أمام اتساع لظاهرة وكلاء الشركات الأجنبية على حساب المنتج الوطني, سواء أكانت هذه الشركات تقوم بتسويق أجهزة ومعدات ومواد استهلاكية أم كانت تقوم بتسويق أفكار ومضامين ورؤى وكلتاهما تعمل متضامنة مع الأخرى لخدمة قانون القيمة وتقزيم الدولة وإضعاف منظومة القوة في بنيتها.

بل إن تعبير التضامن بينها ليس دقيقاً، فالحقيقة إننا أمام تقسيم وظيفي يشبه ما يحدث عند إدارة معركة عسكرية هجومية, حيث تتكفل المدفعيات الثقيلة بتهرئة دفاعات الخصوم قبل أن يكون بمقدور المشاة أن يتقدموا ليستولوا على قطعة من الأرض ثم تأخذ المدفعيات في تهرئه عمق أكبر في الدفاعات المقابلة ليتم الاستيلاء على قطعة ارض جديدة، وهكذا ظلت توضع ملايين الدولارات في فوهات مدفعيات بعض الجمعيات ومراكز الأبحاث والأكاديميين والكتاب، لتتحول إلى متفجرات تمزق الدفاعات الوطنية قبل أن يتقدم مشاة السوق لتحريرها.

ولعل تعبير "التحرير" نفسه على الجانبين يشي بصدى نفسي عميق بالطبيعة المزدوجة لهذه المعركة في أذهان أصحابها.

"2"

إن سلسلة طويلة من المفارقات في قضية الاختراق والجمعيات الأهلية ينبغي إن تخضع الآن للتفتيش في أسبابها وعللها.

لقد بدأ العمل الأهلي في مصر, كجمعيات أو معاهد بحثية في وقت مبكر من القرن التاسع عشر ولكنه بدا بسمات بالغة الخصوصية, فقد تميز على جانب بأنه انبثق من موقف دفاعي ذاتي عن العقيدة والهوية, وفى مواجهة إرساليات تبشيرية غربية استهدفت الإسلام والقبطية المصرية معاً, وكان في ذلك نقيض نشأة جميع أشكال العمل الأهلى في أوربا التي انبثق من فكرة سد الفضاء الاجتماعي بين الرأسماليين وحكوماتهم, ببذل بعض المساعدات في مجالات الرعاية الاجتماعية والتعليمية  وتميز على جانب آخر بان جوهر رسالته كان ثقافياً بالأساس فالجمعية الأهلية الأولى التي شكلها المصريون حملت اسم "معهد مصر للبحث في تاريخ الحضارة" والثانية حملت اسم "الجمعية الجغرافية" أما الثالثة فكان اسمها "جمعية المعارف".

وكان العمل الأهلي المصري يمثل في ذلك نقيض نشأة أشكال العمل الأهلي في أوربا, التي كانت معنية بالرعاية الاجتماعية والاقتصادية . ثم انه تميز على جانب ثالث, وبسبب ضغوط قضية الدفاع عن الهوية والخصوصية الوطنية بأنه أسهم في تعميق أواصر الوحدة الوطنية وسد ذرائع الأجنبي لتقويض دعائمها, فعندما تأسست جمعية المساعي الخيرية القبطية, كان من بين مؤسسيها الشيخ محمد عبده ومحمد النجار وعبدالله النديم .

وقد قدر لهذه الجمعيات بعد ذلك إلا تكون فقط بوتقة لإنضاج أهم القيادات السياسية والفكرية ، وحدوية كانت أو تحديثية, ولا أن تكون فقط مدرسة لبناء نخب جديدة سياسية واجتماعية وفكرية, بل أن ترمى بعد ذلك بجهودها ومنتوجها نحو تأسيس مدارس وطنية انبثق منها بعض مقدمات الأحزاب السياسية المصرية.

ما الذي حدث-إذن- لكي تتحول حلقات أساسية في العمل الأهلي المصري بدوره وتاريخه بعد مسيرة قرن ونصف من عمل وطني تطوعي  يعتمد على الذات إلى عمل مستأجر يعتمد على الآخر ومن عمل ثقافي وفكري يجاهد للدفاع عن الهوية الذاتية, ويخصبها ويحميها من عاديات الزمن إلى عمل آخر وطبيعة أخرى ليست بعيدة عن إتلاف هذه الهوية وتعريضها للتشوه وأحماض الإذابة.

ومن عمل سياسي يحمى الوحدة الوطنية ويدعم صلابتها إلى توجّه بديل ليس ببعيد عن فصم عرس هذه الوحدة.

"3"

على مسار هذه السلسة نفسها من المفارقات التي ينبغي إن تخضع للتفتيش في أسبابها وعللها تلك الصور المتناقضة, والتي يعكسها نمط هذا "الاختراق" بأفكاره وعناصره وممارساته ونجومه.

.كيف يمكن إن يقود التفكير في إقامة أبنية وأنشطة أهلية موازية للحكومة هروباً من سطوتها ومن السقوط في أحضانها  إلى السقوط في سطوة حكومات أجنبية، وهل يمكن إن يكون مثل هذا النمط صحيحاً, إذا كان مردوده المباشر على هذا النحو هو تعميق مباشر لتأثير العوامل الخارجية في حقل السياسة الداخلية.

كيف يمكن إن تقود هذا النمط تفكيراً أو سلوكاً إلى تعميق الديمقراطية في مصر إذا كان مردوده المباشر وبالاً على الديمقراطية ذاتها

إن الديمقراطية على مستوى طبعتها الغربية الواضحة ليست جمعيات أهلية ,وجماعات تعمل في مجال حقوق الإنسان وإنما هي أحزاب سياسية تصوغ مصالح وأفكار قوى اجتماعية بعينها, ثم نقابات عمالية ومهنية تدافع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية لكتل محددة من هذه القوى .

والحاصل عمليا.أن هذه الجمعيات أسهمت بفاعلية في تجريف الأحزاب السياسية المصرية, على شاكلة تجريف التربة الزراعية, فحولت اهتمامات بعض, كوادرها النشطة إلى زوايا ضيقة بينما أفسدت البعض الآخر وبنقله من ضفة نضال سياسي يدفع من ذاته ليأخذ المجتمع إلى ضفة متعهد مأجور يأخذ لذاته ليدفع المجتمع.

ولذلك إذا كان تقزيم الدولة هدف أساسي لنمط الاختراق فكرياً وسلوكياً فإن تبوير الأحزاب السياسية والنقابات هدف آخر اشد ما يكون ارتباطاً وتلازماً مع الأول .

كيف يمكن إن يقود هذا النمط تفكيرا وسلوكا إلى إشاعة تلك القيم الليبرالية التي يصدح بأغانيها هذا الكورس النشط صباحاً ومساء؟

إن المجتمع كله سيصبح على هذا النحو ضحية تمثيل مشوه لمثال ليبرالي مشوه أيضا ..

هؤلاء الذين يضعون أنفسهم في موضع القيادة الفكرية الجديدة التي تتحمل مسؤولية إعادة تأهيل المجتمع المصري تربوياً وتعليما وفكريا "كأنه كائن معاق" هم الذين يعيدون تأهيل بعض المتطرفين بتدريبهم على أعمال التنصت والتزوير

وهؤلاء الذين يشنفون أذاننا بالحديث عن الشفافية هم الذين يعملون من وراء حجب.. ويطلون وجوههم بأكثر مساحيق البحث العلمي كذباً و زيفاً.

كيف لا يكون المجتمع –إذن- تمثيلا مشوها ,لمثال ليبرالي مشوه أيضا, ينتهي في التطبيق العلمي ,إلى هذا الصنف ,من الليبرالية الملوثة .

"4"

في حمأة الدفاع عن "الاختراق " ظهرت حمى تبشيرية بمبررات جديدة لاستحسان قبول التمويل الأجنبي, وهى مبررات استندت إلى منهج موحد, وإن اختلفت الصورة, يقوم على غمس رغيف التمويل الأجنبي في الملح المحلى, ليسهل قضمه وابتلاعه, وتعددت أنواع الملح فأصبح تارة يحمل مذاقا ماركسياً وتارة يحمل مذاقا خالصاً, ولكننا في كل الأحوال أمام أنواع من الملح قد تسهل البلع ولكنها لا تخلو من السموم:

1- هناك من صاغ مبرراته كلها في متوالية منطقيه واضحة, فإذا كانت أموال التمويل قادمة من الغرب الذي نزح أموال العالم الثالث وثرواته, فأنها بعض قليل مما نزحته الظاهرة الاستعمارية من وطننا, وبالتالي فإنها أموالنا التي ردت إلينا وليس ثمة غضاضة في أن نقيض عليها... وإضافة إلى أن التبرير يفصل عامداً.. ومتعسفاً بين المال الدولي وبين منظومة أهدافه الذاتية ويحوله إلى صنبور مياه يتدفق ليروى الظمأى من السياسيين أوالأكاديميين في العالم الثالث دون أن يعنيه إذا توضؤوا به ليصلوا قبل أن يذهبوا إلى الفراش, فانه ينطوي على منطق استحلالي ذاتي غريب

2- وهناك من صاغ مبرراته كلها بمنطق استعارة دور الدولة والحكومة لنفسه أي بوضع نفسه كائناً أو هيكلاً موازياً للدولة في المجتمع وعلى خلفية هذا المنطق تدفقت المبررات فإذا كانت الحكومة تحصل على معونات أجنبية فلماذا لا يكون من حق الأفراد أو الجماعات أن يحصلوا بأنفسهم على هذه المعونات؟ ثم قدم البعض الآخر ما ينشط ذاكرتنا.. لنفهم أن الأعمال القومية الكبرى في حياتنا قد تمت بمعونات أجنبية وأن ذلك لا علاقة له بطبيعة النظام أو الأشخاص بدليل أن السد العالي ذاته قد تم بناؤه بمعونات اقتصادية أجنبيه.

وعندما يستند الدفاع عن المعونات الأجنبية تمتص جانباً منها جيوب السماسرة ثم جيوب حفنة سيدات متزعمات ثم يذهب فائضها لإقامة ورشه تدريب الأعضاء على الصورة المثلى لكتابة التقارير ..أقول عندما يستند الدفاع عن الحالة السابقة إلى معركة "السد العالي" فإننا باليقين أمام عور فكري واضح بشكل علامة فارقة على فقدان "حاسة التناسب" أو على محاولة لإفقادها أو إفقارها وطنياً, كذلك الدفاع الذي يحاول أن يقيم من حفنه مستأجرين للعمل كياناً موازياً للدولة والحكومة.

3 - وهناك من صاغ من خلال ذلك دفوعاً أخرى عن دوره الذاتي النزيه وعن قيمة العمل التطوعي لا تلبث أن تسقط وحدها, إذا قدر لأحد أن يراجع كشوف مكافأة الاجتماعات وبدلات السفر والطائرة العابرة للقارات والإقامة الغدة في فنادق النجوم الخمس, ليتأكد أن قشرة العمل التطوعي, إنما تخفى تحتها فرص تربح... ومغانم أرصدة ثم مغانم أخرى غير محسوبة, تنتفخ بموجبها أوردة الظهور الاجتماعي وبحضور الأسر على شاشته المكبرة, ولذلك فان الثغرة القانونية التي نفذت وتنفذ منها.. مثل هذه الجمعيات غير الحكومية على أساس أنها "شركات مدنيه غير هادفة للربح "هو استبدال للمضمون بالشكل..لأن المغانم الذاتية هي حصاد العمل التطوعي الأول.

4 - أما عن التعلة المستديمة بمنطق عصر تدفق المعلومات فالمفارقة فيها أن الظاهرة التي تفرض نفسها على الأجهزة الدولية تتلخص في استخلاص دروس فشل تكنولوجيا التجسس وأدوات الاستشعار عن بعد في رصد مصادر التهديد ونمو المخاطر وانفجار التحديات التي بدت فوق خريطة واسعة في أسيا وإفريقيا مما يفرض العودة إلى الاعتماد المباشر على الحواس البشرية المباشرة, وهو ما يفرض بدوره إعادة تحديد لمفهوم "السرية الإستراتيجية". ذلك أن الأقمار الصناعية لا تلتقط ما في الأدمغة.

"5"

على طاولة تشريح بنية هذه الجماعات أو الجمعيات المتسربلة بقماش المجتمع المفتوح, ثم منهجاً ثم نتائج إشاعة هذا المنهج وإسباغ ملامح وطنية وديمقراطية عليه يمكن اختيار طرق الاقتراب التالية:

1- 1 نحن بصدد بنيه أخذت في النمو بوتائر متلاحقة، فالملاحظ أن جميع الجمعيات التي اصطفت تحت سقف حقوق الإنسان, خضعت لقانون ذاتي غريب يشبه قانون الانقسام اللا جنسي في كائنات الخلية الواحدة, حيث تنقسم الخلية إلى اثنين, ثم يمضى انقسام جديد بدوره مخضعاً الخلايا الجديدة لنفس القانون  والتفسير واضح في أن بعض مكونات الجمعية المنقسمة تدرك بعد وقت قصير مصادر التمويل, ثم شروط التكيف، ثم تواتيها الفرصة للانقسام كي تنفرد بأرباحها ومغانمها. أما الأمثلة فهي واضحة ومكررة بأسمائها ووجوهها ولا تحتاج إلى تدليل.

2- نحن بصدد بنية مغناطيسية جاذبه ولهذا تشكل حقل تأثير في الحياة السياسية وهذا ما يفسر هذا الحراك الحاد الذي يمثله انضمام أسماء بعينها إليها, كانت قبل سنوات قليلة تشكل مواضع حصينة في خطوط القتال ضدها  وفضحها واستعداء الرأي العام عليها فقد تحول خصوم الأمس المزمنون إلى رفاق اليوم المتكيفين والذين أبلوا بلاء حسنا في تجديد مفردات خطاب الدفاع عنها وبالتالي أضافوا إلى جاذبيتها مزيدا من القوة والتأثير وعلى الجانب الآخر - الحزبي-والنقابي - مزيدا من الإضعاف بحكم عوامل التعرية وعواصف التجريف.

3- نحن بصدد بنية ترتفع في الحصيلة النهائية من درجة تأثير العامل الخارجي في الحقل السياسي والمجتمعي الوطني وتحول العمل التطوعي في مجالات الخدمة الوطنية إلى عمل مستأجر لحساب شبكة تمويل خارجية شديدة التداخل والتعقيد, ولهذا فإنها لا تعمق- فقط- من المناخ التبعية ولكنها تجعل النار قريبة من حطب مفهوم الوطنية ذاته, مما يضع في أيدى مراكز السيطرة الأجنبية ذخيرة حيه يمكن استخدامها في لحظات الصراع أو الصدام بين مصالح القرار الوطني ومصالح القوى الأجنبية.

"6"

لقد تحلقت حلقات الهجوم والدفاع كلها حول تعبيرين هما:"المجتمع المفتوح" و"المجتمع المدني"  وهما في نسيجهما الحقيقي أبعد بكثير من أن يتحولا إلى أسنه رماح في صدر مفهوم الأمن القومي.

1- إن تعبير "المجتمع المفتوح " ينتسب إلى عنوان كتاب ذائع الصيت أصدره عند نهاية الحرب العالمية الثانية مفكر غربي هو"كارل بوبر" وأخضع فيه محاولات كلها لاستبيان علل المجتمع الغربي إلى تصور مسبق بان الأيديولوجيات إلى تصادمت..فوق رقعة الحرب,إنما كانت وليدة فلسفات بعينها ,خلقت عقليات مستبدة حاكمة أدت بدورها إلى ما أطلق علية "المجتمع المغلق" وقد اختار"بوبر" ثلاثة فلاسفة هم :"أفلاطون" و"هيجل" و"ماركس" محملاً النزعة التاريخية عندهم على وجه التحديد المسئولية عن الأزمات الأوربية باعتبار إن أفكارهم تمثل قوالب المجتمع المغلق سواء جمهورية أفلاطون الفاضلة أو دوله هيجل الأخلاقية, أو سلطة ماركس الطبقية, وبعيدا عن النزعة الغير علمية في أفكار "بوبر" والتي لم توجه ضد النازية التي أشعلت الحرب الكونية كما كان حال الفكر الليبرالي عامة وخاصة دراسة فرانكفورت فقد حددت لنفسها مهمة واحدة هي محاولة غسل أيدي المنافسة الرأسمالية من بركة الدم التي خلفتها الحرب العالمية في فجاج واسعة من العالم فلم يكن تعبير "المجتمع المفتوح" رغم انه أصبح الأكثر جاذبية جزءاً من دفوع المدرسة الليبرالية أو من فلسفتها.

2- أما مصطلح "المجتمع المدني" الذي تتفرغ به رؤوسنا صباح مساء فهو أيضا لا ينتسب إلى مرحلة الصعود الفكري الليبرالي وإنما هو بالمفارقة مصطلح ماركسي خالص وألفه ماركس لبناء صوره ذهنية على ما أطلق علية الطبقة البرجوازية المسيطرة والتي تحدد بمكوناتها وتأثيرها في الهيكل الاجتماعي ما يفرض سيادتها على كافة الطبقات والمؤسسات بما في ذلك السلطة السياسية التي تجلس على مقاعد الحكم وتفرض بالتالي ديمومة على الأوضاع القائمة, ثم وسع التعبير بمعنى آخر وهو قيام سلطة أهلية موازية لسلطة الدولة أو الحكومة لكيلا تمارس الأخيرة دورها متفردة,لكن المشكلة في حالتنا أن اختلاق سلطة موازية من الجمعيات الأهلية بالأساس لا تجد في محاولة هروبها من الحكومة الوطنية سوى السقوط في أحضان حكومات أخرى ليست بالحتم والضرورة.

3- لم يصدر عنا في كل ما كتبنا ما يعنى إننا ضد المجتمع المفتوح, ولكن صدر منا ما يؤكد إننا ضد المجتمع المكشوف والأخيرة في التعريف هو المجتمع الذي نقل فيه درجة الاعتماد على الذات وتزداد درجة الانكشاف أما الخارج وتزيد بالتالي فاعلية إعادة صياغة أوضاعه الداخلية من خارجه. ولم يصدر عنا أيضاً ما يفيد أننا ضد مجتمع مدني حقيقي, ويغض النظر عن التعبير مكوناً ودلالة لكننا بالضرورة ضد أن يتم إنضاج هذا المجتمع من حضانات أجنبية تتولى بطريقتها رعايته وتسميته والإنفاق عليه وليس أدل على ذلك من إن بعض الذين يجهرون بأنهم يأخذون على الحكومة استجابتها لضغوط إعادة الهيكلة الاقتصادية ينخرطون طائعين في تيار"منظم" لإعادة هيكلة حقيقية للمجتمع, فكرا وقيمه, وخصوصية, وكان العجز عن التعبئة الشعبية في الداخل وعن بناء مواقع ارتكاز وطنية ينتهي أعراضاً وأصحاباً إلى البحث عن سند خارجي للاستقواء والصعود.

"7"

هناك من أفتى بضمير مستريح بأن بحوث الرأي العام لا تنطوي على قيمة في مجال المعلومات أو التجسس. لماذا؟ لأن الرأي العام سريع التغير وهذه الاستطلاعات لا تعكس سوى فترة زمنية محدودة فيه, ونصف هذا الكلام صحيح بالفعل, وهو ما يتعلق منه بسرعة تغير اتجاهات الرأي العام, وهى بديهة يدركها العقل المضاد, ويستطيع بسهولة أن يتلاشى تأثيرها,كيف؟ بشبكة أبحاث قطاعات زمنية متتالية, وتعمل في الوقت نفسه عبر مستويات اجتماعية مختلفة, بل إن تراكم مثل هذا العمل ينطوي على قيمة أكبر لأنه لا يستطيع أن يرسم حدوداً واضحة للمؤثرات المادية والمعنوية محلية أو إقليمية أو دولية التي تترك بصمات أوضح على الرأي العام, وبالتالي المحددات الأكثر تأثيراً في اتجاهاته, مما يشكل ضوابط فرضية لرسم صور مختلفة متوقعة لها, سوف أضرب مثلاً إضافياً عملياً لأهمية استطلاعات الرأي ذاتها, أنه خلال أزمة إقليمية ماضية تبلور في خلالها موقف مصري رافض لتدخل أجنبي بالقوة مستندا إلى رفض شعبي مصري عريض لمنطلق القوة, كان هناك من أجرى استطلاعا تليفونياً مبتكرا لجانب من الرأي العام في مصر للإجابة على سؤال واحد:هل الموقف الرسمي المصري يستند إلى موقف شعبي بالفعل, وفيما احسب فإن الإجابة كانت قاطعة وبالإيجاب.

"8"

ماذا يستهدف العقل المركزي لشبكة التمويل الدولية التي تعمل في هذا الاتجاه؟ إنه يستهدف إضافة إلى نزح المعلومات والبيانات وتبديد الجهود إلى مسارب جانبية, خلق شكل من أشكال الشرطة المحلية أو الأهلية ولكن ذات صفات كوكبية مهمتها أن تعيد تنظيم المرور الفكري والاجتماعي مستقوية بروابطها الدولية في سياق تعميق وتكثيف ظاهرة العولمة,وقد يبدو ذلك,كابوساً مزعجاً ولكننا للأسف أما بنية قابلة للانتفاخ بمكوناتها التي هي خليط غريب كما يوجد فيه ليبرالي صادق ووطني متحمس يوجد إلى جواره مهني بلا عمل ومثقف بلا مشروع ومسيس بلا دور ثم دوائر واسعة من أجيال جديدة مدفوعة للبحث عن فرصة غائبة للوجود والحضور والتأثير.

 

ولذلك فإنني أحد الذين يتصورون أنه لا بديل عن إعادة العمل الأهلي إلى منبته الطبيعي, بأن يكون بالفعل عملاً أهلياً ومتطوعاً ولذلك لا بديل عن آلية مركزية التحكم في صنبور هذا المال الأجنبي, ومن المنبع, لأن هذه الأموال التي تجرى كالمياه من صنابير أجنبية معروفة وبواسطة سماسرة محددين ولأهداف لم تعد تخفى على فطنه أحد ليست مياه ري ولا تنمية, ولكنها في معظمها فضلات مصارف مشبعة بأملاح سامة, ولهذا فإنها في النهاية لن تخضر أرضاً اجتماعية, ولن تروى ظمأ أهلياً ولن عمق مشاركة سياسية ولن تعين بحثا أو علماً, ولن تبنى قواعد مجتمع مدني ذلك أنها مجبولة ككل مياه المصارف على أن تقتل الحرث والنسل إننا نريده مجتمعاً مفتوحاً حقاً ولكننا نرفض أن يصبح مجتمعاً مكشوفاً!.